رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 14:02
المحور:
قضايا ثقافية
منذ أن بدأ الإنسان يتأمل العالم ويضع له تصورات ومعايير، اصطدم بثنائية كبرى شكّلت أساس التفكير الفلسفي والعلمي على حد سواء: الموضوعية والذاتية. فالسؤال الذي يتكرر في العلوم والفلسفة والأدب هو: كيف يمكن للإنسان أن يعبّر عن الحقيقة دون أن يتورط في انحيازاته الشخصية، أو على العكس، هل يستطيع الإنسان أن يتجرد تماماً من ذاته ليكون محايداً كلياً؟ هذه الثنائية ليست مجرد قضية نظرية، بل هي جوهرية في فهم المعرفة، العلم، الأخلاق، وحتى الفن.
الموضوعية هي النظر إلى الأشياء والظواهر بمعزل عن ميول الفرد ومشاعره ومصالحه الخاصة، أي محاولة الإمساك بالواقع كما هو، لا كما نرغب أن يكون. فهي نزعة إلى الحياد والصرامة والقياس المشترك.
اما الذاتية فهي تعني ارتباط الرؤية البشرية بخبرات الفرد وأهوائه ومعتقداته وتاريخه الشخصي. إنها المنظور الداخلي الذي لا ينفصل عن الكائن البشري بوصفه كائناً محدوداً وزمنياً وثقافياً.
هنا يظهر التوتر: فالموضوعية تسعى إلى أن تكون معرفة "من خارج"، بينما الذاتية تعترف بأن كل معرفة تمر عبر "الداخل".
في الفلسفة اليونانية القديمة، ميّز أفلاطون بين عالم المثل (الحقيقة الموضوعية المطلقة) وعالم الحس (الذي يتأثر بضعف الحواس والذاتية). أما أرسطو فاقترب أكثر من التجربة الإنسانية لكنه ظل يبحث عن "قوانين كلية" تحكم الظواهر.
في العصر الحديث، جاءت الذاتية الديكارتية مع "الكوجيتو" ("أنا أفكر إذن أنا موجود") لتجعل الوعي الذاتي أساس المعرفة، بينما سعى كانط إلى التوفيق بين الأمرين: فهو رأى أن العقل البشري لا يستطيع أن يعرف "الشيء في ذاته" (الموضوعية الخالصة)، لكنه قادر على بناء معرفة عبر مقولات عقلية مشتركة (أي ذاتية جماعية).
لاحقاً، اتجهت الفلسفات الوجودية (كيركغارد، نيتشه، هايدغر، سارتر) إلى تمجيد الذاتية، معتبرة أن الحقيقة هي تجربة حية. بالمقابل، كرّست الوضعية العلمية (كونت، ميل، دوركهايم) مطلب الموضوعية كشرط لإنتاج المعرفة العلمية.
في العلوم الطبيعية والاجتماعية، تُعدّ الموضوعية معياراً للصدق. العلم لا يثق بالانطباعات الفردية لكن بالأدلة القابلة للتحقق والتكرار. التجربة، القياس، والملاحظة المنضبطة أدوات للوصول إلى ما هو مشترك وقابل للاختبار.
لكن حتى هنا، يبرز سؤال: هل يمكن للعلم أن يكون موضوعياً تماماً؟
توماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية أشار إلى أن حتى العلم تحكمه "البارادايمات" أو الأطر الثقافية والمعرفية، أي أن الذاتية الجماعية (المجتمع العلمي) تضع حدوداً لما يُعدّ علماً. وهكذا، فالعلم موضوعي في أدواته، لكنه ذاتي في سياقه التاريخي والثقافي.
وإذا كان العلم يسعى إلى الموضوعية، فإن الأدب والفن يزدهران في الذاتية. فالفنان والكاتب لا ينقلان العالم كما هو، أنما كما يُعاش ويُشعر به. التجربة الجمالية لا تُقاس بالحياد لكن بالقدرة على إثارة المعنى والدهشة والانفعال.
ومع ذلك، لا يخلو الأدب من بعد موضوعي: فالرواية مثلاً قد تصبح وثيقة اجتماعية تكشف عن الواقع، والشعر قد يُخلّد تجربة جماعية لا تخص الشاعر وحده. هنا تتقاطع الذاتية مع الموضوعية في إنتاج معنى يتجاوز الفرد.
في مجال الأخلاق والسياسة، تصبح العلاقة بين الموضوعية والذاتية أكثر حساسية. فهل توجد "قيم موضوعية" مطلقة كالعدل والخير؟ أم أن القيم نسبية تتغير باختلاف الثقافات والأزمنة؟
المذاهب الأخلاقية الكلاسيكية (الأفلاطونية، المسيحية، الكانطية) دافعت عن وجود قيم موضوعية.
بينما ذهبت المذاهب النسبية والبراغماتية وما بعد الحداثة إلى أن الأخلاق نتاج للثقافة والتاريخ، أي أنها ذاتية.
السياسة بدورها تقوم على هذا التوتر: الحاكم يدّعي الموضوعية في قراراته، لكن الواقع يفضح الذاتية المتمثلة في مصالحه وانحيازاته.
لا تقتصر هذه الثنائية على الفلسفة والعلم والفن، لكنها تحضر في تفاصيلنا اليومية. فعندما نروي حدثاً عشنا، ندّعي أننا نروي "ما حصل"، لكننا في الحقيقة نعيد صياغته بما يتناسب مع ذاكرتنا ومشاعرنا. حتى في العلاقات الإنسانية، نطالب الآخر بأن يكون "موضوعياً"، بينما نعجز نحن عن تجاوز ذاتيتنا.
الحياة اليومية مزيج دائم من الموضوعي (القوانين، الوقائع، الأرقام) والذاتي (الرغبات، الذكريات، المشاعر).
يبدو أن الفصل الحاد بين الموضوعية والذاتية هو وهمٌ أكثر منه حقيقة. فالموضوعية لا توجد دون وساطة ذاتية، والذاتية لا معنى لها دون افتراض واقع موضوعي خارجي. لهذا، يدعو كثير من المفكرين المعاصرين إلى مقاربة "بين-ذاتية" (Intersubjectivity) ترى أن الحقيقة تُبنى عبر الحوار والتفاعل، لا في عزلة مطلقة ولا في ادعاء حياد كامل.
إنها رؤية تعترف بحدود الإنسان: نحن لسنا آلهة نمتلك الحقيقة الكاملة، ولسنا أيضاً كائنات غارقة في الذاتية المحضة. إنما نتحرك في مساحة متوترة بين الاثنين.
الموضوعية والذاتية ليستا مجرد مفاهيم متقابلة، لكنهما قطبان متلازمان يحددان مسار المعرفة والفن والحياة. فالموضوعية تمنحنا إمكانية التواصل المشترك وفهم العالم، بينما الذاتية تذكّرنا بأننا بشر نحيا ونشعر ونختبر. والتحدي الدائم هو كيف نوازن بينهما، فلا ننغلق في انحيازاتنا الذاتية، ولا ننخدع بوهم الحياد المطلق.
بعبارة أخرى: الموضوعية من دون ذاتية تصبح جموداً، والذاتية من دون موضوعية تتحول إلى فوضى.
منذ أن بدأ الإنسان يتأمل العالم ويضع له تصورات ومعايير، اصطدم بثنائية كبرى شكّلت أساس التفكير الفلسفي والعلمي على حد سواء: الموضوعية والذاتية. فالسؤال الذي يتكرر في العلوم والفلسفة والأدب هو: كيف يمكن للإنسان أن يعبّر عن الحقيقة دون أن يتورط في انحيازاته الشخصية، أو على العكس، هل يستطيع الإنسان أن يتجرد تماماً من ذاته ليكون محايداً كلياً؟ هذه الثنائية ليست مجرد قضية نظرية، بل هي جوهرية في فهم المعرفة، العلم، الأخلاق، وحتى الفن.
الموضوعية هي النظر إلى الأشياء والظواهر بمعزل عن ميول الفرد ومشاعره ومصالحه الخاصة، أي محاولة الإمساك بالواقع كما هو، لا كما نرغب أن يكون. فهي نزعة إلى الحياد والصرامة والقياس المشترك.
اما الذاتية فهي تعني ارتباط الرؤية البشرية بخبرات الفرد وأهوائه ومعتقداته وتاريخه الشخصي. إنها المنظور الداخلي الذي لا ينفصل عن الكائن البشري بوصفه كائناً محدوداً وزمنياً وثقافياً.
هنا يظهر التوتر: فالموضوعية تسعى إلى أن تكون معرفة "من خارج"، بينما الذاتية تعترف بأن كل معرفة تمر عبر "الداخل".
في الفلسفة اليونانية القديمة، ميّز أفلاطون بين عالم المثل (الحقيقة الموضوعية المطلقة) وعالم الحس (الذي يتأثر بضعف الحواس والذاتية). أما أرسطو فاقترب أكثر من التجربة الإنسانية لكنه ظل يبحث عن "قوانين كلية" تحكم الظواهر.
في العصر الحديث، جاءت الذاتية الديكارتية مع "الكوجيتو" ("أنا أفكر إذن أنا موجود") لتجعل الوعي الذاتي أساس المعرفة، بينما سعى كانط إلى التوفيق بين الأمرين: فهو رأى أن العقل البشري لا يستطيع أن يعرف "الشيء في ذاته" (الموضوعية الخالصة)، لكنه قادر على بناء معرفة عبر مقولات عقلية مشتركة (أي ذاتية جماعية).
لاحقاً، اتجهت الفلسفات الوجودية (كيركغارد، نيتشه، هايدغر، سارتر) إلى تمجيد الذاتية، معتبرة أن الحقيقة هي تجربة حية. بالمقابل، كرّست الوضعية العلمية (كونت، ميل، دوركهايم) مطلب الموضوعية كشرط لإنتاج المعرفة العلمية.
في العلوم الطبيعية والاجتماعية، تُعدّ الموضوعية معياراً للصدق. العلم لا يثق بالانطباعات الفردية لكن بالأدلة القابلة للتحقق والتكرار. التجربة، القياس، والملاحظة المنضبطة أدوات للوصول إلى ما هو مشترك وقابل للاختبار.
لكن حتى هنا، يبرز سؤال: هل يمكن للعلم أن يكون موضوعياً تماماً؟
توماس كون في كتابه بنية الثورات العلمية أشار إلى أن حتى العلم تحكمه "البارادايمات" أو الأطر الثقافية والمعرفية، أي أن الذاتية الجماعية (المجتمع العلمي) تضع حدوداً لما يُعدّ علماً. وهكذا، فالعلم موضوعي في أدواته، لكنه ذاتي في سياقه التاريخي والثقافي.
وإذا كان العلم يسعى إلى الموضوعية، فإن الأدب والفن يزدهران في الذاتية. فالفنان والكاتب لا ينقلان العالم كما هو، أنما كما يُعاش ويُشعر به. التجربة الجمالية لا تُقاس بالحياد لكن بالقدرة على إثارة المعنى والدهشة والانفعال.
ومع ذلك، لا يخلو الأدب من بعد موضوعي: فالرواية مثلاً قد تصبح وثيقة اجتماعية تكشف عن الواقع، والشعر قد يُخلّد تجربة جماعية لا تخص الشاعر وحده. هنا تتقاطع الذاتية مع الموضوعية في إنتاج معنى يتجاوز الفرد.
في مجال الأخلاق والسياسة، تصبح العلاقة بين الموضوعية والذاتية أكثر حساسية. فهل توجد "قيم موضوعية" مطلقة كالعدل والخير؟ أم أن القيم نسبية تتغير باختلاف الثقافات والأزمنة؟
المذاهب الأخلاقية الكلاسيكية (الأفلاطونية، المسيحية، الكانطية) دافعت عن وجود قيم موضوعية.
بينما ذهبت المذاهب النسبية والبراغماتية وما بعد الحداثة إلى أن الأخلاق نتاج للثقافة والتاريخ، أي أنها ذاتية.
السياسة بدورها تقوم على هذا التوتر: الحاكم يدّعي الموضوعية في قراراته، لكن الواقع يفضح الذاتية المتمثلة في مصالحه وانحيازاته.
لا تقتصر هذه الثنائية على الفلسفة والعلم والفن، لكنها تحضر في تفاصيلنا اليومية. فعندما نروي حدثاً عشنا، ندّعي أننا نروي "ما حصل"، لكننا في الحقيقة نعيد صياغته بما يتناسب مع ذاكرتنا ومشاعرنا. حتى في العلاقات الإنسانية، نطالب الآخر بأن يكون "موضوعياً"، بينما نعجز نحن عن تجاوز ذاتيتنا.
الحياة اليومية مزيج دائم من الموضوعي (القوانين، الوقائع، الأرقام) والذاتي (الرغبات، الذكريات، المشاعر).
يبدو أن الفصل الحاد بين الموضوعية والذاتية هو وهمٌ أكثر منه حقيقة. فالموضوعية لا توجد دون وساطة ذاتية، والذاتية لا معنى لها دون افتراض واقع موضوعي خارجي. لهذا، يدعو كثير من المفكرين المعاصرين إلى مقاربة "بين-ذاتية" (Intersubjectivity) ترى أن الحقيقة تُبنى عبر الحوار والتفاعل، لا في عزلة مطلقة ولا في ادعاء حياد كامل.
إنها رؤية تعترف بحدود الإنسان: نحن لسنا آلهة نمتلك الحقيقة الكاملة، ولسنا أيضاً كائنات غارقة في الذاتية المحضة. إنما نتحرك في مساحة متوترة بين الاثنين.
الموضوعية والذاتية ليستا مجرد مفاهيم متقابلة، لكنهما قطبان متلازمان يحددان مسار المعرفة والفن والحياة. فالموضوعية تمنحنا إمكانية التواصل المشترك وفهم العالم، بينما الذاتية تذكّرنا بأننا بشر نحيا ونشعر ونختبر. والتحدي الدائم هو كيف نوازن بينهما، فلا ننغلق في انحيازاتنا الذاتية، ولا ننخدع بوهم الحياد المطلق.
بعبارة أخرى: الموضوعية من دون ذاتية تصبح جموداً، والذاتية من دون موضوعية تتحول إلى فوضى.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟