أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء














المزيد.....

العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 14:19
المحور: قضايا ثقافية
    


أجلس على رصيفٍ مهترئ، بين صخب المدينة ونفَسها المتسارع، كأن العراق نفسه يتنفس من خلال ضجيج السيارات، وطوابير المخابز، وأصوات الناس الذين يبحثون عن أي شيء يُشعرهم بأنهم موجودون. أحيانًا أشعر أن هذا البلد ليس مكانًا بقدر ما هو تجربة وجودية، فصل طويل من المسرحية الإنسانية، حيث يتحول كل شيء إلى سؤال، وكل سؤال إلى ضحكة، وكل ضحكة إلى مأساة لم تكتمل بعد.
في العراق، الإنسان لا يسأل عن معنى الحياة أو عن الحقيقة أو الجمال، بل عن الكهرباء التي تختفي فجأة، وعن بترول يُسرق في وضح النهار، وعن إنترنت يختبئ في زاوية الغرف كما لو كان آخر بقايا الحرية. هنا، تصبح البساطة أحيانًا أشد تعقيدًا من أعظم كتب الفلسفة، وأحيانًا أخرى أكثر صدقًا من كل الكلمات التي كُتبت عن الحب أو الحرب أو الوطن.نقف في الطوابير، نحمل آمالًا متعبة، وقلوبًا مثقلة بالانتظار، نتساءل: هل نعيش الحياة حقًا، أم أن الحياة تعيش فينا، تعبث بنا، تمسك بنا كما يمسك الريح غصنًا هشًا، ثم تتركنا نراقب ما تبقى من أنفسنا على الأرض؟
الحرب هنا ليست مجرد حدث تاريخي، ولا الفساد مجرد فعل سياسي، ولا حرارة الصيف مجرد حالة جوية. كل شيء في العراق فلسفة قائمة بذاتها، درس مستمر في الصبر، تمرين على الاستحمال، وتمثيل عبثي للحياة. أحيانًا أشعر أن كل شيء هنا مزحة كونية، وأننا جميعًا أبطال في مسرحية لم يكتب لها كاتب. وأحيانًا أخرى، أكتشف أن المزحة تحولت إلى مأساة، والمأساة أصبحت عادة يومية، والعادة أصبحت فلسفة حياتنا.في المقهى، حيث القهوة مرة كما لو كانت حقيقة لا يمكن تجاهلها، نجلس نحن القليلون الذين ما زلنا نحلم، نتحدث عن الحرية، العدالة، الحب، الهجرة، المستقبل… وكل هذا الحديث ينهار أمام نادل يذكّرنا بأن الفلسفة وحدها لا تطعم، وأن الضحك على عبث الحياة ربما هو آخر ما تبقى لنا من عقل.
نحن شعب عظيم… عظيم بصبره، بعظمته في تحويل الألم إلى قصة، وبقدرته على جعل الكارثة حكاية تُروى بين رشفة قهوة وضحكة مكتومة، بين دمعة خفية ونكتة تصيب القلب أكثر من أي هجوم. في هذا المكان، يصبح الضحك أحيانًا مقاومة، وأحيانًا فلسفة، وأحيانًا آخر حدودنا الإنسانية قبل الانهيار.وأنا أكتب هذا المقال، أجد نفسي أضحك على نفسي، أضحك على العالم، وأتساءل: هل السخرية من حياتنا هي الطريقة الوحيدة لنكون أحياء، أم هي آخر فلسفة متاحة لنا بين الدمار والجنون والخراب؟ العراق، بهذا المعنى، هو مدرسة وجودية: يعلّمك أن تتحمل، أن تضحك، أن تبكي، وأن تستمر، حتى لو لم يبقَ شيء سوى الخراب.في العراق، كل شيء له معنى مزدوج: الحرب تعلمك الصبر، لكنها تأخذ منك كل شيء؛ الفساد يُظهر لك القوة، لكنه ينهك قلبك؛ الحب يجعل قلبك يحلق، لكنه يتركك في انتظار لا ينتهي؛ والحرية، إن وُجدت، تكون مجرد وهم جميل، كظلال تمر أمام عينيك قبل أن تختفي في الغبار.وأحيانًا، أقف على شرفتي القديمة، أراقب المدينة من فوق، أرى الطوابير، السيارات، الأطفال، العمال، والنساء… وأشعر بأن كل هذه الأشياء مثل نوتة موسيقية واحدة، سيمفونية عبثية لا تعرف نهاية. هنا، يصبح الوجود العراقي مزيجًا من التناقضات: الفرح والحزن، الحب والخذلان، الأمل واليأس، الضحك والبكاء… كل هذا في آن واحد، وكل شيء في صمت طويل قبل أن يعود صخب الحياة ليبتلعنا مرة أخرى.وهكذا، يبقى السؤال: هل نحن نعيش، أم أننا مجرد مراقبين لصدى وجودنا في بغداد، البصرة، الموصل، وأي شارع آخر يعلو فيه صوت الحياة والعبث معًا؟ ربما لا نجد الإجابة، لكننا نتعلم أن نضحك على الألم، أن نحلم رغم الخراب، وأن نصنع فلسفة من كل لحظة، مهما كانت مرة أو ثقيلة أو ساخرة أو مبهجة… لأن السخرية، في النهاية، هي آخر ما نمتلكه، والابتسامة هي آخر حصن لنا ضد العدم.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى المجهول… حيث تُساق إيران وحدها
- موتٌ واحد بشرف… ولا حياة بألف خيانة
- حين يغتسل التاريخ في طين الذاكرة
- بين النص والسلطة: حرية الأمة ومصير العقل
- يا ربّ، لا أحتملُ عينيها
- -طقوس الجسد وديانة القبلة-
- العراق بين صناديق الموت وأقنعة الخيانة-.
- المحطات المغبرة… دموع على أطلال الحرب
- -النجوم التي تعبت من الحراسة-
- العالم على شفا الحافة.. سردية النار والظل
- -الصمت وطن الأرواح-
- -مجرّتان في عينيها-
- نوافذ العدم
- العراق بين سُمّ المخدّرات وسوق الأعضاء
- بين الشكّ والوفاء
- سَنا العيون
- يتيم
- السينما الموءودة
- التفاهة والسفاهة: السرطان الذي يأكل الأدب العربي في القرن ال ...
- المال والسعادة.. جدل الإنسان بين وفرة الجيب وفراغ القلب


المزيد.....




- البيت الأبيض: أمريكا ستُكمل صفقة تيك توك -خلال الأيام المقبل ...
- بوتين يختبر -صمت- ترامب لإعادة رسم معادلة الحرب في أوكرانيا ...
- هاتريك كاين يقود البافاري لفوز كبير.. ونصر أول لهامبورغ
- كيف يفكر نتنياهو في مواجهة العزلة التي يعيشها الكيان الصهيون ...
- من عمود الحلاق إلى سهم أمازون.. حكايات الرموز ودلالاتها الخف ...
- مسعد بولس يكشف التوجه الأميركي بأفريقيا وجهود السلام في الكو ...
- قتيل في قصف إسرائيلي على سيارة جنوب لبنان
- حماس: إسرائيل تستخدم عربات مسيّرة مفخخة لإبادة المدنيين بغزة ...
- الديمقراطيون يضغطون للقاء ترامب مع اقتراب الإغلاق الحكومي
- معهد العالم العربي في باريس يناقش الاعتراف الفرنسي المؤجل بف ...


المزيد.....

- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - العراق: عبث الوجود وفلسفة البقاء