حامد الضبياني
الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 13:33
المحور:
قضايا ثقافية
ثمة مشهد يتكوّن عند الأفق، لا يُرى بالعين المجردة بقدر ما يُحسّ في نبض الأرض وارتجاف الموج. ليست مجرد سفن، ولا طائرات تذرع السماء، بل هي كوابيس حديدية تُساق بأحلام الطغاة وتغذّيها قلوب لا تعرف السكينة. إن البحر الذي كان مرآة العشّاق وصوت الأمهات صار اليوم ساحةً عمياء تُستعرض فوقها العضلات، كأنما الكون لم يعد يتسع إلا لصراع الحديد.
حاملة الطائرات حين تعبر المتوسط ليست مجرد قطعة عائمة، بل شمس مزيفة تظن أنها تملك الحق في حراسة الجهات الأربع. والمدمرات التي ترافقها، كأنها أنياب ذئبٍ جائع، تسهر لا لتنام المدن بسلام، بل لتبقى على حافة القلق. أما الغواصات الصامتة، فهي أشبه بالأشباح التي تُخفي خلف صمتها سؤالاً أزليًا: هل الموت حين يأتي من الأعماق يطرق الباب، أم يفتح نفسه بقسوة؟..وحين تلتحق حاملات أخرى بالركب، وحين تُحرك الإمبراطوريات قطعها على رقعة المحيطات، يبدو العالم كرقعة شطرنجٍ بلا نهاية، حيث يُضحّى بالجنود كما تُضحّى بالبيادق، وتُدار الحروب من غرف باردة، بعيدة عن صرخات الأطفال ورعشة النساء. ما يطفو على سطح البحر ليس فولاذًا فقط، بل تاريخ طويل من الخوف، وأحلام مشوهة لشعوب تبحث عن الخبز والماء بينما يُبذل الحديد لحراسة أوهام القوة.
والسماء ليست أقل وطأة. الطائرات التي تُحلّق بلمعان أجنحتها كأنها نجوم اصطناعية، ليست سوى غيومٍ معدنية تحمل في أحشائها برقًا مُعدًا لإحراق الأرض. كل تحليقٍ لها، كل ضجيج محركاتها، هو إعلان بأن السلام فكرة مؤجلة، وأن العناق بين الأمم قد أُجّل إلى إشعار آخر.
لكن وسط هذا المشهد الكئيب، تبقى هناك حكمة أزلية تهمس في أعماق التاريخ: لا الأساطيل تبني خلودًا، ولا الطائرات تملك الأفق. البحر يعرف أنه سيبتلع الحديد كما ابتلع أساطيل غابرة، والسماء تعرف أن الطيور الصغيرة، لا الطائرات، هي التي تعيد للإنسانية صوت الفجر.
إن القادم ليس في حركة الأساطيل وحدها، بل في سؤال الفلسفة: إلى أين يبحر الإنسان بكل هذا الحديد؟ أإلى ضفة سلامٍ طال انتظاره، أم إلى هاوية تتسع كلما صمت الضمير؟
في النهاية، ما يبقى ليس وهج الصواريخ، بل ذاكرة الشعوب، وأغنية الجدّات، وصلاة الذين يرفعون أيديهم نحو سماء ترفض أن تُلوثها أجنحة الحديد.
#حامد_الضبياني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟