أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 21:03
المحور:
الادب والفن
أعترف لكم، أيها النبلاء، أنني لم أعرف شيئًا عن لازلو كرازناهوركاي قبل أن تُعلن الأكاديمية السويدية اسمه فائزًا بجائزة نوبل في الأدب لعام 2025. لكن ما إن اقتربت من عالمه حتى شعرت أنني أمام كاتبٍ خرج من الرماد، من تخوم اليأس الإنساني، ليصنع من الخراب فنًّا خالصًا. إن في كتاباته شيئًا يُشبه النبوءة، وفي سيرته ما يشبه الشهادة على قرنٍ كامل من الانكسارات الأوروبية، والبحث المحموم عن معنى في العدم.
⸻
الميلاد والنشأة: بين العزلة والجذور الغامضة
وُلد لازلو كرازناهوركاي في 5 يناير 1954 بمدينة غيولا (Gyula) الواقعة في الجنوب الشرقي من المجر، بالقرب من الحدود الرومانية. نشأ في بيتٍ يحمل صمتًا كثيفًا وميلًا طبيعيًا للعزلة. والده، الذي كان يعمل موظفًا في الدولة، أخفى عن ابنه أصول العائلة اليهودية حتى سن الحادية عشرة، حين قال له في لحظة حاسمة: “نحن من نسلٍ سيُكره إلى الأبد، فاحمل هذا الصمت كوصيّة.”
منذ تلك اللحظة، تشكّلت في وعي لازلو علاقة مُلتبسة بالهوية، لا بوصفها فخرًا، بل كعبءٍ وجودي. كان يدرك أنه ينتمي إلى سلسلةٍ من المنفيين داخل ذواتهم، وأن المجر — بلد الحروب والأنظمة المتعاقبة — ليست سوى مرآةٍ لاضطرابه الداخلي.
تلقى دراسته الثانوية في مدينته، ثم التحق بجامعة سيجد (Szeged University) ليدرس القانون، قبل أن يتحول إلى الأدب المقارن في جامعة بودابست (ELTE). منذ شبابه المبكر، انخرط في قراءة الأدب الروسي والألماني، متأثرًا بدوستويفسكي وكافكا وتوماس برنهارد، وهي القراءات التي ستُشكّل لاحقًا نسيجًا خفيًا في أعماله كلها.
⸻
البدايات الأدبية: كتابة الخراب كخلاص
في مطلع الثمانينيات، بدأ كرازناهوركاي ينشر نصوصًا قصيرة في مجلات أدبية محلية، وكان صوته آنذاك غريبًا عن السياق الأدبي المجري الذي مال إلى الواقعية الاجتماعية أو الرمزية البسيطة. أما هو، فكان يكتب جملًا طويلة تمتدّ كأنفاسٍ متعبة لعالم يحتضر، بلا فواصل تقريبًا، كأن اللغة نفسها تنهار أمام ما تصفه.
عام 1985 صدرت روايته الأولى «ساتانتانغو – رقصة الشيطان»، وكانت بمثابة إعلانٍ عن كاتبٍ مختلف جذريًا. الرواية التي دارت في قريةٍ نائية تعيش انهيارها البطيء بعد سقوط النظام الجماعي الزراعي، لم تكن مجرد حكاية عن مجتمعٍ متروك، بل عن الإنسان المعاصر وقد فقد كل إيمانٍ بالنجاة.
استخدم كرازناهوركاي في هذه الرواية ما أصبح لاحقًا بصمته الخاصة: نصّ متدفّق بلا توقف، ومناخ كابوسي، وأحداث تُراوح بين العبث والرؤيا.
كتب أحد النقاد المجريين آنذاك: “لو أن كافكا عاش في المجر بعد سقوط الشيوعية، لكتب مثل كرازناهوركاي.”
هذه الرواية لم تبقَ حبيسة الورق طويلًا، إذ تحوّلت إلى فيلم سينمائي عام 1994 من إخراج المخرج المجري بيلا تار، الذي وجد في نصوص لازلو مادة سينمائية نادرة. استمرت صداقتهما الفنية لعقود، وقدما معًا أعمالًا مثل «كآبة المقاومة» و«تورينغ هورس – حصان تورينغ»، التي اعتبرها كثيرون من أعظم الأفلام في تاريخ السينما الأوروبية المعاصرة.
⸻
الأصول اليهودية والظل الثقيل للتاريخ
لا يمكن فهم كرازناهوركاي من دون المرور بجذوره اليهودية، التي لم تكن موضوعًا فنيًا مباشرًا في رواياته، لكنها حاضرة بوصفها إحساسًا دائمًا بالتهديد والاضطهاد.
لقد حمل في ذاكرته الجمعية إرث الاضطهاد الأوروبي لليهود، لكنه لم يجعل منه راية أو خطابًا سياسيًا. بل جعل منه نبعًا خفيًا لقلقه الوجودي.
في مقابلةٍ نادرة، قال: “أن تكون يهوديًا في المجر هو أن تفهم أن الخوف لا يحتاج إلى سبب. إنه هواء التاريخ الذي نتنفسه.”
من هنا نفهم أن علاقته باليهودية ثقافية وأخلاقية لا سياسية، ولم يُعرف عنه أبدًا دعمٌ صريحٌ لإسرائيل أو لأي مشروع سياسي. زار القدس مرة واحدة عام 2013 للمشاركة في مهرجان أدبي دولي، وتحدث عن “المدينة التي تشبه رواية بلا نهاية”، لكنه لم يعلّق على الصراع السياسي في المنطقة.
ظل دائمًا ينأى بنفسه عن الاصطفافات، مكتفيًا بالقول: “الفن هو اللغة الوحيدة التي يمكنها قول الحقيقة دون أن تُدين أحدًا.”
⸻
المنفى الداخلي: بين بودابست وبرلين وطوكيو
رغم أنه عاش في المجر معظم حياته، فإن كرازناهوركاي أمضى سنوات طويلة متنقّلًا بين برلين ونيويورك وطوكيو. كان يشعر أنه غريب أينما حلّ، وأن الوطن الحقيقي هو الكتابة.
في اليابان، وجد سكينةً مؤقتة وسط الصمت الشرقي، وكتب هناك بعض مقاطع روايته «الحرب والحرب» التي صدرت عام 1999، وفيها يتأمل مصير كاتبٍ يائس يريد أن يُنشر عمله في الفضاء الرقمي قبل أن يقتل نفسه.
تبدو الرواية وكأنها نبوءة عن نهاية الأدب في زمن التقنية، وعن رغبة الإنسان في الخلود عبر نصٍّ إلكتروني لا يموت.
أما روايته «عودة البارون وينكهيم» التي صدرت عام 2016 فكانت بمثابة خلاصة رؤيته الكونية: عودة رجلٍ عجوز من المنفى إلى بلدةٍ تحولت إلى خراب روحي. عملٌ يمزج بين السخرية المريرة والتأمل الميتافيزيقي في عبث العالم.
⸻
أسلوب الكتابة: اللغة كهاوية
حين تقرأ كرازناهوركاي، تشعر أنك في ممرّ لا نهاية له، حيث الجمل تتلاحق دون توقف، والنص يبدو ككائنٍ حيّ يتنفس ويختنق في آنٍ واحد.
لا يستخدم الفواصل الكلاسيكية، بل يجعل اللغة تجري مثل وعيٍ متوتر، حيث تتقاطع الرؤى والأصوات في دوامة فكرية.
قال عنه المترجم الأمريكي جورج سيرتزيس: “إنه يكتب كأنه يتلقى وحيا إلهياً في ساعة غضب.”
هذه التقنية لم تكن مجرد حيلة شكلية، بل انعكاس لطريقته في رؤية العالم:
فكما أن التاريخ لا يتوقف، ولا يمنحنا لحظة صفاء، كذلك نصّه لا يمنح القارئ راحة. كل شيء متواصل، متشابك، متهاوٍ.
إنه يكتب عن العالم بعد سقوط المعنى، حيث لا يبقى سوى الجمال كمقاومة أخيرة للعدم.
⸻
الفكر والروح في أعماله
يُلاحظ في نصوصه ميلٌ دائم إلى الفلسفة الوجودية، وإلى التأمل في مصير الإنسان الحديث.
في إحدى مقابلاته، قال: “أنا لا أكتب عن الشخصيات، بل عن الوعي نفسه حين يُسحق.”
ربما لهذا يُشبَّه أحيانًا بنيتشه أكثر مما يُشبَّه بالروائيين، إذ يرى أن الكارثة ليست حدثًا خارجيًا، بل حالة وعيٍ جماعية.
وفي رواية «كآبة المقاومة»، يُقدّم مشهدًا مجازيًا مذهلًا: وصول سيركٍ غامض إلى مدينةٍ صغيرة، يصاحبه فيلٌ ضخم ورجلٌ غريب يُدعى الأمير. ما يلبث أن يتحوّل السيرك إلى رمزٍ للسلطة الجديدة، وللفوضى التي تستبدّ بالعالم.
كل ذلك يُقرأ كاستعارةٍ عن انهيار النظام الأخلاقي والسياسي في أوروبا الحديثة، وعن هشاشة الإنسان أمام العنف والغرائز الجماعية.
⸻
العلاقة بالسينما: شراكة الخراب والجمال
كانت علاقة كرازناهوركاي بالمخرج المجري بيلا تار من أهم الثنائيات في الفن الأوروبي الحديث.
وصفه بيلا تار بأنه “كاتب يرى في العالم نفس ما أراه في الكاميرا: الغبار، الانتظار، والعدم”.
تحوّلت رواياته إلى أفلامٍ تمتد لساعات طويلة، بل إن فيلم «ساتانتانغو» يمتد لأكثر من سبع ساعات من اللقطات البطيئة، المطر المستمر، والوجوه الصامتة.
هذا البطء لم يكن عجزًا دراميًا، بل بيانًا فلسفيًا ضد السرعة والعنف البصري للعصر الحديث.
قال كرازناهوركاي في أحد اللقاءات: “الزمن الحقيقي لا يُقاس بالثواني، بل بالمعاناة.”
⸻
نوبل 2025: التكريم المتأخر
في التاسع من أكتوبر 2025، أعلنت الأكاديمية السويدية منح جائزة نوبل في الأدب إلى لازلو كرازناهوركاي، “عن إنتاجه الإبداعي والرؤيوي، الذي في خضمّ الرعب الأبوكاليبتي يعيد التأكيد على قوة الفن.”
كانت تلك اللحظة بمثابة اعترافٍ عالمي بكاتبٍ ظل لعقود يعيش في الهامش، بعيدًا عن الأضواء، غارقًا في كتابة العالم كما لو كان زلزالًا دائمًا.
لم يكن كرازناهوركاي حاضرًا في ستوكهولم لحظة الإعلان؛ كان في بيته الريفي قرب بودابست، حين تلقى الخبر عبر اتصالٍ من الأكاديمية.
قال بعد ساعات في بيانٍ مقتضب:
“لم أكتب لأحصل على جائزة، بل لأُبقي النار مشتعلة في ظلامٍ لا ينتهي.”
وفي المؤتمر الصحفي اللاحق، سُئل عن رأيه في الحروب التي تعصف بالعالم، فاكتفى بالقول:
“ما يحدث في غزة أو في أي مكان آخر ليس سوى تكرارٍ للجنون ذاته، جنون الإنسان حين ينسى أنه فانٍ.”
هذه الجملة الوحيدة كانت ربما أقرب تصريحٍ إنساني له حول المأساة الفلسطينية، تُظهر تعاطفًا كونيًا أكثر منه سياسيًا، وتعكس رؤيته التي ترى في كل حربٍ انكسارًا للروح البشرية، لا انتصارًا لأحد.
⸻
بين الصمت والمجد
الغريب في كرازناهوركاي أنه، رغم كل هذا المجد، ما زال يرفض فكرة “الكاتب العظيم”.
يعيش في بيتٍ صغير، لا يملك حسابًا على الإنترنت، ويقول إنه لا يقرأ ما يُكتب عنه.
حين سأله أحد الصحفيين كيف يرى فوزه بنوبل، أجاب: “الفوز لا يُغيّر شيئًا، الخراب ما زال هنا، والجمال ما زال يحاول النجاة.”
كأن هذه العبارة هي مفتاح شخصيته كلها: التوازن الدقيق بين اليأس والأمل، بين الموت والحياة، بين ما ينهار وما يبقى.
⸻
إرثه الأدبي والإنساني
يمثل كرازناهوركاي اليوم صوتًا فريدًا في الأدب العالمي. ليس لأنه يصف الكارثة، بل لأنه يجعلنا نُدرك أننا نعيشها بالفعل، وأن الأدب هو آخر مساحةٍ للوعي النقي.
لقد أعاد إلى الرواية روحها الأولى: التأمل في مصير الإنسان، لا عبر الحكاية فحسب، بل عبر اللغة ذاتها ككائنٍ يئنّ ويُقاوم.
وقد ألهم أجيالًا من الكتّاب والمخرجين الذين رأوا في أعماله درسًا في بطء الفن في مواجهة سرعة الخراب.
⸻
خاتمة: لازلو كرازناهوركاي… شاهد الخراب الجميل
إن حياة لازلو كرازناهوركاي ليست سيرة كاتبٍ فقط، بل سيرةُ إنسانٍ ظلّ يبحث عن الخلاص في الفن.
من طفولته الخائفة في غيولا، إلى وعيه المبكر بالظلم التاريخي، مرورًا بعزلته الطويلة بين برلين وطوكيو، وصولًا إلى منصة نوبل — لم يبدّل جوهره أبدًا.
كتب كما يعيش: ببطء، بصدق، وبإيمانٍ بأن الكلمة يمكن أن تُنقذ العالم من صمته.
هو، في النهاية، رسول الخراب الجميل: من يرى في الظلمة ضوءًا خافتًا، وفي العدم وعدًا بالجمال.
وفي زمنٍ تزداد فيه الضوضاء، يُذكّرنا كرازناهوركاي أن الكتابة ليست ترفًا، بل فعلُ مقاومةٍ ضد العدم.
⸻
“العالم ينتهي كل يوم، لكن الفن يُعيد خلقه في كل صباح.”
— لازلو كرازناهوركاي
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟