أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - فرنسا: أزمة سياسية واقتصادية















المزيد.....


فرنسا: أزمة سياسية واقتصادية


الطاهر المعز

الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 10:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أزمة سياسية
ألقى فرانسوا بايرو خطاب وداع قدّم نفسه من خلاله كضحية "لطبقة سياسية مهووسة بمنطق المُساومة والإنقسامات" قبل جلسة برلمانية مطولة كانت الأخيرة بالنسبة له كرئيس وزراء، وكما كان متوقعًا منذ أيام، أطاح البرلمان بالحكومة يوم الثامن من أيلول/سبتمبر 2025 بتصويت أغلبية النواب على عدم منح الثقة لرئيس الوزراء، وأعلن الرئيس إيمانويل ماكرون إنه سيُعيّن خليفةً لفرانسوا بايرو "خلال الأيام القليلة المقبلة"، وكان فرانسوا بايرو يرفض تصنيفه ضمن صفوف اليمين، ويعتبر نفسه "وَسَطِيًّا"، لكن مقترحاته – التي لم يتمكّن من تمريرها – كانت أكثر يمِينِيّة من سابقيه، وبالمناسبة فقد كان الرئيس فاليري جيسكار ديستان ( 1974 – 1981) يعتبر نفسه "وَسَطِيًّا" ومؤسس ائتلاف الوَسَط الذي كان رائدًا للنيوليبرالية
يندرج سقوط الحكومة الفرنسية ضمن فترة من عدم الاستقرار السياسي غير المسبوق في الجمهورية الخامسة ( منذ سنة 1958) حيث عَيَّن الرئيس إيمانويل ماكرون منذ بداية ولايته الثانية سنة 2022 ( تنتهي خلال شهر أيار/مايو 2027) أربعة رؤساء وزارة وهو رقم قياسي، واحتدّ عدم الإستقرار بعد الانتخابات التشريعية الفرنسية لسنة 2024 التي نظمها الرئيس إيمانويل ماكرون خلال شهر حزيران/يونيو 2024، والتي أسفرت عن ارتفاع عدد نواب اليمين المتطرف وعن برلمان منقسم يفتقر إلى أغلبية مُستقرة، وعين ميشال بارنييه رئيسًا للوزراء، ولم تدم حكومته سوى ثلاثة أشهر، ثم عين فرانسوا بايرو الذي لم تدُم حكومته سوى تسعة أشهر، وكان همّه الوحيد "ارتفاع الدّيْن العام"، والضّغط على الأُجَراء والمُتقاعدين والضُّعَفاء للحدّ من ارتفاع الدّيُون، من خلال زيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وخفض الأُجُور والمعاشات وأيام العُطل الرسمية، دون إزعاج المصارف والمؤسسات المالية والشركات الكبرى والأثرياء، ودون أي إشارة إلى زيادة الإنفاق العسكري والتورط في حرب أوكرانيا ودعم حكومتها بالمال والسلاح، وأثار هذا الوضع رُدُود فعل ومقاومة، ومن ضمنها الدّعوة ليوم غضب وطني يوم العاشر من أيلول/سبتمبر 2025، احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كما دعت نقابات الأُجَراء إلى تنظيم إضرابات ومظاهرات يوم الثامن عشر من أيلول/سبتمبر 2025، ضدّ السياسة الإقتصادية والاجتماعية للحكومة
تحاول الرواية السائدة تصوير الاقتصاد الفرنسي كضحية بريئة للأزمة السياسية. في الواقع، هو مصدر عدم الاستقرار السياسي والأزمة الديمقراطية العميقة التي تشهدها البلاد.
عبّرت صحيفة "لوموند" في العديد من نشراتها عن رأي أصحاب المؤسسات الذين أعربوا عن "أسفهم للآثار السلبية للغموض السياسي" أو "إن الاضطرابات السياسية تُسبب مشاكل تُضْعِف الإقتصاد الفرنسي"، كما عبرت وسائل إعلام القطاع العام عن نفس الإتجاه الذي يُبرّئُ رأس المال من "ما يحصل في البلاد من اضطرابات وعدم استقرار"، بل يجعله ضحية السياسيين، وكأن الدّولة أو السّلطة والحكومة كيان مُسْتَقِلّ عن السّلطة الإقتصادية، وفي الواقع كانت الأزمة الإقتصادية (ضُعْف النّمو وانخفاض قيمة الدّخل الحقيقي لمعظم المواطنين ) سببًا في الأزمة السياسية
نشرت صحيفة لوموند يوم الثاني من أيلول/سبتمبر 2025 عن المؤتمر الصحفي الذي عقده فرنسوا بايرو، رئيس الوزارة المنهارة في فرنسا يوم الخامس والعشرين من آب/أغسطس 2025، وركّز فرانسوا بايرو كعادته على " خطر ارتفاع مستوى الدين العام"، مُهملا اهتمامات المواطن...
تُعَدّ فرنسا ثاني أكبر اقتصاد بالإتحاد الأوروبي ( ومجموعة اليورو) وتُعاني الفئات الشعبية من عبء تدهور ظروف العيش، في ظل نمو ضعيف خفض الحكومات المتعاقبة الإنفاق الإجتماعي، بل كان البرنامج الإقتصادي لفرانسوا بايرو يهدف "خفض الإنفاق العام بقيمة 44 مليار يورو (52 مليار دولار)، لمعالجة العجز المالي سنة 2026"، وتمثل الدّيون الفرنسية 3,3 تريليونات يورو أو نحو 115% من الناتج المَحلِّي الإجمالي، وقدّرت هيئة المحاسبات والتّدقيق الفرنسية ( Cour des Comptes ) مدفوعات خدمة الدين بأكثر من مائة مليار يورو سنة 2029، ولم تَعُد السندات الفرنسية من البدائل الآمنة للمُستثمرين والمُضاربين، بسبب ارتفاع علاوة المخاطر على الدّيْن الفرنسي، لتقترب من مستويات إيطاليا، متجاوزة مخاطر سندات اليونان وإسبانيا، وفق منظمة التعاون والتنمية

لا هَمّ لرئيس الوزراء المُقال فرانسوا بايرو سوى الدّيْن العام الذي لم يستفد منه الأُجراء والفُقراء، ولا ناقة ولا جَمَل لهم في ارتفاعه، ولكنه يريد منهم أن يتحملوا مسؤوليته من خلال الضرائب وزيادة الأسعار وخفض الدّخل المتواضع للعاملين والفُقراء، وما إلى ذلك من الإجراءات التي أعلنها خلال مؤتمره الصحفي يوم الاثنين 25 آب/أغسطس 2025.
يمكن تلخيص أسباب ارتفاع الدّيْن العام ( الحكومي) في فرنسا من 20% سنة 1980 إلى أكثر من 115% من الناتج الإجمالي المحلي، سنة 2024، إلى عدّة عوامل، من بينها تجاوُزُ أسعار الفائدة معدل النمو وحرمان الدولة من الموارد لصالح المصارف والشركات الكبرى والأُسَر الثّريّة – التي لا تخضع لرقابة صارمة - وبسبب التكلفة المباشرة وغير المباشرة للأزمة المالية لسنة 2008 وتدابير الدعم خلال انتشار وباء كوفيد- 19، أي إن الدّولة أنقذت النظام المالي الخاص سنة 2008 وضخت المال العام بدون فائدة أو بفائدة ضعيفة قريبة من الصّفر، مع إجراءات الإعفاء الضّريبي، وتريد الدّولة من الفُقراء والأُجَراء ( الذين لم يستفيدوا قَطّ من "سخاء" الدّولة بالمال العام) أن يتحمّلوا تبعات قراراتها المتمثلة في إثْراء القطاع الخاص.
تستخدم الحكومة مُستوى الدّيْن لبث الذّعر وحثّ المواطنين على قُبُول "التّضحية" بمكتسباتهم القليلة المُتَبَقِّيَة، غير إن الدّولة لا تُسدد ديونها، بل تدفع فقط خدمة الدين، وعندما يُستحق سند دين عام، تقترض الدولة مرة أخرى لسداده، وبلغت نسبة فوائد الدّيْن سنة 2024 نحو 2% من النّاتج المحلِّي الإجمالي، وهي نسبة تُعادل متوسط منطقة اليورو، ولم يتم استثمار القروض ( الدّيُون الحكومية) في بناء وصيانة وتعهّد المُستشفيات ومؤسسات التّعليم، بل لدَعْم القطاع الخاص، فضلا عن إعفاء الأثرياء والشركات الكبرى من الضرائب، بالتوازي مع خفض الإنفاق الإجتماعي، فيما تستثمر هذه الشركات وهؤلاء الأثرياء أموالهم في أسواق المال والمُضاربة، بدل الإستثمار في الإقتصاد الحقيقي المُنْتِج.

أزمة اقتصادية
يُعتبر النمو الإقتصادي في فرنسا ( وبلدان أخرى ) وَهْمِيًّا، فقد بلغ النمو المُحَقَّق خلال النصف الأول من سنة 2025، نحو 0,5%، بمساهمة من المخزونات، أي الإنتاج غير المُباع الذي ساهم بـ 1,1 نقطة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، ويتوقع البنك العالمي ( التقرير نصف السّنوي – حزيران 2025) ركود الإقتصاد الفرنسي، وارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (بسعر الدولار الثابت وتعادل القوة الشرائية) بنسبة 8,59% فحسب بين سنَتَيْ 2007 و 2024، مقابل نسبة 29,75% بين سنَتَيْ 1990 و2007، واعتاد مسؤولو الحكومة والمصرف المركزي تهويل مسؤولية المواطنين ( وخصوصًا الفُقراء) في الأزمة، بينما تُظهر أرقام البنك العالمي والمصرف المركزي الفرنسي تراكم رأس المال لدى أقلية، وارتفاع نصيب رأس المال مقارنة بنصيب العمل، خصوصًا منذ ضخ المال العام لصالح الرّأسماليين خلال أزمة 2007/2008 وإشراف الدّولة على توزيع غير متكافئ لثمار النمو وعلى الدّعم المُباشر لرأس المال من خلال الإقراض بدون فائدة وخطط "التّحفيز"، وخفض الضرائب أو إعفاء الأثرياء منها، ودعم الصادرات، وما إلى ذلك، خصوصًا خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين... أما إجراءات الدّولة – في فرنسا أو دول أروبية أخرى – فتتمثل في تحويل المال العام إلى القطاع الخاص، مع خفض العجز من خلال زيادة مساهمات العمال والخدمات العامة، وهي تتلخص في إقرار تقشف يستهدف العاملين بأجر أو صغار الفلاحين والتّجّار والحِرَفِيِّين وتدمير البرامج الإجتماعية للدولة وخصخصة المرافق، كالمستشفيات والمدارس ووسائل النقل والطاقة وتوزيع المياه والتأمين ضد البطالة، مما ألحق أضرارًا كبيرة بالأُسَر منخفضة أو متوسطة الدّخل، مع رُكُود الأجور أو انخفاض قيمتها الحقيقية، واتساع نطاق عدم المساواة، وزيادة الفقر والبطالة، فقد ارتفعت الأجور الاسمية بنسبة 13% بين آذار/مارس 2021 وآذار/مارس 2025، وهي نسبة أقل بقليل من ارتفاع الأسعار خلال الفترة نفسها (+13,7%)، وبذلك ظلّ التعويض الحقيقي للعمال راكدًا تقريبًا، خلال أربع سنوات، أي إن مستوى المعيشة ظَلّ متدهورًا، خلافًا لمن ارتفعت ثرواتهم بنسب قياسية، وكانت الأُسر متواضعة الدّخل الضحية الرئيسية للركود الإقتصادي، وفق المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية ( INSEE ) الذي سلّط الضّوء منذ سنة 2021 على مدى مساهمة الوصول إلى الخدمات العامة والضمان الاجتماعي في الحد من التفاوتات الحقيقية في البلاد، وإن خفض ميزانياتها أو إلغاءها يُعدّ حربًا اجتماعية ( طَبَقَيّة ) لصالح رأس المال.

أزمة ديمقراطية
تُؤدّي هذه السياسات الإقتصادية المُجحفة بحق العاملين والفُقراء، إلى أزمة ديمقراطية، حيث تنخفض أو تنعدم درجة الثقة في الأحزاب السياسية والنقابات فضلا عن الحكومة والمنظومة المصرفية، وبالنسبة لفرنسا فقد انخفض عدد المُشاركين في العملية الإنتخابية، ولم يُشارك في بعض الإنتخابات سوى ثُلُث المُسجلين، ناهيك عن غير المُسجّلين، لأن الفئات الشعبية تُدرك إدراكًا حِسِّيًّا أو فطريًّا التّعارض بين رأس المال – الذي يحكم البلاد وينهب ثرواتها وجُهُود العاملين – والدّيمقراطية الحقيقية التي تستجيب لمطالب واحتياجات الأغلبية التي لا تملك شيئًا، واختارت الرأسمالية التّضحية بالدّيمقراطية، مما زاد من شعبية اليمين المتطرف في فرنسا كما في معظم دول أوروبا (الإتحاد الأوروبي وسويسرا وبريطانيا...) الذي يُقدّم نفسه بديلاً لقطاعات رأسمالية معينة بالاعتماد على السخط الشعبي، لكن اليمين المتطرف الفرنسي لا يمتلك استراتيجية اقتصادية واضحة، ومع ذلك أظْهَر قدرته على حشد شريحة هامة من"الرأي العام" بدعمٍ من بعض القطاعات الرأسمالية ووسائل الإعلام التي تمتلكها مجموعة بولوريه أو بويغ التي تُروّج لإقرار المزيد من التخفيضات الضريبية على رأس المال، وتطبيق التمييز وإلغاء القيود الاجتماعية والبيئية، وتدمير "دولة الرفاه"، وأصبح اليمين الفرنسي، منذ بداية القرن الواحد والعشرين يُثير اليمين المتطرف كسيف مُسلّط على البلاد لإجبار الناخبين على اختيار "أَهْون الشّرّيْن"، وليس اختيار برنامج سياسي واقتصادي من بين عدة خيارات...

هدر المال العام
لطالما ادّعى مُنَظِّرو الإقتصاد الرأسمالي وُجُودَ "يد خفية" (Invisible hand ) تُنظم اقتصاد السوق ( الإقتصاد الرأسمالي) دون الحاجة إلى تدخُّل الدّولة، وفق الاقتصادي آدم سميث ( اسكتلندا، بريطانيا 1723 – 1790) وشرح مبدأها في كتابه ثروة الأمم وكتب أخرى، وتشير نظرية اليد الخفية، إلى "تنظيم الأسواق بطريقة حرة دون تدخل حكومات الدول، وإعطاء الأشخاص الحرية المطلقة فى إتخاذ قراراتهم فى عمليات البيع والشراء، بما في ذلك بَيْع وشراء جُهْد العَمَل، لتحقيق التوازن بين قانون العرض والطلب"، لكن الدّولة في النظام الرأسمالي – المُسمّى ليبرالي وديمقراطي - تتدخّل بشكل مُستمر في السّوق، ففي فرنسا، لم بلغت قيمة المساعدات العامة للشركات 65 مليار يورو سنويًا، قبل أزمة 2008-2009، وارتفع هذا المبلغ إلى 110 مليارات يورو سنويًا سنة 2012، ثم إلى 150 مليار يورو سنويًا سنة 2018، مع إقرار برنامج الإعفاء الضريبي للتنافسية والتوظيف (CICE) وأكثر من 160 مليار يورو سنة 2023، أي بارتفاع نسبته 230% خلال أقل من خمسة عشر عامًا، بنمو سنوي قدره 7%، إلى أعلى بكثير من نمو الناتج المحلي الإجمالي أو التضخم أو المساعدات الاجتماعية أو الأجور، واستفادت استفادت جميع شركات كاك 40 الكبرى ( أكبر أربعين شركة مُدْرَجة في بورصة باريس) من شكل واحد أو أكثر من المساعدات العامة المرتبطة بكوفيد-19، ومن ضمنها شركات مثل توتال إنرجيز، وسانوفي، ودانون، وإير ليكيد، التي أعلنت صراحةً أنها لن تطلب دعمًا ماليًا من الدولة، وحققت أرباحًا قياسية، بفعل استفادتها بشكل كبير من مشتريات المصرف المركزي للأوراق المالية، بالإضافة إلى خطط التحفيز والاستثمار المتنوعة، ولا تحتاج هذه الشركات الكبرى للمساعدة، بل وجب إجبارها على المساهمة في الحدّ من التفاوت الطبيقي لأن مؤشر كاك 40 حقق أداءً جيدًا خلال العام الأول للجائحة، وحققت 34 شركة ( من أربعين) أرباحًا بالمليارات، بدءًا من سانوفي التي حققت أرباحًا قياسية تجاوزت 12 مليار يورو في عام واحد، وبلغت أرباح مؤشر كاك 40، خلال النصف الأول من سنة 2021 أرباحًا قياسية بلغت 57 مليار يورو، بفضل استفادة هذه الشركات من عشرات المليارات من يوروهات المال العام، ورفضت الحكومات المتعاقبة، بشكل منهجي، ربط المساعدات العامة للشركات بشروط، لا فيما يتعلق بالحفاظ على الوظائف، ولا بالتحول البيئي وخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ولا بتقاسم الثروة، واكتفت الدّولة بالإشارة إلى حسن نية الشركات المتلقية للمساعدات، التي تمتعت بحرية مطلقة في تقليص الوظائف، ومواصلة إعطاء الأولوية لمكافآت المساهمين، وتقليل تغييرات مرافق إنتاجها قدر الإمكان.
عمومًا تتمتع الشركات الكبرى العاملة في فرنسا بأكثر من أَلْفَيْ شكل من أشكال المساعدة، في ظل ضُعْف أو غياب أي معيار للشفافية، وتتلخص هذه المُساعدات في المنح والإعفاءات الضريبية والقروض المضمونة من الدّولة وضخ رؤوس الأموال ودعم التدفقات النقدية وغيرها، من قِبَلِ السلطات المحلية والحكومة والهيئات العامة وبنك بي بي آي فرانس والاتحاد الأوروبي، فضلا عن المساعدات الجديدة التي طُبّقت خلال أزمة 2008 و خلال انتشار جائحة كوفيد 19، مع انعدام الشفافية، لأن الحكومات المتعاقبة لا تنشر قوائم بالمستفيدين والمبالغ المستلمة من قِبَل مؤسسات القطاع الخاص، ولا تنشر سوى المبالغ الإجمالية، دون معلومات مفصلة لكل شركة على حدة، كما لا تنشر شُروط استفادة شركات القطاع الخاص من المال العام، فقد حققت شركات كاك 40 التي استفادت من مُساعدات الدّولة أثناء جائحة كوفيد 19 أرباحًا قياسية ( حوالي 42 مليار يورو) وزعتها على أصحاب الأسهم، ومع ذلك أعلنت هذه الشركات تسريح إثنيْن وستين ألف عامل، ولا يشمل هذا الرقم تسريحات الوظائف لدى المقاولين من الباطن للمجموعات الكبرى، كما لا يشمل تسريحات الوظائف التي أعلنت عنها مجموعات غير تابعة لمؤشر كاك 40، مثل أكور، وإير فرانس، وأوشان، وألتيس، ونوكيا، ولافارج، ولا يرتبط فقدان الوظائف بالضرورة بأداء الشركات أو وضعها المالي، لأنها استمرت في توزيع الأرباح على أصحاب الأسهم ومكافآت هامة للمديرين التنفيذيين، وتنقل جزء هاما من نشاطها ( الوَهْمي أحيانًا كثيرة) وتنقل مقراتها إلى ملاذات ضريبية علنية، إيرلندا ولكسمبورغ وهولندا وبلجيكا وجزيرة جيرزي، أو ملاذات ضريبية في الأرخبيلات الاستوائية...
بلغت قيمة المساعدات الحكومية للشركات 211 مليار يورو سنة 2023، وهو أكبر بند منفرد للإنفاق العام، في ظل افتقار برامج المساعدات للشفافية والمساءلة، دون مراقبة أو تقييم منهجي، ونمت قيمة هذه المساعدات طيلة 15 سنة بسرعة تفوق ثلاث مرات ونصف قيمة المساعدات الاجتماعية، وأسرع بثلاث مرات من الناتج المحلي الإجمالي، وفق تقرير منشور بموقع مجلس الشيوخ الفرنسي ( حزيران/يونيو 2025)، ولا تخلق هذه الشركات ما يكفي من النشاط والوظائف، بل سرّحت 62 ألف موظف سنة حصولها على دعم مالي حكومي بمبلغ قياسي

"إنجازات" الحُكومة المُقالة
فرضت الميزانية التي أعدّها رئيس الحكومة المنتهية صلاحياتها بقيادة فرنسوا بايرو، تقليص الميزانية بقيمة 63,1 مليار يورو، بين خفض وإلغاء برامج واعتمادات تم إقرارها سابقا مما يؤدّي إلى المزيد من تدهور الظروف المعيشية ودَخْل العمال وجزء كبير من السكان، وإلى انخفاض النّمو من 1,1% سنة 2024 إلى 0,6% سنة 2025 وكذلك 2026، وفقًا لتوقعات المعهد الوطني للإحصاء الإقتصادي والإجتماعي ( INSEE )، فيما ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 0,9% خلال عام، وارتفعت نسبة التضخم في أسعار المنتجات الأساسية المباعة في المتاجر الكبرة: المكرونة + 30%، الأرز + 25%، الحليب + 40%، البيض + 35%، فواقع التضخم أعلى بكثير من البيانات الرسمية التي لا علاقة لها بأي واقع اقتصادي، ويُفسر هذا "التضخم المفرط" في أسعار المنتجات اليومية بهوامش الربح والأرباح التي تحققها المجموعات الكبرى في صناعة وتوزيع الأغذية، بينما بلغ عدد حالات إفلاس الشركات حوالي 310 آلاف حالة سنة 2024 (بزيادة قدرها 9% مقارنة بعام 2023) وتجاوز عدد حالات إفلاس الشركات 168 ألف حالة، خلال الربع الأول من سنة 2025، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة، وتعرض ما بين 170 ألف و200 ألف وظيفة للخطر، مما يرفع توقعات معدل البطالة لعام 2025 إلى 7,7%، وكان رئيس الوزراء فرنسوا بايرو يُخطّط لجولة ثانية من التخفيضات بهدف خفض 5 مليارات دولار من الإنفاق الحكومي والضمان الاجتماعي، للحفاظ على مستوى العجز بنسبة 5,4% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2025، وخفض ميزانية الصحة ( المستشفيات والخدمات الطبية في القطاع العام) بمقدار 1,7 مليار يورو، والإنفاق الإجتماعي، وتتضمن الميزانية التي رفضها نواب البرلمان خفض التكاليف بقيمة خمسين مليار يورو سنة 2026.

الفقر كمؤشِّر على الفَجْوَة الطّبَقِيّة
أشار المعهد الوطني للإحصاءات والدراسات الاقتصادية (INSEE) إلى ازدياد التفاوتات باستمرار وارتفاع الفقر في فرنسا بدرجة لم يسبق له مثيل، وبلغ معدل الفقر 15,4% سنة 2024، وانخفض مستوى معيشة أفقر 10% من السكان بنسبة 1% باليورو الثابت بين سنتَيْ 2022 و2023، وانخفض متوسط دخل العاملين في مشاريع صغيرة لحسابهم الخاص بنسبة 5,5% سنة 2022، وبنسبة 4,5% باليورو الثابت سنة 2023، وعانى العاطلون عن العمل من آثار "إصلاح" التأمين ضد البطالة، وفي المقابل، تحسنت ثروات أغنى 10% بشكل ملحوظ، وارتفع مستوى معيشة أغنى 10% بنسبة 2,1%، بزيادة قدرها 980 يورو للفرد أما أفقر 10%، فقد خسروا 140 يورو!
كان 9,8 ملايين شخص يعيشون تحت خط الفقر سنة 2023، بزيادة 650 ألف شخص عن سنة 2022، وتُقلل إحصاءات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية (INSEE) من تقديرات هذه الأرقام. ولقياس الفقر، يقتصر المعهد على سكان المساكن العادية في المناطق الحضرية الفرنسية، ومن المرجح أن يبلغ إجمالي عدد الفقراء نحو 12 مليونًا، وقد يرتفع العدد بعد إقرار تجميد معاشات التقاعد، والمزايا الاجتماعية، وضريبة الدخل، وغيرها، لكي توفر الحكومة 12,4 مليار يورو، توزعها على الأثرياء والشركات الكبرى
يُؤَدِّي تجميد ميزانيات الوزارات والسلطات المحلية المُقرر سنة 2026 إلى فقدان عشرات الآلاف من الوظائف في قطاعات الصحة والتعليم والقضاء ( المحاكم) والخدمات الاجتماعية، لكن حافظت الميزانية على إعفاء الشركات من مساهمات الضمان الاجتماعي التي تتراوح بين 70 و80 مليار دولار والممنوحة لأصحاب العمل سنويًا، وقررت الدولة خفض البدلات اليومية للمرضى، والحد من الإجازات المرضية، وإلغاء نظام الإجازات المرضية الطويلة الأجل للمرضى "في مرحلة النقاهة"، وإصلاح نقل المرضى...
أما الميزانية الحربية فقد ارتفعت في غضون ثماني سنوات، من 32 إلى 50 مليار يورو، ثم إلى 70 مليارًا بحلول سنة 2030. وقد التزمت دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) مؤخرًا بتخصيص 5% من ناتجها المحلي الإجمالي للتسليح بحلول سنة 2035، لذا، وجب ارتفاع الميزانية الحربية السنوية الفرنسية إلى 120 مليار يورو، ولتوفير هذه الأموال، تُخفّض ميزانية الرعاية الصحية وجميع الخدمات المفيدة للسكان، وللتذكير فقد اشترت الحكومة 42 طائرة من طراز رافال ( تمتلكها عائلة داسو ذات النفوذ الكبير في مجالات السياسة والصناعة والإعلام) سنة 2024، وألغت الاعتمادات التي تسمح بشراء طائرات "كنديان" جديدة لإطفاء الحرائق!

خلاصة:
لا تتجاوز حصة فرنسا من الناتج الإجمالي العالمي 4 %، وبالأسعار الثابتة، فإن الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي سنة 2024 أصغر مما كان عليه قبل الأزمة المالية لسنة 2008، وقد تصل حصة فرنسا من الاقتصاد العالمي نحو 2 % بنهاية سنة 2025، ولا يتوقع أن يتجاوز نمو اقتصاد فرنسا 0,6% سنة 2025، وبلغت النسبة الرسمية للبطالة 7,1 % سنة 2023، ويتوقّع أن ترتفع نإلى 8% أو 9 % أواخر سنة 2025، بسبب تباطؤ نمو الإقتصاد وتباطؤ الإستهلاك، وعمومًا خسرت فرنسا وزنها الإقتصادي والإستراتيجي، ولم تعد قوةً كبرى أو قادرة على التحرك خارج إطار حلف شمال الأطلسي أو الإتحاد الأوروبي، لأن اقتصادها مُثقل بالدّيون والرّكود، ولم تتمكّن الحكومة الفرنسية ( ولا الحكومات الأوروبية) من الوقوف في وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لما فَرَضَ زيادة الرسوم الجمركية على الإتحاد الأوروبي الذي تُشكل دُوَلُهُ أغلبية الدّول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي ( 23 دولة من 32 عضو) ولم تعد فرنسا قوة دبلوماسية أو اقتصادية أو عسكرية عُظْمى، بل دولة متوسّطة الوزن في الساحة الدّولية.
تُركّز وسائل الإعلام على ميزانية التّقشف التي قدّمتها حكومة فرَنْسْوَا بايرو إلى البرلمان كسبب رئيسي للأزمة السياسية، وفي الواقع فإن الأزمة متعدّدة الجوانب، ومنها الجانب الإقتصادي الذي يخص الحياة اليومية للناس، وهي أزمة مُستمرة بحدّة منذ أكثر من عشر سنوات، وكانت حركة "السترات الصّفراء" سنة 2018 واحدة من أهم الإحتجاجات الشعبية التي انطلقت من الأرياف والمُدن الصغيرة دلالة على اتّساع رقعة الغضب بسبب تدهور ظروف العيش، فضلا عن الإحتجاجات العديدة بشأن "إصلاح" نظام التّقاعد ( تمديد سنوات العمل – غير المُتَوفّر – وخفض قيمة المعاشات...) وخصوصًا منذ 2023، فضلا عن العديد من الإحتجاجات الأخرى التي تعدّدت وتوسّع نطاقها إلى فئات اجتماعية جديدة منذ انتخاب إيمانويل ماكرون رئيسا، لأنه أعلن انحيازه بوضوح إلى أثْرَى الأثرياء وتميز تعامله مع الخُصُوم ومع الفئات المُقاوِمة ( الشباب والعاملون والمتقاعدون...) برُعُونة وعجرفة واحتقار، وبذلك وسَّعَ رُقْعة خُصُومِهِ وأعدائه، على مستوى فرنسا كما على المستوى الخارجي، وما التّورّط الفرنسي في كافة الحروب الأمريكية، والأزمة مع الجزائر والعديد من الدّول الإفريقية سوى نماذج لهذه الرّعونة والعجرفة المُمَيِّزة للإمبريالية وللرّأسمالية المُتأزّمة...



#الطاهر_المعز (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المقاطعة كشكل من المقاومة
- فلسطين - فجوة بين الموقف الأوروبي الرسمي والموقف الشعبي
- قمّة منظمة شنغهاي للتّعاون
- مُتابعات – العدد الأربعون بعد المائة بتاريخ السّادس من أيلول ...
- إندونيسيا – احتجاجات وقَمع دَمَوِي
- الصهيونية واليمين المتطرف في أوروبا – نموذج السُّوَيْد
- دَور الإستخبارات و-الذّكاء الإصطناعي- في توجيه الرأي العام
- أوروبا، عَسْكَرَة الحياة المَدَنِيّة
- مُتابعات – العدد التاسع والثلاثون بعد المائة بتاريخ الثّلاثي ...
- من -التّأثيرات الجانبية- لزيادة الرّسوم الجمركية الأمريكية
- خصومات في الصّف المُقابل، بين فرنسا والولايات المتحدة
- هل الفن مُحايد؟ - نموذج فرقة نيكاب الموسيقية الإيرلندية
- عبد العزير المنبهي 15/02/1950 – 23/08/2025
- الصحة بين الوقاية وتحقيق الرّبح
- مُتابعات – العدد الثامن والثلاثون بعد المائة بتاريخ الثّالث ...
- عن اليسار الصهيوني
- الدّيمقراطية الأمريكية المُسلّحة
- الخليج: الولاء المُطْلَق للإمبريالية والإستغلال الفاحش للعما ...
- عيّنات من أحداث صيف 2025 الطاهر المعز
- الفقر في أوروبا: نماذج من فرنسا وألمانيا


المزيد.....




- فيديو متداول لـ-هجوم إسرائيلي على صنعاء-.. ما حقيقته؟
- إسرائيل ترد على إعلان الاتحاد الأوروبي تعليق المدفوعات الثنا ...
- القضاء الألماني يحكم بالسجن المؤبد على السوري عيسى الحسن الم ...
- خبراء: هجوم المسيّرات على بولندا رسالة مزدوجة لاختبار رد فعل ...
- مظاهرات في إسبانيا للمطالبة بفرض حظر كامل على بيع الأسلحة لإ ...
- فرنسا: احتجاجات وتهديد بحجب الثقة بحق لوكورنو في أول يوم عمل ...
- عشرات الشهداء بالقصف والتجويع والمقاومة تستهدف جنودا إسرائيل ...
- حماس: لا تأثير لجرائم إسرائيل على قراراتنا القيادية
- -آيفون إير- يبشر بثورة جديدة في تصميم الهواتف المحمولة
- الاحتلال يطبق حصاره على قرى شمال غرب القدس لليوم الثالث


المزيد.....

- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الطاهر المعز - فرنسا: أزمة سياسية واقتصادية