أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الكلام مهارة والإصغاء فن: بين الفهم والرد















المزيد.....

الكلام مهارة والإصغاء فن: بين الفهم والرد


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 09:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منح الله الإنسان نعمة الكلام ليُخرج ما في داخله من أفكار ومشاعر، ومنحه أيضًا نعمة السمع ليصغي لما يقوله الآخرون. غير أنّ ترتيب هذه النعم يحمل في طياته إشارة بليغة: فقد خلق لنا أذنين اثنتين وفمًا واحدًا، وكأن الرسالة الأزلية تقول لنا إنّ الإصغاء ينبغي أن يكون ضعف الكلام، وأنّ الفهم أسبق من الرد. هذه المقولة القديمة، المنسوبة إلى الفيلسوف الرواقي إبيكتيتوس، صارت أشبه بمرآة نقدية نعيد من خلالها النظر في طريقة تواصلنا مع العالم: هل نصغي فعلًا لكي نفهم، أم أننا نستمع فقط لنُعِدَّ ردّنا القادم؟

في زمنٍ يتسابق فيه الناس على امتلاك المنابر والتعبير والكتابة والنشر الفوري عبر الوسائط الحديثة، تراجع فن الإصغاء حتى كاد أن يغدو عملة نادرة. فالضجيج اللفظي يغمر حياتنا اليومية من الاجتماعات الرسمية إلى الأحاديث العائلية، ومن الخطب السياسية إلى النقاشات العابرة في وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا يتضح التناقض العميق: نحن نتكلم أكثر من أي وقت مضى، لكننا نصغي أقل من أي وقت مضى.

الإصغاء ليس ضعفًا ولا سلبية، بل هو مهارة وفن في آنٍ معًا. إنه المهارة التي تمكِّننا من التقاط ما وراء الكلمات، والفن الذي يجعلنا نحترم الآخر ونترك له المساحة ليكشف عن ذاته. وكما أنّ البلاغة هي فن القول، فإن الإصغاء هو بلاغة الصمت. والمجتمعات التي تعلّمت كيف تُصغي لبعضها هي نفسها التي نجحت في بناء جسور التفاهم وحماية نسيجها الإنساني من التصدع.

في هذا المقال، سنحاول أن نغوص في معنى الكلام والإصغاء، وأن نكشف الفرق بين الاستماع السطحي والإصغاء العميق، ثم نتوقف عند خطر الإصغاء من أجل الرد لا من أجل الفهم. بعد ذلك سنتناول القواعد السلوكية للإصغاء في ميادين العمل والسياسة والعلاقات الإنسانية، مع استحضار أمثلة واقتباسات تثري الصورة وتمنحها بعدًا ثقافيًا وفلسفيًا.

————
الكلام والإصغاء — المفهوم والفرق

الكلام: قوة التعبير

الكلام هو الوسيلة الأولى التي عرفها الإنسان للتعبير عن نفسه، وهو أداة صياغة المعنى ومجال اختبار الفكر. منذ أن تعلّم الإنسان أن ينطق أولى كلماته، صار الكلام امتدادًا لهويته، وسلاحًا يُستخدم للتأثير والإقناع. غير أنّ قوة الكلام قد تتحوّل إلى نقمة إذا فقد الإصغاء المقابل. فالخطب الرنانة التي لا تجد آذانًا واعية تتحول إلى أصداء جوفاء، تمامًا كما تفقد الألحان قيمتها إن لم تجد من يلتقط نغمتها.

الكلام في ذاته لا يضمن الفهم، بل قد يزيد من سوء الفهم إذا قُدّم بطريقة عشوائية أو بغياب الإصغاء المتبادل. لذا قيل في التراث العربي: “إذا تمّ العقل نقص الكلام”، في إشارة إلى أنّ الحكمة ليست في كثرة العبارات، بل في اختيار اللحظة المناسبة للكلمة وتقديمها ضمن سياق يسمح ببلوغ مقصدها.

الاستماع والإصغاء: بين الحواس والوجدان

يخلط الكثيرون بين الاستماع والإصغاء، مع أنّ الفارق بينهما جوهري. فالاستماع عملية حسية، أشبه باستقبال الأذن للموجات الصوتية. أما الإصغاء فهو فعل مركّب، يُشرك العقل والقلب والذاكرة معًا. الإصغاء يعني أن تنتبه ليس فقط لما يُقال، بل لكيفية قوله، وللصمت الذي يحيط به، وللنبرة التي تحمله.

قد تستمع إلى خطيب سياسي أو إلى زميل في العمل أو إلى صديق مقرّب، لكنك لن تصغي حقًا إلا إذا وضعت نفسك في مكانه للحظة، وتساءلت: ماذا يريد أن يقول؟ ماذا يخفي صوته من قلق أو رغبة أو ألم؟ هنا يتحول الإصغاء إلى مشاركة وجدانية لا تقل قيمة عن الكلام نفسه.

الإصغاء كفن منسي

في المجتمعات التي تُكافئ المتحدث المفوّه وتمنحه المنابر، غالبًا ما يُهمَّش الإصغاء باعتباره موقفًا سلبيًا أو انسحابًا من دائرة الفعل. لكن الحقيقة أن الإصغاء هو الذي يمنح الكلام قيمته. فبدون الإصغاء، يبقى الكلام معلقًا في الهواء. الإصغاء فنّ لأنه يحتاج إلى حساسية عالية، وضبط للنفس، وصبر على التفاصيل الصغيرة. وربما لهذا السبب ندر وجوده: لأنه أصعب من الكلام.
الإصغاء من أجل الرد لا من أجل الفهم

بين التهيؤ للرد والتهيؤ للفهم

أحد أكبر أمراض التواصل الإنساني أن ينشغل المستمع بتحضير ردّه بدل أن يترك المجال لفهم الرسالة التي يتلقاها. في الاجتماعات المهنية مثلًا، ترى الموظف يهز رأسه بينما عقله منشغل بصياغة جملة لامعة سيطلقها حين يحين دوره، غير آبه بما يقوله المتحدث. وفي السياسة، يتقمّص الخطيب شخصية المصغي حين يجلس ليستمع إلى معارضيه، لكنه في الحقيقة يُحصي الكلمات لا ليُدرك المعنى، بل ليجد فيها ثغرة يهاجم بها.

هذا النمط من الإصغاء ليس إلا شكلًا من أشكال الحوار العقيم، حيث يتحوّل التواصل إلى مباراة في تسجيل النقاط لا إلى جسر للتفاهم. وقد وصف الفيلسوف ستيفن كوفي هذا المرض حين قال: «أغلب الناس لا يستمعون بنيّة الفهم، بل بنيّة الرد». وهنا تكمن الخطورة، لأن الإصغاء يصبح أداة دفاع أو هجوم، لا وسيلة للتقارب.

الإصغاء كحضور كامل

الإصغاء الحقيقي يبدأ من لحظة إدراك أن الآخر ليس خصمًا بل شريكًا في بناء المعنى. هذا الحضور الكامل يقتضي أن يعلّق المرء أحكامه المسبقة، وأن يترك مساحة للدهشة. فالمستمع الواعي يعرف أن ما يُقال قد يحمل بُعدًا لم يفكر فيه من قبل، وأن الإصغاء قد يفتح بابًا للفهم أوسع من كل الردود الجاهزة.

في علم النفس العلاجي، يعتمد الأطباء على الإصغاء الفعّال بوصفه أداة علاجية. المريض لا يبحث عن إجابات جاهزة بقدر ما يبحث عن أذن تمنحه الشرعية ليحكي. وقد أظهرت الدراسات أنّ لحظة الإنصات الصادق تُحدث تأثيرًا أكبر من أي نصيحة، لأن المريض يدرك أنه مفهوم، وأن معاناته مسموعة.

قواعد سلوكية للإصغاء

حتى يصبح الإصغاء مهارة يمكن التدريب عليها، لا بد من تحويله إلى قواعد سلوكية واضحة تُمارس في العمل والسياسة والعلاقات الاجتماعية. هذه القواعد ليست قوانين جامدة، بل ممارسات حيّة تُجسّد قيم الاحترام والتعاطف.
1. إتاحة المساحة للمتحدث
لا يقاطع المصغي المتحدث، حتى لو كان يملك ردًا حاضرًا. المقاطعة تكسر تيار المعنى وتحوّل الحوار إلى معركة سيطرة.
2. إظهار إشارات الاهتمام
الإصغاء لا يعني الصمت المطلق؛ بل يتطلب إشارات جسدية مثل النظر في العين، أو إيماءة خفيفة بالرأس، أو تعابير وجه صادقة تؤكد التفاعل.
3. التلخيص للتأكيد
من أفضل طرق الإصغاء أن يُعيد المستمع صياغة ما فهمه بكلمات قليلة، كأن يقول: «إذن قصدك أن…». هذا التلخيص يحمي المعنى من التشويه، ويُشعر المتحدث بأنه مسموع.
4. تعليق الحكم
الإصغاء لا يعني الاتفاق التام، لكنه يعني تعليق الحكم حتى نهاية الحديث. كثير من النزاعات تتأجج لأن الطرف الآخر يصدر حكمًا مبكرًا قبل أن يكتمل الطرح.
5. تقدير الصمت
الصمت جزء من الإصغاء. أحيانًا يحتاج المتحدث إلى لحظة صمت ليبحث عن كلماته، والمستمع الواعي يعرف أن يمنحه هذه المساحة.

الإصغاء في العمل

في بيئة العمل، يُنظر إلى الإصغاء كأداة قيادية. المدير الذي ينصت لموظفيه يُنتج ولاءً حقيقيًا، لأنه يمنح كل فرد شعورًا بقيمته. على العكس، المدير الذي يقاطع ويستهزئ أو يفرض كلمته يُحوّل الحوار إلى واجب ثقيل، فيختفي الإبداع وتتحول الاجتماعات إلى طقوس فارغة. لقد أثبتت تجارب شركات كبرى أنّ اجتماعات العصف الذهني تنجح فقط حين تُدار بروح الإصغاء لا بروح الاستعراض.

الإصغاء في السياسة

أما في السياسة، فإن الإصغاء ليس مجاملة بل ضرورة استراتيجية. فالمفاوض الناجح هو الذي يُصغي لا ليُسكت خصمه، بل ليكتشف ما وراء كلماته من مصالح ومخاوف. ومن الأمثلة التاريخية أن الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن كان يستقبل المعارضين في مكتبه ويترك لهم المساحة الكاملة ليُسهبوا، وكان يدوّن ملاحظات صغيرة لا ليردّ مباشرة، بل ليفهم من أين ينطلقون. هذه القدرة على الإصغاء مكّنته من نسج تحالفات معقدة وحماية بلاده من الانقسام.

الإصغاء كتعبير عن التعاطف

في العلاقات الإنسانية، الإصغاء هو أعلى درجات التعاطف. أن تصغي لشخص يعني أنك تعترف بوجوده وبمعاناته. ربما لا تملك حلًا لمشكلته، لكنك تُشعره بأنه ليس وحيدًا. في هذا السياق يقول الشاعر جلال الدين الرومي: «استمع بقلبك، فالقلب يعرف كل شيء». هذا البعد الروحي يجعل الإصغاء أكثر من مهارة؛ إنه فعل محبة.
المهن التي تقوم على فن الكلام والإصغاء

ليس الإصغاء والكلام مجرّد مهارتين شخصيتين، بل هما في صميم عدد من المهن التي لا تقوم إلا بهما. فالمجتمعات الحديثة التي تُعلي من شأن هذه المهارات، إنما تعترف ضمناً بأن التوازن بين الكلمة والإنصات ليس رفاهية، بل ضرورة مهنية وأخلاقية.

الطب والعلاج النفسي

في عالم الطب، يظن البعض أن النجاح مرهون بالتقنيات الحديثة والتجهيزات المتطورة، لكن الحقيقة أن الإصغاء الدقيق لشكوى المريض هو نصف العلاج. فكم من مريض أُسيء تشخيصه لأن الطبيب لم يمنحه الوقت الكافي ليصف ألمه. أما في مجال العلاج النفسي، فالإصغاء هو أساس العملية كلها؛ فالمعالج يُنصت لطبقات الصوت، وللترددات التي تخفيها الكلمات، وللصمت الذي يصرخ بما لا يُقال. الكلمة العلاجية تأتي لاحقاً، لكنها تُبنى على أرضية من الإصغاء الصادق.

القضاء والمحاماة

القضاء ساحة يتقاطع فيها الكلام والإصغاء بأعلى درجاتهما. فالمحامي الماهر لا يمكنه أن يُدافع عن موكله ببلاغة إن لم يُصغِ أولاً لتفاصيل القصة. كما أن القاضي، وهو يجلس في مكانه ليحكم بين الناس، يحتاج إلى الإصغاء العميق لكل طرف قبل أن يُصدر كلمته الفصل. هنا يتجلى المعنى الأخلاقي للإصغاء: أن تسمع الجميع بالعدل، ثم تتكلم بالكلمة التي تقيم الميزان.

التعليم والتدريب

المعلم الناجح ليس مَن يُتقن الإلقاء فحسب، بل من يُصغي لأسئلة طلابه، لارتباكهم حين لا يفهمون، ولشغفهم حين تلمع أعينهم بفكرة جديدة. فالتعليم رحلة تواصل متبادل، حيث الكلام يزرع والمعرفة تُسقى بالإصغاء. كذلك المدربون في المهن الحديثة يعتمدون على الإصغاء لاحتياجات المتدرّبين، ثم يصوغون كلامًا تحفيزيًا يعيد توجيه المسار.

الإعلام والصحافة

المذيع أو الصحفي ينجح فقط حين يجمع بين الإصغاء والكلمة. الصحفي الذي لا يُصغي لقصص الناس لن يجد مادة إنسانية صادقة، والمذيع الذي لا ينصت لضيوفه سيفقد قدرته على إدارة الحوار. في كل مقابلة ناجحة، يظهر الإصغاء أولاً، ثم تأتي الكلمة الحادة أو الذكية لتُسلط الضوء على ما قيل وما لم يُقل.

السياسة والدبلوماسية

الدبلوماسية مدرسة الإصغاء. فالمفاوض الذي ينشغل بالكلام وحده يخسر المعركة، بينما من يُصغي باهتمام يلتقط الخيوط الخفية التي تصنع الاتفاق. والسياسي الذي لا يُصغي لشعبه سرعان ما يجد نفسه معزولًا مهما علت خطاباته. الإصغاء هنا ليس مجرد فضيلة، بل ضرورة بقاء.

العمل الاجتماعي والإرشاد

في مهن العمل الاجتماعي والإرشاد الأسري، الإصغاء هو البوابة التي تمنح الناس الثقة ليكشفوا آلامهم. كلمة واحدة تُقال في غير موضعها قد تُغلق قلبًا إلى الأبد، أما الإصغاء العميق فيفتح مجالًا للحوار والشفاء. العامل الاجتماعي الذي يُنصت يتعلّم أنّ الكلمة التي تأتي بعد الإصغاء تحمل وزنًا أكبر من أي خطاب طويل.

هكذا يثبت التاريخ والواقع أن المهن التي تغيّر حياة الناس وتُسهم في استقرار المجتمعات هي المهن التي تقوم على معادلة ذهبية: كلمة صادقة تخرج في وقتها، وإصغاء صادق يسبقها ويمهّد لها.
الإصغاء كجسر للتواصل الثقافي والحضاري

الإصغاء في جذور الحضارات

من يتأمل مسيرة الحضارات يكتشف أنّ الإصغاء كان دائمًا في قلب التجربة الإنسانية. ففي الصين القديمة، وضعت تعاليم كونفوشيوس أسسًا أخلاقية تؤكد أنّ الحكيم يُصغي قبل أن يحكم. أما في الثقافة العربية الإسلامية، فقد ارتبطت المجالس العلمية بقدرة الطالب على الإصغاء للشيخ أو العالم، وكان يُقال: «العلم صيد، والكتابة قيد، وأذن واعية تحفظه». حتى في التراث اليوناني، كان سقراط يحاور تلامذته أكثر مما يُملي عليهم، معتمدًا على الإصغاء العميق لاستخراج الحكمة الكامنة في نفوسهم.

هذه الأمثلة تدل على أنّ الحضارات لم تُبنَ على الكلام وحده، بل على الحوار، والحوار لا يكتمل إلا بإصغاء متبادل. وحين يغيب الإصغاء، يظهر الصراع، كما حدث في لحظات انهيار إمبراطوريات عظيمة حين عجزت نخبها عن سماع أصوات الناس.

الإصغاء في الأدب والفن

الأدب بدوره يعكس قيمة الإصغاء. الروائي الروسي دوستويفسكي مثلاً، كان يبرع في تصوير شخصيات تجلس مطولًا لتصغي إلى صرخات الآخرين، ليكشف لنا أنّ الإصغاء قد يكون أداة لاكتشاف الذات. وفي الشعر العربي، نجد المتنبي يقول: «إذا قلتُ مُحْتَاجًا إلى اللطف لم تجد / قليلًا من اللطف المُبذَّل في سمعي». وكأنّه يُذكّرنا بأن السمع نفسه قد يكون هدية تُمنَح.

أما الموسيقى فهي الإصغاء في أنقى صوره؛ فالمستمع الجيد للمقطوعة لا يكتفي بتلقي الأصوات، بل يغمر نفسه في عالم الألحان ليستوعب المشاعر التي لا تُقال بالكلمات. وهكذا يصبح الإصغاء فعل إبداع، إذ يتشارك المستمع مع الفنان في إكمال التجربة الفنية.

الإصغاء والاختلاف الثقافي

الإصغاء أيضًا جسر يربط بين الثقافات المتنوعة. في عالمنا المعاصر، حيث تتقاطع الهويات وتتصادم أحيانًا، يصبح الإصغاء شرطًا للسلام. فالمجتمعات التي لا تُصغي لمهاجريها أو أقلياتها تُنتج التوتر والانعزال، بينما تلك التي تُصغي وتمنح الاعتراف تُنتج التمازج والإبداع.

تجربة جنوب أفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري مثال واضح. فقد أسس نيلسون مانديلا ولجنة الحقيقة والمصالحة تجربة تقوم على الإصغاء لضحايا الماضي وجلاديه على حد سواء. هذا الإصغاء لم يلغِ الجراح، لكنه فتح الباب لمصالحة وطنية قلّ نظيرها، وأثبت أن الإصغاء أداة سياسية لبناء مستقبل مشترك.

الإصغاء في زمن التكنولوجيا

التكنولوجيا الحديثة، رغم أنها وسّعت دوائر الكلام، إلا أنها جعلت الإصغاء أصعب. في وسائل التواصل الاجتماعي، نرى آلاف التغريدات والتعليقات، لكننا نادراً ما نجد من يتوقف ليستوعب ما وراء الكلمات. الكل في سباق الردود الفورية. ومع ذلك، يمكن للتكنولوجيا أن تصبح أداة إصغاء إذا استُخدمت بوعي: منصات الحوار الهادئ، والمجموعات الثقافية، وحتى بعض البودكاستات التي تُبنى على الإصغاء العميق للمحاورين، كلها تعكس أنّ الإصغاء ما زال ممكنًا.

الإصغاء والإنسانية المشتركة

الإصغاء في النهاية ليس مهارة تقنية فحسب، بل هو اعتراف بالإنسانية المشتركة. حين نصغي إلى الآخر المختلف عنا في الدين أو اللون أو اللغة، نحن نمارس فعل اعتراف بأنه إنسان مثلنا، له مخاوفه وأحلامه. وهنا يتجاوز الإصغاء وظيفته التواصلية ليغدو ممارسة أخلاقية وروحية. يقول الكاتب الأمريكي رالف والدو إمرسون: «السرّ الأكبر للتواصل هو الإصغاء». بهذه العبارة الموجزة، يلخص أنّ الإصغاء ليس مجرّد وسيلة، بل هو قلب كل علاقة إنسانية ناجحة.
بلاغة الصمت وكلمة الحق

لقد منحنا الله أذنين وفمًا واحدًا، وكأن في هذا التوزيع البسيط حكمة عميقة: أن نصغي ضعف ما نتكلم، وأن نبحث عن الفهم قبل أن نُسرع بالرد. إنّ مهارة الكلام قد تفتح الأبواب، لكن فن الإصغاء هو الذي يُبقيها مفتوحة. فالكلمة بلا إصغاء تذبل، والإصغاء بلا كلمة يتلاشى، لكن حين يجتمعان يتكوّن جسر إنساني لا ينقطع.

في حياتنا اليومية، سواء في قاعات الاجتماعات أو في المنابر السياسية أو في جلسات العائلة، نحن بحاجة إلى استعادة قيمة الإصغاء. لا الإصغاء الذي يُخفي نية الرد السريع أو المقاطعة، بل الإصغاء الذي يمنح الآخر فرصة أن يُفصح عن ذاته. عندها فقط يتحول الكلام إلى معنى، ويتحوّل الحوار إلى بناء مشترك.

الإصغاء هو فعل أخلاقي بقدر ما هو مهارة. إنه تعبير عن التعاطف والاعتراف بإنسانية الآخر. وحين نصغي إلى المختلفين عنا، فإننا نوسّع حدود وعينا ونفتح نوافذ جديدة على العالم. وفي زمن الضجيج الرقمي وتشتت الانتباه، تصبح ممارسة الإصغاء مقاومة صامتة ضد التسرع والتفاهة.

إنّ المجتمعات التي تُقدّر فن الإصغاء ستنجح في تخفيف حدة الصراعات، لأنها تدرك أنّ وراء كل كلمة قصة، ووراء كل قصة قلب يبحث عن فهم. وحين يتعلم الأفراد أن يُوازنوا بين قوة الكلمة وبلاغة الصمت، يصبح التواصل الإنساني أقرب إلى الحكمة منه إلى الصخب.

لذلك، فإن دعوتنا في هذا المقال ليست إلى تقليل الكلام، بل إلى تعظيم الإصغاء. فالكلام فن البلاغة، لكن الإصغاء هو فن النجاة من سوء الفهم، وفن بناء الجسور بين العقول والقلوب. وكما قال الرومي: «حين تصغي، تنفتح أبواب لم تكن تعرف بوجودها».

فلنجعل الإصغاء عادة يومية، لا مجرد شعار. لنصغِ إلى أبنائنا بصدق، إلى شركائنا في العمل، إلى جيراننا، إلى المختلفين عنا. حينها فقط يمكن أن تتحقق مقولة الحكيم: إنّ الأذنين ليستا زينة في الوجه، بل وسيلتان لإنقاذ العالم من الصمم الأخلاقي والفكري.



المصادر:

1. Epictetus, Discourses.
2. Stephen R. Covey, The 7 Habits of Highly Effective People.
3. Ernest Hemingway, By-Line: Ernest Hemingway.
4. Sententiae Antiquae – We Have Two Ears, One Mouth and Many More A--script--ions (2020).
5. Nord Anglia Education – We have two ears and one mouth so we can listen twice as much as we speak (2022).



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفيل القابع في الحفرة بين الأزرق والأحمر
- التهذيب مرآة الحضارة عبر ثقافات الأمم.
- ومضات من فن الرسام البحريني علي الموسوي
- قواعد التوفيق الخمسة عشر: طريقك نحو التميز والتفوق
- ومضات من حياة وأدب إدوارد مورغان فورستر
- مهارة التفاوض: سلوك يومي في الحياة لا ساحة معركة حتمية
- سور الصين العظيم: عندما سقط الجدار من الداخل
- التركي الذي ركب صاروخاً ليتحدث مع المسيح عيسى عليه السلام
- كيف أتصالح مع الجانب المظلم داخلي وأحب ذاتي بصدق؟
- النور الخفي يشع في روح الإنسان… لكن البعض لا يرى سوى العتمة
- حكاية الثعلب الماكر والمزرعة الواسعة
- الذكاء العاطفي وإدارة الأولويات: عندما تقود المشاعر قراراتنا
- غياب الفهم المتبادل: سجن للروح أم حرية في ظل التواصل الإنسان ...
- تركيا الحديثة بين الحقائق والمزايدات: كمال أتاتورك وعصمت إين ...
- توحش الحليف وغدر الصديق: كيف خانت الولايات المتحدة قطر مرتين
- التوقعات التي تحمي النوايا الطيبة من الصدمات
- الرضا الذاتي: السيادة على النفس ومعنى الحرية الداخلية
- حين تكشفنا الكلمات… من مزحة مارك توين إلى ثعبان الاجتماعات
- راسبوتين: أسطورة راهب أو مشعوذ يتراقص فوق حافة عرش يترنّح؟
- ومضات من حياة تولستوي


المزيد.....




- الحكومة السورية تصدر بيانا عن -هتافات مسيئة لمصر ترددت خلال ...
- ترامب: لا أحد يعلم ما يخبئه المستقبل للفلسطينيين.. وإيران ست ...
- ترامب يعلن عن خطة لإنشاء -مجلس السلام-.. شاهد كيف وصفه ومن س ...
- إنهاء حرب غزة والسلام الأبدي والشرق الأوسط الجديد والاتفاقيا ...
- هل يستنزف أصدقاؤك طاقتك؟ ثلاث طرق للتعامل مع الأشخاص السلبيي ...
- ترامب ونتنياهو يتفقان على خطة لإنهاء الحرب في غزة وينتظران م ...
- كوريا الشمالية: لن نتخلى أبدا عن ترسانتنا النووية
- إصابة شخصين جراء هجوم على سفينة شحن قرب عدن
- سيلفيا ساليس من رمي المطرقة إلى عمدة جنوة إلى غزة
- ميديا بارت: جولة مغن مؤيد لحرب إبادة غزة تثير جدلا في أوروبا ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الكلام مهارة والإصغاء فن: بين الفهم والرد