حامد الضبياني
الحوار المتمدن-العدد: 8466 - 2025 / 9 / 15 - 07:49
المحور:
قضايا ثقافية
أحياناً لا نجد الوطن في خرائط الطباشير، ولا في أسماء المدن التي تتناوب على إنكارنا، بل نكتشف أنّ الوطن يولد في أعماقنا حين نصغي إلى صمتنا. هذا الصمت الذي يشبه حضن الأرض قبل أن يلمسها ضجيج الإنسان، صمت لا يفسده شعار ولا يعكره خطاب، صمت يبني لنا بيتاً من طمأنينةٍ لا تملكها حجارة ولا تملكها سطوة.
في هذا الوطن العجيب، لا نحتاج إلى كلمات كي نفهم، ولا إلى لغات كي نترجم قلوبنا. يكفي أن نصغي، فنسمع ما لم يقله أحد منذ بدء الخليقة: نبض قلبٍ يتساءل عن سرّه، وارتعاشة روحٍ تخشى العدم، وحكايات أجدادٍ ما زالت تتردد في الفراغ كما الطيور حين تضيع عنها الجهات.
لقد أتعبنا الصخب، يا نفسي. أرهقنا لغط المدن وأبواق الإعلام وثرثرة الأرصفة، حتى صار الكلام بلا معنى، والجدال بلا روح، والأغاني مجرد أصداءٍ متعبة تلهث وراء نفسها. وحده الصمت يظل طاهراً، مثل نهرٍ لم تطأه الأقدام، مثل قمرٍ يطلّ على الخراب دون أن يخدشه دخان الحروب.
هناك، في أعمق نقطة من صمتك، ستجد نفسك كما خُلقت: هشّة، عارية من كلّ ادعاء، لا غنى ولا فقر، لا قوة ولا ضعف، فقط إنسان يواجه مرآة الوجود. هناك يتساوى الجميع لأنّ لغة الصمت لا تعترف بميزان الذهب ولا بسوط السلطة، بل بميزان الحضور.
وحين يصير الصمت وطناً، لا يُسلب منك شيء، ولا تُدان على فكرة، ولا تُحاكم على همسة. الصمت وطنٌ لا جواز له ولا حدود، وطن يفتح أبوابه للجميع ويغلق أبوابه على الطمأنينة وحدها. فيه يكبر الحب لأنّه لا يُشوَّه بالكلمات، وتصفو الروح لأنّها لم تعد مثقلة بالثرثرة.
أجل، الوطن ليس أرضاً نطأها، بل سكوناً نسكنه. الوطن الحقيقي هو تلك اللحظة التي ينصت فيها قلبك إلى صمته، ويكتشف أنّه لم يكن غريباً عن الكون، بل جزءاً من لحن سرمدي يعزفه الوجود منذ الأزل.حين يصبح الصمت وطناً، نعود إلى ذواتنا؛ وهناك فقط نفهم أنّ أجمل ما في الحياة ليس ما نمتلكه، بل ما نسمعه من هذا السكون الكوني الذي يعلّمنا أنّنا أبناء الأبد، لا أبناء الخرائط وحدها.
#حامد_الضبياني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟