أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - مأساة المبدع بين حياةٍ يُغتال فيها وموتٍ يُستثمر فيه














المزيد.....

مأساة المبدع بين حياةٍ يُغتال فيها وموتٍ يُستثمر فيه


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 18:17
المحور: قضايا ثقافية
    


أيها القارئ، تعال نضحك معًا – نعم نضحك – على جنازة المبدع العراقي والعربي، تلك الجنازة التي تبدأ قبل أن يدخل التراب، جنازة تُشيَّع على صفحات فيسبوك قبل أن يصل صوته إلى صدره الأخير. المبدع عندنا لا يُمنح فرصة أن يعيش حياةً كريمة، لكنه يُمنح في المقابل فرصة أن يكون مادة دسمة للتعليقات واللايكات، وأن تُحاك حوله الأساطير والشائعات بمهارةٍ أكبر من أي قصيدة كتبها، أو لوحة رسمها، أو أغنية غنّاها. مأساة هذا الكائن الذي اسمه "مبدع" أنه لا يحيا في مجتمعه إلا مطعونًا بخناجر الرفاق، وبسكاكين المؤسسات التي ترفع شعار الإبداع في النهار وتغرسه في ظهره ليلًا.هو يعيش عارياً من كل سند، وحين يمرض، لا يجد حتى إبرة يطفئ بها ألمه. المضحك المبكي أن من كان سبب مرضه أو جوعه أو نفيه أو كآبته، هو ذاته أول من ينشر صورته بالأسود والأبيض حين يرحل، وكأنهم يقدّمون اعتذارًا متأخرًا لا يتعدّى كونه إعلانًا تجاريًا مدفوع الأجر بعملة النفاق. أي هزءٍ هذا؟ أي مسرحية رخيصة تلك التي يُستثمر فيها موت المبدع أكثر من حياته؟لقد صار موت الفنان خبراً صحفياً يسبق حتى شهيقه الأخير. بل كثيراً ما يستيقظ المبدع ليجد صفحاته الافتراضية تزفّ خبر رحيله، فيضحك من سخرية القدر، أو ربما يبكي من فرط الخذلان، ثم يشارك – بسلام بارد – نفي خبر وفاته. هل هناك سخرية أعمق من أن يقرأ المبدع خبر موته حيًّا، ولا يملك أن يفعل شيئًا سوى كتابة جملة مهزومة: "أنا ما زلت حيًّا"؟ أليس هذا بحد ذاته موتاً من نوع آخر؟إن مؤسساتنا الثقافية ليست مؤسسات، بل مقابر مؤجّلة، لا تفتح أبوابها إلا حين يصبح المبدع رقماً في سجل الوفيات. صالات العرض، الندوات، الحلقات النقاشية، كلها تتحول فجأة إلى مزارات مقدسة لروح من قضى وحيداً، بينما في حياته لم يجد فيها سوى أبواب مغلقة وموظف بيروقراطي يطالبه بتقديم (معاملة رسمية) ليتسول اعترافًا بموهبته.ثم هناك أولئك الأصدقاء – أصدقاء الفيسبوك قبل أصدقاء الحياة – الذين يتحولون بقدرة ساحر إلى نُدبٍ مفتوحة في عزاء الفقيد. صفحاتهم تمتلئ بصور المبدع الذي كانوا يطعنونه بالنقد الأعمى، أو يهملونه بالإقصاء، أو يهمسون ضده في جلسات النميمة. فجأة يصبحون أوفياء، فجأة يتذكرون أنه كان "هرمًا من أهرام الفن"، بينما كانوا في حياته يكدّسون الطوب فوق صدره ليزداد اختناقًا.ويا للمفارقة! كم من فنانٍ مات وهو لم يملك حتى ثمن دواء، ثم بكى عليه مسؤولٌ فاسد كان يُصادر موازنات الثقافة منذ عشرين عامًا. كم من شاعرٍ نُفي حتى من ذاكرته، ثم احتفى به اتحاد الأدباء بعد موته كأنهم هم الذين ربّوه واحتضنوه. كم من مبدعٍ شيّدوا له تمثالًا بعد أن جعلوا حياته كومة ركام.نحن أمة نبارك الموت أكثر مما نبارك الحياة. نبارك الرحيل لأنه يتيح لنا فرصة الظهور بمظهر الإنساني الرقيق، بينما الحقيقة أننا ذئاب تنهش القطيع ثم تذرف دموع التماسيح عند بقاياه. أمة تسوّق خبر وفاة شاعر كأنها تسوّق سلعة على رفّ سوبرماركت، وتزيد تفاعلها بالـ"لايك" كما لو أن الرحيل مهرجان إلكتروني يحتاج إلى جمهور.إن مأساة المبدع ليست في موته، بل في حياته التي تُغتال مرارًا قبل أن يصل إلى قبره. يموت بالخذلان، يموت بالقسوة، يموت حين يرى أن جهده يتحول إلى وسيلة لصعود صفحات غيره، يموت حين يُشوَّه اسمه بالإشاعة، وحين يُحاصر بالشبهة، وحين يُستثمر نزيفه في صناعة شهرة زائفة للآخرين. أما بعد موته، فيتحول جثمانه إلى كعكة تتقاسمها الألسن، وتوزّعها الصحف، وتزخرفها المؤسسات بخطابات رنانة لم يكن يستحق منها في حياته سوى التجاهل.ولأننا نحب السخرية حتى في الجنائز، فإن الطامة الكبرى أن من كانوا سببًا في موت المبدع هم أول من يقف أمام قبره يذرف دموعًا مصطنعة، يلتقطون الصور التذكارية في الجنازة، ثم يعودون ليكتبوا منشورات عن فضائل الراحل. وكأنهم يقولون: "نحن قتلناه، لكننا نحبه ميتًا أكثر مما أحببناه حيًّا".فهل هناك جريمة أكثر سخرية من أن يُصبح موت المبدع مشروعًا مربحًا للذين كانوا سببًا في انكساره؟ وهل هناك مهزلة أكبر من أن يتحول جسده الغائب إلى إعلان مدفوع لتضخيم صفحات ووجوه لا تستحق سوى النسيان؟إن مأساة المبدع عندنا ليست حكاية شخص واحد، بل حكاية وطنٍ بأسره، وطن يتآمر على أبنائه الأحياء ثم يقيم لهم المهرجانات بعد موتهم. وطن يذبح مبدعيه بالسخرية، ثم يزفّهم إلى السماء على أكتاف النفاق. تلك هي ملهاة الجنازة الطويلة التي لا تنتهي إلا بجملة رثاء متأخرة، كتبت بدموع إلكترونية وقلوب بلا ضمير.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موازنة 2025… لمن ذهبت؟ بجيب الفأر أم بجيب الجار
- رحيل داود الفرحان… حين يغادر القلم وتبقى الذاكرة
- العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء
- إلى المجهول… حيث تُساق إيران وحدها
- موتٌ واحد بشرف… ولا حياة بألف خيانة
- حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة
- بين النص والسلطة: حرية الأمة ومصير العقل
- يا ربّ، لا أحتملُ عينيها
- -طقوس الجسد وديانة القبلة-
- العراق بين صناديق الموت وأقنعة الخيانة-.
- المحطات المغبرة… دموع على أطلال الحرب
- -النجوم التي تعبت من الحراسة-
- العالم على شفا الحافة.. سردية النار والظل
- -الصمت وطن الأرواح-
- -مجرّتان في عينيها-
- نوافذ العدم
- العراق بين سُمّ المخدّرات وسوق الأعضاء
- بين الشكّ والوفاء
- سَنا العيون
- يتيم


المزيد.....




- مبيعات الأسلحة الإسرائيلية -مُزدهرة- لكن التكلفة -كبيرة-.. ل ...
- هل لا يزال للقانون الدولي الإنساني معنى وسط الانتهاكات الواس ...
- رشيد حموني يسائل وزير الداخلية ووزير التجهيز والماء حول بناء ...
- كيف هي استجابتنا للتحديات؟
- واشنطن تتعهد مجددا بالدفاع عن -كل شبر من أراضي الناتو- في مو ...
- فرنسا: بلديات ترفع العلم الفلسطيني على واجهات مبانيها
- جدل -لقاء نجل ترامب- يتصاعد بتركيا وأردوغان يرد على المعارضة ...
- دوا ليبا تفصل وكيل أعمالها بسبب دعمه للحرب الإسرائيلية على غ ...
- -زنزانات عائمة-.. هكذا غيّرت غواصات التهريب تجارة المخدرات ا ...
- هل تركيا هي الهدف التالي لإسرائيل في الشرق الأوسط؟


المزيد.....

- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - مأساة المبدع بين حياةٍ يُغتال فيها وموتٍ يُستثمر فيه