عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8478 - 2025 / 9 / 27 - 02:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمثل هذه السلسلة محاولة لقراءة الأزمة السودانية عبر منهجية التحليل الطبقي الجذري، ساعيةً لتفسير تعقيدات الواقع السوداني من خلال تشريح البنى الاقتصادية-الاجتماعية التي شكلت تاريخ البلاد. لقد انتقلنا في رحلة تحليلية من التشريح التاريخي لجذور الأزمة، مروراً بتحليل تشكلات النظام الطفيلي وتجلياته المعاصرة، وصولاً إلى مقاربة سبل الخلاص الثوري. هذه الرحلة أكدت أن الأزمة السودانية ليست محض صراع على السلطة، بل هي تعبير عن أزمة بنيوية لنظام رأسمالي طفيلي تابع، تجسد في تحالف عضوي بين العسكر والإسلام السياسي والطائفية [1].
من التشخيص إلى التصور المستقبلي، تكشف خلاصات السلسلة أن النظام السوداني قام على ثلاث دعامات متكاملة: عسكرة الاقتصاد عبر تحويل المؤسسة العسكرية إلى طبقة طفيلية، وتطييف السياسة عبر استغلال الهويات ما قبل الحديثة، وأخيرةً أسلمة الدولة كغطاء أيديولوجي لنهب المال العام. هذا الثالوث الطفيلي أنتج دولة الريع التي تقوم على النهب المنهجي بدلاً من الإنتاج، وعلى القمع بدلاً من الشرعية [2]. وقد برهنت ثورة ديسمبر أن هذه التناقضات الطبقية بلغت مستوىً لم يعد معه الإصلاح الجزئي ممكناً، إذ أن النظام بأكمله أصبح عقبة أمام تلبية أبسط متطلبات الحياة الكريمة.
وإذا انتقلنا من التحليل إلى التطبيق، يمكن تصور سودان المستقبل الذي يحقق المشروع الثوري من خلال تحولات ملموسة: سياسياً، نظام المجالس الشعبية الذي يحل محل البرلمانات التقليدية، حيث تدار الشؤون المحلية عبر جمعيات عمومية دورية تستلهم تجربة روج آفا في الإدارة الذاتية الديمقراطية [3]. اقتصادياً، تحويل الشركات الطفيلية إلى تعاونيات إنتاجية تديرها مجالس عمالية، مع إطلاق برنامج وطني لإعادة توزيع الأراضي لصالح الفلاحين يستفيد من دروس الإصلاح الزراعي في بوليفيا وفنزويلا [4]. اجتماعياً، نظام تعليمي وصحي مجاني شامل، يحل محل الخدمات القائمة على الربح، مع ضمان تمثيل نوعي للنساء والشباب في كل مستويات اتخاذ القرار. ولكي تتحول هذه الرؤى المستقبلية إلى واقع ملموس، يجب الانتقال من تصور المشروع إلى أدوات تنفيذ عملية تدعمه.
ولتحقيق هذا التصور المستقبلي، لا بد من الانتقال إلى آليات تنفيذية عملية تتجلى في الممارسات اليومية للجماهير التي أبدعت أشكالاً تنظيمية بديلة. ففي لجان المقاومة بالأحياء، ومجالس إدارة الموارد المحلية، وشبكات التضامن النسائي، وشبكات الفلاحين للدفاع عن الأرض، نرى أجنة لسلطة شعبية بديلة [5]. هذه التشكيلات لم تكن ردود فعل عشوائية، بل كانت تعبيراً عن قدرة الجماهير على خلق بدائل عملية لإدارة الحياة اليومية، متجاوزةً عجز وفشل الدولة الطفيلية. لقد أثبتت هذه التجارب أن البروليتاريا والفلاحين الفقراء والبرجوازية الصغيرة الثورية يمتلكون القدرة على قيادة عملية التغيير، مستفيدين من الدروس المريرة لخيانات النخب البرجوازية المتعاقبة.
ويستلزم الانتقال إلى التنفيذ تطوير أدوات عملية تشمل برامج التثقيف السياسي عبر مدارس الشعب المسائية، ونظام المحاكم الشعبية المنتخبة، وآليات المراجعة الديمقراطية للمسؤولين. كما يشمل ذلك تأسيس صناديق التضامن الاجتماعي ذاتية الإدارة، وبرامج الإصلاح الزراعي التشاركي، وأنظمة الرقابة العمالية على المؤسسات المنتجة [6]. هذه الآليات المترابطة تعزز القدرة التنظيمية للجماهير من خلال ربط التثقيف بالممارسة العملية، والتمويل الذاتي بالمساءلة المجتمعية، والإنتاج بالرقابة الشعبية. وتلعب النساء والشباب دوراً محورياً في هذه الآليات، حيث تشكل قيادتهن الطبيعية في الحركات الاجتماعية ضمانة لاستمرارية المشروع الثوري وشموليته.
ويقتضي المشروع الثوري الانتقال من المحلي إلى العالمي عبر بناء دولة الديمقراطية الشعبية القائمة على سلطة المجالس المحلية والقطاعية، حيث تتحول السيادة من النخب الطفيلية إلى المنتجين الفعليين للثروة. اقتصادياً، يعني ذلك تأميم ممتلكات الطفيليين وتحويلها إلى ملكية اجتماعية، وبناء اقتصاد تحرري قائم على التخطيط الديمقراطي الذي يلبي احتياجات الجماهير بدلاً من تعظيم أرباح فئة قليلة. اجتماعياً، يتطلب المشروع الثوري تفكيك نظام الطائفية والتمييز، وإقامة مجتمع المواطنة المتساوية الذي يحترم التنوع ضمن إطار الوحدة الطبقية [7]. ثقافياً، يعني إشاعة ثقافة تحررية تقطع مع خطاب الهيمنة الطفيلية وتعيد إنتاج قيم التضامن والعدالة.
ولا ينفصل المشروع السوداني عن النضال الأممي، حيث يستفيد من تجارب عالمية عديدة، كتجربة مجالس العمال في الثورة الإسبانية 1936، ونظام البلديات في روج آفا، وتجارب التحرر الزراعي في أمريكا اللاتينية [8]. هذا التضامن الأممي ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة عملية في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي الذي يدعم الأنظمة الطفيلية. فكما أن الأزمة السودانية جزء من أزمة الرأسمالية العالمية، فإن حلها مرتبط بالنضال الأممي ضد هذه المنظومة.
وتعتمد آليات الانتقال الثوري على بناء أداة ثورية قادرة على قيادة معركة التفكيك والبناء بشكل متزامن. فتفكيك الدولة الطفيلية لا ينفصل عن بناء مؤسسات السلطة الشعبية البديلة، كما أن مواجهة آلة القمع الطفيلية يجب أن ترتبط بتعزيز قدرات الدفاع الذاتي للجماهير. في هذه المعركة، يصبح تحالف العمال والفلاحين الفقراء والبرجوازية الصغيرة الثورية هو القاعدة الطبقية للثورة، مع العمل على تحييد الفئات الوسطى وكسبها إلى جانب المشروع الثوري.
ويبقى التغيير الحقيقي رهناً بالمشاركة الجماهيرية المستمرة وتراكم الخبرات الميدانية، حيث أن التجارب العملية اليومية في إدارة الموارد وتنظيم الحياة تشكل المدرسة الحقيقية لبناء الوعي الثوري. فالنظرية تظل ناقصة دون ممارسة، والمشروع الثوري يكتسب شرعيته من مشاركة الجماهير الواسعة فيه.
إن البديل الثوري ليس حلماً طوباوياً، بل هو ضرورة تاريخية تفرضها حدة التناقضات التي بلغها النظام السوداني. فالتجربة أثبتت استحالة إصلاح نظام يقوم على النهب المنهجي، كما أن محاولات الترقيع الديمقراطي الليبرالي لم تفض إلا إلى إعادة إنتاج الأزمة بأشكال جديدة. مصير الثورة السودانية يرتبط عضوياً بالنضال الأممي ضد النظام الرأسمالي العالمي، فتحرر الشعب السوداني جزء لا يتجزأ من تحرر جميع الشعوب من نير الاستغلال.
"ليس مهمتنا تفسير العالم فحسب، بل تغييره"
كارل ماركس.
لقد حاولت هذه السلسلة المساهمة في تفسير الأزمة السودانية، لكن المهمة الأكبر تبقى ملقاة على عاتق القوى الثورية التي تواصل النضال يومياً لتحويل هذا التفسير إلى واقع ملموس. ففي مخيمات النازحين، وفي أحياء المقاومة، وفي حقول الفلاحين، تتراكم يومياً الدروس التي ستصنع مستقبل السودان الجديد.
بذا تنتهي هذه السلسلة، ونلتقي في سلسلة جديدة.
النضال مستمر،،
المراجع:
[1] Mamdani, M. (2018). Citizen and Subject: Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism. Princeton University Press.
[2] Johnson, D. H. (2003). The Root Causes of Sudan s Civil Wars. Indiana University Press.
[3] Knapp, M., Flach, A. & Ayboga, E. (2016). Revolution in Rojava: Democratic Autonomy and Women s Liberation in Syrian Kurdistan. Pluto Press.
[4] Petras, J. & Veltmeyer, H. (2005). Social Movements and State Power: Argentina, Brazil, Bolivia, Ecuador. Pluto Press.
[5] Sitrin, M. & Azzellini, D. (2014). They Can t Represent Us!: Reinventing Democracy From Greece to Occupy. Verso Books.
[6] Lebowitz, M. A. (2010). The Socialist Alternative: Real Human Development. Monthly Review Press.
[7] Fraser, N. (2019). The Old Is Dying and the New Cannot Be Born: From Progressive Neoliberalism to Trump and Beyond. Verso Books.
[8] Dolgoff, S. (1974). The Anarchist Collectives: Workers Self-Management in the Spanish Revolution. Free Life Editions.
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟