أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - ماذا لو كنت أنا السبب؟














المزيد.....

ماذا لو كنت أنا السبب؟


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 03:01
المحور: الادب والفن
    


لم أفهم إلى اليوم لماذا يغادرني الناس بصمت.
لماذا تُغلق الأبواب خلف صداقاتي كما تُغلق النوافذ بعد عاصفةٍ عابرة.

كان ذلك في أحد صباحات الخريف الباردة، حين وصلتُ إلى ألمانيا لأول مرة، ممتلئًا بالأمل والرهبة. كنت كمن وُلد للتوّ؛ لم أكن قد استوعبت بعد أي شيء عن هذا العالم الجديد، حتى إنني لم أكن أفرّق بين يساري ويميني، ولا بين وجوه الناس وظلالهم.

في تلك الأيام الأولى من دورة اللغة، عندما كانت الكلمات تتساقط من أفواه المعلمين كالأمطار على أرضٍ عطشى لكنها غير قادرة على الامتصاص، شعرت بالضياع.

قررت أن أبحث عن وجهٍ مألوف وسط هذا التيه. كان صديقي القديم "عمر" قد سبقني إلى أوروبا بسنوات، يعيش في بلدٍ مجاور. اتصلت به بعد تردّد، فردّ عليّ بصوته الدافئ الذي كنت أفتقده، وسرعان ما دعاني لزيارته. كنت أحتاج إلى مثل هذه الدعوة، إلى يدٍ تمتدّ لتربطني بحبل أمان وسط غربتي.

وعدته أن أفعل، لكن الواقع لم يكن بهذه البساطة. كانت دورة اللغة تستهلك وقتي وطاقتي، أضف إلى ذلك قلّة المال والخوف من السفر في بلدٍ لم أعتد عليه بعد.
لم أزر عمر. حاولت أن أشرح له، لكن برودة صوته في المكالمة الأخيرة تركتني أشعر بشيءٍ يشبه الانكسار، وانطفأت المكالمة كما ينطفئ عودُ ثقابٍ في الريح. بعد ذلك اختفى من حياتي. لم يعاتبني، ولم يحاول فهمي، فقط اختفى.

ماتت صداقتنا دون سببٍ واضح، كما تموت الزهور بلا ماءٍ ولا وداع.

مضت سنتان.
كنت قد بدأت أعتاد العيش وحيدًا، أقنع نفسي أن الوحدة هي الخيار الأفضل، وأنني أنا من اختارها.

ثم جاء اليوم الذي تلقيت فيه مكالمة من صديق الطفولة "سليم"، الذي لم أسمع عنه منذ سنوات. أخبرني أنه وصل إلى فرنسا، ولم أتمالك نفسي من شدّة الفرح. بكيت كما لم أبكِ منذ وقتٍ طويل. كان ذلك يشبه لقاء الروح بتوأمها.

سارعت وطلبت رقم هاتفه لأتصل به، فأعطاني رقم كابينةٍ عامة في سكنه الطلابي. اتصلت به على الفور، لكن الهاتف رنّ طويلاً دون إجابة. كررت المحاولة مراتٍ ومرات، ثم توقفت.

ذلك الرنين ما زال يتردّد في أذني إلى اليوم، كجرسٍ لم يتوقّف.
ومنذ تلك اللحظة اختفى سليم أيضًا. لا رسالة، لا تفسير، لا شيء سوى الفراغ.
وبقيت أنا وحيدًا مرةً أخرى.

تكرّر الأمر مرّاتٍ كثيرة.
مرةً، دعوت صديقًا إلى عيد ميلادي. بدا سعيدًا بالدعوة، وأكّد لي مجيئه قبل ساعاتٍ من الموعد، لكنه لم يأتِ. ولم أره بعدها قط.

لم يكن الأمر مقتصرًا على عمر وسليم وغيرهما. أصدقائي الذين شاركتهم أحلام المراهقة وجنونها، أخذوا يختفون واحدًا تلو الآخر، كأنهم أوراقٌ خريفية تتساقط مع أول ريح.
حاولت أن أبحث عن السبب، أن أفهم لماذا ينتهي الأمر دائمًا بالوحدة، لكنني لم أجد إجابة.

كنت أنتظر وجوههم كما ينتظر الغريق خشبةَ نجاة، لكنهم جميعًا ابتعدوا بهدوءٍ مؤلم، كمن ينسحب من غرفةٍ مظلمةٍ دون أن يشعل الضوء.

لماذا يحدث هذا؟ هل أكون أنا السبب؟
هل يدفعهم شيءٌ ما في شخصيتي إلى المغادرة؟
لا أعرف إن كنت قد أخطأت في حقهم دون أن أدري.
ربما كنت ثقيلًا على قلوبهم، أو صامتًا أكثر مما ينبغي. وربما لم أكن شيئًا يستحق البقاء أصلًا.

أعيش اليوم وحيدًا في مدينةٍ تعجّ بالناس، كما كنت منذ مراهقتي.
ليس لديّ سوى صمت المساء الذي يملأ غرفتي.
أحيانًا أفكّر أن الوحدة قد تكون لعنةً أو عقوبةً لا نعرف جريمتها، وأحيانًا أظنها هبة.
ففي الوحدة، لا تحتاج إلى تفسير نفسك، ولا إلى تبرير غيابك أو حضورك.
لكن هناك دائمًا ظلٌّ صغيرٌ يتبعني، صوتٌ خافتٌ يسألني:
"ماذا لو كنت أنا السبب؟"



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مزار فاطمة الألماني
- خارج المتاهة
- طقطقة أطباق
- الخراء اللذيذ
- الجمل
- الحزام الأسود في الهندسة
- رجال الدين والفيدرالية
- الشحادة الفيسبوكية
- بين الكبرياء والتحدي
- حنين الروح
- بين لغتين
- حين خانني الصمت
- شريط ذكريات مفقود
- الإبداع والكفاح
- التوازن
- الرجل الذي أخضع الكبرياء
- حديقة التفاهم
- الرواية الأولى
- الطفل الذي لم تحتضنه قريته
- دائرة الزمن


المزيد.....




- هل يمكن فصل -التاريخ- كما جرى عن -التأريخ- كما يُكتب؟ الطيب ...
- لازلو كراسناهوركاي.. الكاتب الذي عبر من الأدب إلى السينما وص ...
- صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت ...
- أسماء أطفال غزة الشهداء تقرأ في سراييفو
- الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي يفوز بجائزة نوبل للأدب
- تامر حسني يعيد رموز المسرح بالذكاء الاصطناعي
- رئيس منظمة الاعلام الاسلامي: الحرب اليوم هي معركة الروايات و ...
- الدكتور حسن وجيه: قراءة العقول بين الأساطير والمخاطر الحقيقي ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...
- مهرجان البحرين السينمائي يكرم منى واصف تقديرا لمسيرتها الفني ...


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - ماذا لو كنت أنا السبب؟