عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 04:58
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
حين خرجت الجماهير السودانية في ديسمبر 2018، لم تكن ترفع شعارات ليبرالية أو إصلاحية، بل عبّرت عن طاقة شعبية هائلة حملت في جوهرها إمكانية التغيير الجذري للنظام الاجتماعي القائم. لقد شهد السودان واحدة من أضخم الحركات الجماهيرية في تاريخه الحديث، حيث اجتاحت موجة عارمة من الاحتجاجات البلاد حاملةً أحلام الملايين في التغيير الجذري [1]. لكن هذه القوة الاجتماعية الهائلة، التي نجحت في إسقاط رأس النظام، تحولت إلى إخفاق مأساوي في تحقيق التحول الثوري المنشود. هذا التناقض الصارخ بين القدرة على الهدم والعجز عن البناء، لا يمكن تفسيره بمنطق الخيانة أو الضعف التكتيكي فحسب، بل هو تعبير عن مأزق نظري عميق في فهم طبيعة الدولة والثورة والصراع الطبقي في التشكيلة الاجتماعية السودانية [2].
والسؤال الجوهري هنا ليس كيف فشلت الثورة سياسيًا، بل لماذا فشلت نظريًا في تحويل قوتها إلى سلطة طبقية جديدة؟ إن هذا هو ما نسميه المأزق النظري للثورة السودانية. المأزق النظري لا يعني نقصًا في الشعارات أو التنظيم، بل غيابًا في الوعي الطبقي القادر على إدراك جوهر الدولة كأداة للسيطرة الطبقية [3].
لقد تجلى هذا المأزق النظري بوضوح في اللحظة التي تحولت فيها الثورة من مواجهة شاملة مع نظام الهيمنة إلى التفاوض على "تسليم سلطة". فالثورة السلمية السودانية، رغم بطولتها، ظلت حبيسة أفقٍ إصلاحي يرى في الدولة جهازًا يمكن "تصحيحه" بدلًا من تحطيمه. هذا الانزياح الثوري لم يكن مجرد خطأ تكتيكي، بل كان انعكاساً لسيطرة الرؤية الإصلاحية التي تتعامل مع أجهزة الدولة البورجوازية كأدوات محايدة قابلة للتطويع [4]. هذا المنظور، كما أشار ماركس، هو تعبير عن وعي برجوازي صغير يسعى إلى التوفيق بين الطبقات بدل الصراع بينها [5].
لقد أُنتجت الثورة ضمن تناقضات مجتمع يعيش تحالفًا بين البرجوازية الطفيلية، ورأس المال العسكري، والبيروقراطية المدنية. هذه القوى شكّلت ما سماه غرامشي "الكتلة التاريخية" المهيمنة، والتي استطاعت احتواء الانتفاضة عبر خطاب "الانتقال الديمقراطي"، الذي قدّم وهم المشاركة بديلًا عن الصراع [6]. وهكذا تحوّلت الثورة إلى مفاوضات بين ممثلي النخب، بينما بقيت الجماهير التي فجّرت الحدث مُقصاة من صناعة القرار.
إن اختزال الصراع إلى ثنائية "عسكري مقابل مدني" هو التعبير الأوضح عن الأزمة النظرية التي أصابت الوعي الثوري. فبدلاً من فهم الدولة كبنية طبقية متجذرة تحتاج إلى تحطيم، تعاملت القيادات السياسية معها ككيان محايد. هذه الثنائية، كما بيّن بولانتزاس، تُخفي التحالف الطبقي الحقيقي القائم بين جناحين من نفس الطبقة المهيمنة: العسكري الطفيلي والمدني الليبرالي [7]. لقد رُفع شعار "المدنية" ليُغطّي واقعًا طبقياً واحدًا، بينما ظلّ جهاز الدولة ذاته قائمًا دون مساس.
لقد غاب عن الوعي الثوري التحليل المادي لطبيعة التشكيلة الاجتماعية السودانية الهجينة، التي تجمع بين بروليتاريا حديثة صغيرة، وبرجوازية طفيلية عسكرية-تجارية، وفلاحين مشتتين، وطبقات وسطى متذبذبة [8]. هذه البنية الطبقية المعقدة أنتجت وعياً ثورياً مشوشاً، عاجزاً عن بلورة مشروع طبقي واضح ومستقل. في هذا الفراغ النظري، استطاعت الخطابات الإثنية والدينية البورجوازية أن تستعيد هيمنتها، محولة الصراع الطبقي إلى نزاعات هوياتية [9].
تاريخيًا، لا يمكن لأي ثورة أن تنتصر دون تحطيم جهاز الدولة القائم. فقد شدد لينين في الدولة والثورة على أن البرجوازية تستطيع أن تتنازل عن السلطة السياسية مؤقتًا، لكنها لا تتنازل عن جهازها الإداري والعسكري [10]، وهذا ما حدث في السودان حين استبدلت الثورة رأس النظام دون أن تمس جسده. فالدولة البيروقراطية العسكرية–المالية بقيت هي الضامن الأساسي لإعادة إنتاج التبعية.
لقد عملت أجهزة الهيمنة - من إعلام وخطاب ديني وأجزاء من منظمات المجتمع المدني - على ترويض الثورة وإفراغها من مضمونها الطبقي. فتحت شعار "المدنية" و"الشراكة"، جرى تحويل الثورة من حركة ضد النظام إلى مطالب بإصلاحات داخل الإطار الاقتصادي-السياسي القائم [11]. هذا التحول لم يكن سوى إعادة إنتاج لهيمنة الطبقة المسيطرة في قالب جديد، حيث حلت لغة "التوافق" و"الشراكة" محل لغة الصراع الطبقي.
الأخطر أن القوى الثورية تبنّت مفهوم "اللاعنف" ليس كتعبير تكتيكي، بل كعقيدة أخلاقية مطلقة. في حين أن الماركسية لا ترفض أو تمجد العنف في ذاته، بل تضعه ضمن سياق الصراع الطبقي كأداة لتحطيم الدولة القديمة وبناء سلطة جديدة. أما "اللاعنف" حين يُرفع في وجه سلطة طبقية مسلحة فهو يتحول إلى أيديولوجيا خضوع، تحيد الجماهير عن طريق الصراع الحقيقي [12].
من جهة أخرى، ساهمت النخب المدنية والثقافية في إعادة صياغة الثورة بلغة ليبرالية توافقية. فبدل أن تُطرح المسألة في إطار الطبقات وعلاقات الإنتاج، جرى اختزالها إلى "إدارة انتقالية" و"توزيع سلطة"، وكأن الأزمة في الأشخاص لا في البنية. هذه اللغة الإصلاحية، كما أوضح لوكاتش، تُحوِّل التاريخ إلى سرد أخلاقي لا إلى حركة مادية للتناقضات [13].
إن بنية الدولة السودانية هي نتاج تشكيلة اجتماعية هجينة: بقايا إقطاع زراعي، رأسمالية طفيلية، ورأس مال عسكري–أمني. في ظل هذه البنية، تتوزع السيطرة بين المدينة والمركز والريف والأطراف وفق علاقات تبعية غير متكافئة [14]. لذا فإن أي ثورة لا تمس هذه العلاقات ستظل عاجزة عن إحداث تحول نوعي، مهما رفعت من شعارات سياسية.
إن جوهر المأزق النظري يتمثل في ثلاث إشكاليات كبرى: أولاً، عدم إدراك أولوية تحطيم جهاز الدولة القمعي القديم، وثانياً، الخلط بين "إسقاط النظام" و"تحطيم دولة النظام"، وثالثاً، عجز القوى الثورية عن بناء أداة بديلة (حزب ثوري) تمتلك نظرية واضحة للسلطة والانتقال [15]. لقد أثبتت التجربة أن الدولة البورجوازية لا يمكن إصلاحها، بل يجب تحطيمها واستبدالها بدولة جديدة تعبر عن مصالح الكادحين [16].
فشل الثورة السلمية، إذًا، لم يكن هزيمة تكتيكية بل مأزقًا في إدراك طبيعة الصراع. لقد جرى التعامل مع الدولة بوصفها أداة يمكن "استردادها" من العسكر، بينما الحقيقة أن الدولة في جوهرها هيمنة طبقية متجسدة. لا يمكن إعادة توجيهها، بل يجب تحطيمها وإعادة بنائها على أساس سلطة الطبقة العاملة.
إن تجاوز المأزق النظري للثورة السودانية يبدأ بإعادة الاعتبار للنظرية الثورية بوصفها شرطًا ماديًا للفعل. فكما قال لينين: "من دون نظرية ثورية، لا حركة ثورية" [17]. المطلوب ليس إحياء نصوص ماركس، بل إعادة توظيفها لفهم واقع التبعية السودانية ضمن النظام الرأسمالي العالمي. فالسودان، كما أشار سمير أمين، يمثل نموذجًا صارخًا لـ"التطور اللامتكافئ" الذي يجعل من الأطراف ساحات دائمة لإعادة إنتاج التبعية [18].
إن تجاوز هذا المأزق النظري يتطلب بناء ماركسية سودانية جديدة، لا تكرر الشعارات الجاهزة، بل تنطلق من تحليل مادي ملموس للواقع السوداني المعقد. ماركسية قادرة على تشريح البنية الطبقية المتشابكة، وفهم آليات الهيمنة النيوليبرالية، وبلورة استراتيجية ثورية تستند إلى قوى الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء [19]. فالثورة ليست مجرد حدث سياسي، بل هي عملية تحطيم شاملة لأجهزة الهيمنة الطبقية القائمة.
إن إدراك هذا الواقع يعني أيضًا أن الثورة القادمة لا يمكن أن تكون سلمية بمعناها الإصلاحي، ولا عفوية بلا قيادة. بل يجب أن تكون منظمة على أساس وعي طبقي متماسك، يربط بين النظرية والممارسة في وحدة جدلية واحدة. فالثورات لا تُصنع بالأخلاق أو بالشعارات، بل بفهم الضرورة التاريخية وتحويلها إلى فعل ثوري واعٍ.
"إن السؤال الرئيسي لكل ثورة هو مسألة سلطة الدولة."
فلاديمير إليتش لينين.
النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:
[1] Karl Marx, The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte, 1852
[2] David Harvey, A Companion to Marx s Capital, 2010
[3] Vladimir Lenin, What Is to Be Done?, 1902
[4] Vladimir Lenin, The State and Revolution, 1917
[5] Karl Marx & Friedrich Engels, Manifesto of the Communist Party, 1848
[6] Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks, 1971
[7] Nicos Poulantzas, State, Power, Socialism, 1978
[8] Tim Niblock, Class and Power in Sudan, 1987
[9] Frantz Fanon, The Wretched of the Earth, 1961
[10] Vladimir Lenin, Collected Works, Vol. 25, 1964
[11] Georg Lukács, History and Class Consciousness, 1971
[12] Rosa Luxemburg, Reform´-or-Revolution, 1900
[13] Georg Lukács, The Young Hegel, 1975
[14] Justin Willis, Politics and Power in the Red Sea Hills, 1995
[15] Leon Trotsky, The Revolution Betrayed, 1937
[16] Nicos Poulantzas, Classes in Contemporary Capitalism, 1975
[17] Vladimir Lenin, Collected Works, Vol. 5, 1961
[18] Samir Amin, Unequal Development, 1976
[19] Karl Marx, Critique of the Gotha Programme, 1875
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟