أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عببر خالد يحيي - دراسة ذرائعية في الغربة والذاكرة بين السرد الملحمي وأدب الرحلات في رواية -نجم الدين صانع العطور- للكاتبة السعودية ريم عبد الباقي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي















المزيد.....

دراسة ذرائعية في الغربة والذاكرة بين السرد الملحمي وأدب الرحلات في رواية -نجم الدين صانع العطور- للكاتبة السعودية ريم عبد الباقي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي


عببر خالد يحيي

الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 09:11
المحور: الادب والفن
    


تتأسس رواية ريم عبد الباقي "نجم الدين صانع العطور" على سرد اعترافي طويل يمتد عبر أجيال وتجارب، حيث يروي البطل حكايته في امتداد زمني متواصل من الطفولة إلى الشيخوخة. هذه الزمكانية الواسعة تمنح النص بعدًا ملحميًّا، إذ يقدّم سيرة فرد تتحوّل إلى سيرة جماعية ترصد التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية في المدينة (المدينة المنوّرة، جدة، رحلات الحج والاغتراب).
كذلك نجد ملامح أدب الرحلات في الوصف التفصيلي للأمكنة: الأزقة، الأسواق، الأعراس، وحتى الخرائب والمقابر، حيث تتحول الجغرافيا إلى شخصية فاعلة في النص. هذه التوليفة بين الملحمي والرحلي والاعترافي تجعل الرواية نصًا متعدد الأبعاد يستدعي القراءة الذرائعية بمستوياتها.

• البؤرة الفكرية
البؤرة هنا هي البحث عن الذات والهوية عبر العطر/الذاكرة، حيث يُستعمل العطر رمزًا لإحياء الماضي وإعادة بناء العالم المفقود. هي محاولة للانتصار على الغربة والزمن بالمزج بين التجربة الفردية والرحلة الجماعية.

• الخلفية الأخلاقية
النص يستند إلى منظومة قيمية قوامها:
- الوفاء للأمومة والطفولة.
- محبة التوأم المختلف (صالح) رغم ثقل المسؤولية.
- التسامح مع الغياب والخذلان (الأب، العمّة).
- الإيمان بالقدر والرحمة الإلهية.
"أنا لا أخشى الرحيل أبدًا يا أمي، ولكني آمل أن في عمري ما يكفي لأحكي لك تلك الرحلة التسعينية الطويلة".

• المستوى البصري
الرواية غنيّة باللوحات البصرية، حيث تتحوّل الأمكنة إلى مرايا للذات.
"استأجرتُ حجرةً صغيرةً في بناية متواضعة تقع بجوار السوق، حيث تشرف نافذتها على سوق العطور كنافذة على جنة خاصة بي دون سواي" (ص. 278).
مشهد بصري يجسّد المكان في صورة "جنة"، مما يعكس انصهار السرد في أدب الرحلات.
"على الجدار في معمل العطور كانت هناك صور أخرى، كان أغلبها لجدي، وصور أخرى، ولكن أكبرها كانت له بصحبة من أخبرني خالي أنهالأمير عبد القادر الجزائري" (ص. 170).
اللوحة البصرية هنا تدمج بين الخاص (خال البطل) والرمزي التاريخي (الأمير عبد القادر)، لتمنح النص بعدًا ملحميًّا.
وصف الخرائب: "تلك الخرابة التي لطالما ارتعدنا خوفًا عند ذكرها…".
تصوير الأعراس والأهازيج: "ظهرت عمتي بثوبها المديني الزهري الجميل، وعلى صدرها تسطع القطع الذهبية وحبّات اللؤلؤ".
حضور الأزقة والباعة: "نسمات باردة تدخل من خلال زخارف الروشان…".
هذه المشاهد البصرية تقرّب النص من أدب الرحلات، حيث المكان يُرى بالعين ويُعاد تشكيله بالسرد.

• المستوى اللغوي الجمالي والأسلوبي:
البنية الاعترافية–التأملية
الرواية ليست سيرة شخصية فحسب، بل هي نوع من الاعتراف الموجّه للأم الغائبة. المخاطبة المستمرة "يا أمي…" تصنع خيطًا وجدانيًّا يربط السرد كله، وتجعل القارئ شريكًا في عملية البوح. هذه البنية تجعل النص أقرب إلى المذكرات/الاعترافات الفلسفية منها إلى الرواية التقليدية.
لذلك نجد لغة عاطفية حميمية قائمة على المخاطبة المباشرة للأم.
استخدام تراكيب ذات إيقاع داخلي: "حبك ربي ورضاك، والقرآن دايم معاك".
مزج بين لغة التوثيق (أحداث الكوليرا، الهجرات) ولغة الشعر الرمزي.

• المستوى الديناميكي :
1. التقنيات السردية :
يوظّف النص تقنيات السرد التتابعي، الفلاش باك، والمونولوج الداخلي، بما يعكس الامتداد الزمكاني نحو الملحمة وأدب الرحلة.
يقول السارد:
"قضيت الساعات وحدي أجرِّب وأستنشقُ، وأقرأ التركيبات التي دوّنها خالي" (ص. 168).
هنا يظهر البناء الديناميكي لتجربة البطل، حيث يُستعمل فعل التجريب والاكتشاف كمسار سردي متنامٍ يشبه الرحلة الداخلية نحو الهوية.
وفي لحظة تأملية:
"غفوتُ وأنا أتحدثُ معكِ راجيًا أن تكوني قد صفحتِ عني… فلم تعد بي قدرة يا أمي ولا طاقة لحمل عبء الذنوب بعد الآن" (ص. 278).
هذا المشهد يبرز تقنية المونولوج الداخلي، إذ يتحدث الراوي إلى الأم الغائبة كجزء من سيرورة سردية اعترافية ممتدة.
2. الامتداد الزمكاني والبعد الملحمي
الرواية تغطي امتدادًا زمنيًا طويلًا (من الطفولة حتى الشيخوخة).
الأمكنة تتعدد: أزقة المدينة، السوق، الخرابة، معمل العطور، محطات السفر، مما يمنحها بعدًا رحليًا–ملحميًا.
السرد يشبه في بعض المقاطع السير الشعبية أو أدب الرحلات، حيث تتقاطع السيرة الفردية مع التاريخ الجماعي (الكوليرا، الهجرات، الأعراس الشعبية).
3. الصراع النفسي والرمزي
ما يلفت أيضًا هو تكرار ثنائية الحب/الذنب:
حبه لصالح مقابل إحساسه بأنه عبء.
حبه للأب مقابل شعوره بالخذلان من غيابه.
حبه للأم الغائبة الذي يتحول إلى بؤرة للسرد كله.
الرموز (العطر، العصفور، الخرابة) ليست مجرد صور، بل عقد نفسية–رمزية تسيّر البطل وتعيد تشكيل وعيه.
ما يميّز هذه الرواية أن العطر ليس مجرد مهنة للبطل، بل هو استعارة كبرى للذاكرة: فالعطر يحفظ أثر الشيء بعد غيابه، كما يحاول السارد حفظ الأم، وصالح، والوطن، من التلاشي. وهذا ما يجعل العطر في الرواية جسرًا بين الغياب والحضور.

• المستوى النفسي
المستوى النفسي يتجلّى في الصراع الداخلي، بين الذنب، الأمل، والخوف من الفقد.
يقول الراوي:
"غلبني التعب ونمت، وبقي خيال صالح يحلّق فوق رأسي كعنقاء ملعونة، تحترق وتُبعث للحياة مرة أخرى… وتحرقني بنار الحزن والقلق" (ص. 169).
هذا المشهد يعكس المدخل التراجيدي في المستوى النفسي، حيث يطارد البطل ظلّ التوأم (صالح) في صورة أسطورية (العنقاء).
وفي موقف آخر:
"مدينتي التي لم تعد مدينتي وكأنني نبتة شيطانية خرجت من رحم أرض مهجورة" (ص. 278).
هنا يظهر مدخل الاغتراب النفسي، حيث يُترجم الانفصال عن المكان إلى صورة قاسية تعكس فقد الانتماء.

- المدخل التوليدي :
نفتح عدسة القراءة على التناص في رواية نجم الدين صانع العطور. الرواية لا تشتغل في فراغ، بل تستدعي نصوصًا وفضاءات ثقافية/أدبية/دينية، ما يضيف عمقًا إلى بنيتها السردية. إليكِ أهم مظاهر التناص:
1. التناص الديني–القرآني: يمنح البعد الروحي.
يرد خطاب مفعم بالإيحاء القرآني والدعاء للأم:
"حبك ربي ورضّاك والقرآن دايم معاك". ص 12
هذا التناص يعمّق العلاقة بين السرد والقدسي، ويمنح خطاب الابن بعدًا روحيًّا يتجاوز حدود البوح الشخصي.
حضور فكرة الرحمة الإلهية: "رحمة الله وسعت كل شيء"، مما يجعل النص يتقاطع مع المعجم القرآني في استحضار الأمل بالخلاص.

2. التناص الأسطوري: يرمز للصراع والبعث (العنقاء).
صورة العنقاء:
"غلبني التعب ونمت، وبقي خيال صالح يحلق فوق رأسي كعنقاء ملعونة تحترق وتُبعث للحياة مرة أخرى".
هنا استدعاء لأسطورة الخلود والانبعاث، في سياق يعكس صراع البطل مع ذاكرة الفقد.
3. التناص الشعري العربي القديم: يربط التجربة الفردية بالحكمة التراثية.
اقتباس من شعر زهير بن أبي سلمى:
"سَئِمتُ تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً…".
يوظّف النص هذا البيت لربط الشيخوخة المعاصرة (نجم الدين وقد بلغ التسعين) بتراث الحكمة الجاهلية، في تأكيد على امتداد التجربة الإنسانية عبر العصور.

4. التناص التاريخي: يُحوّل النص إلى سرد ملحمي–جماعي.
حضور شخصيات تاريخية مثل الأمير عبد القادر الجزائري في صور على جدار المعمل.
هذا التناص يمنح الرواية بعدًا ملحميًّا، ويربط سيرة الفرد بسير الكبار الذين شكّلوا الذاكرة الجماعية.

5. التناص الشعبي: شعبي: يؤصّل المكان عبر الفلكلور.
إشارات إلى الأغاني والأهازيج الشعبية والتهويدات:
"ولدي يا زين الزين كحل الحاجب والعين".ص 12
النص يتقاطع هنا مع الموروث الشعبي، ليؤكد أصالة الفن التراثي ويعطي السرد مذاقًا فولكلوريًا حيًا.

- المدخل السلوكي كمحرّك فني
أود أن أضيء على نقطتين مما لفتني في الرواية على صعيد التساؤلات و المدخل السلوكي:
أولًا: التساؤلات
الرواية مبنية على نسق تساؤلي مفتوح، وكأن البطل لا يروي فقط بل يحاكم ذاته ووجوده أمام الأم الغائبة:
"هل يمكن أن نخاف ونحب ذات الشخص في ذات الوقت؟!"
هذا السؤال الوجودي يوجز التناقض النفسي الذي يعيشه مع صالح ومع الأب ومع ذاته.
"هل أنا المذنب حقًا؟ أأعاقب بغيابه عني أيضًا؟!"
هنا السؤال يحوّل الذنب من حادثة طفولية (ترك صالح/العصفور الميت) إلى عقدة وجودية تتكرر في علاقاته مع الكبار (الأب، العمّة، المجتمع).
"هل من المنطقي أن يترك والدٌ ابنه يتيم الأم ليصبح يتيم الأب أيضًا؟"
هذا السؤال يُظهر الوعي المبكر باللاعدالة، ويعكس انكسار الثقة بالسلطة الأبوية.
إذن، التساؤل ليس مجرد أداة فنية، بل هو بنية سردية وفكرية تعكس قلق البطل واغترابه، وتحوّل الرواية إلى ساحة تأمل فلسفي في معنى الغياب والفقد.

ثانيًا: المدخل السلوكي
المدخل السلوكي في المستوى النفسي يكشف تناقضات أفعال البطل بين الطفولة والنضج:
في الطفولة: يتصرف بأنانية واضحة، يترك صالح وحده، يلهو مع الأطفال، ويشعر بالغيرة من عمته شريفة. هذه السلوكيات تكشف عن نزعة أنانية طبيعية لكنها تتحول لاحقًا إلى مصدر ذنب ثقيل.
"كيف تركته يعود إلى المنزل وحده؟ كيف تركتُ صالح وحده؟!"
في الشباب والكهولة: تتحوّل الأفعال السلوكية إلى ردود دفاعية: البحث عن الخلاص في العطور، الارتماء في الذكريات، البوح للأم الغائبة. هنا نرى انتقال السلوك من الأنانية الطفولية إلى محاولة التكفير عبر الحنين والإبداع.
في الشيخوخة: يتحول السلوك إلى تصالح نسبي مع الموت والغياب، حيث يقول:
"أنا لا أخشى الرحيل أبدًا يا أمي، ولكني آمل أن يكفي عمري لأحكي لك الرحلة التسعينية الطويلة".
إذن، المدخل السلوكي يكشف أن أفعال البطل تتحرك بين ثلاثة أقطاب: الأنانية – الذنب – التكفير، وهو ما يشكّل محور التجربة النفسية الكاملة في الرواية.
والأفعال التي بدت "أخطاء طفولية" أو "أنانية بسيطة" تُعاد صياغتها في السرد كأحداث مفصلية تقود إلى عقدة الذنب. الرواية تستثمر هذه التفاصيل السلوكية لتخلق دراما داخلية تتصاعد مع العمر:
الطفولة = أنانية / لعب / غيرة.
الشباب = قلق / بحث عن معنى / تجريب.
الشيخوخة = توبة / مصالحة / سرد.
هذا التدرج السلوكي يتحوّل في النص إلى بنية فنية، تجعل القارئ يعيش رحلة البطل النفسية وكأنها رحلة وجودية عامة.
فالتساؤلات تجعل الرواية فضاءً حواريًّا مع القارئ والذاكرة، وتؤكد الوعي القَلِق.
والمدخل السلوكي يظهر تحوّل الراوي من طفولة أنانية إلى كهولة تائبة باحثة عن المعنى.

سأربط الآن بين التساؤلات والمدخل السلوكي من جهة، والتجربة الإبداعية من جهة أخرى، حتى نرى كيف تحوّل البوح الفردي إلى مادة فنية في رواية نجم الدين صانع العطور:
التساؤلات كمدخل إبداعي:
الرواية تقوم على التساؤل المستمر بدلًا من تقديم أجوبة جاهزة، وهذا يعكس نضجًا فنيًا. التساؤلات ("هل يمكن أن نخاف ونحب ذات الشخص؟"، "هل أنا المذنب حقًا؟"، "هل من المنطقي أن يترك والد ابنه؟") تحوّل السرد إلى بحث مفتوح عن الحقيقة.
هذا يجعل النص أشبه بـ محاكمة ذاتية، حيث البطل هو القاضي والمتهم في آن. وهنا يبرز البعد الإبداعي: تحويل الاعتراف الشخصي إلى جدل فلسفي مفتوح مع القارئ.
تماهي التساؤل والسلوك في التجربة الإبداعية
الأسئلة التي يطرحها البطل ليست أسئلة فكرية مجردة، بل هي ترجمة سلوكية لصراعاته.
سؤال: "هل يمكن أن نخاف ونحب ذات الشخص؟" يأتي بعد سلوك متناقض تجاه الأب وصالح.
سؤال: "هل أنا المذنب؟" يأتي بعد سلوك أناني في الطفولة.
سؤال: "هل من المنطقي أن يترك والد ابنه؟" يأتي بعد تجربة شعورية بالخذلان.
إذن، التساؤل هنا انعكاس للسلوك، وكلاهما يتحول عبر الكتابة إلى مادة إبداعية تجعل الرواية أكثر صدقًا وعمقًا.
و الخلاصة:
التجربة الإبداعية في نجم الدين صانع العطور تكمن في قدرة الكاتبة على تحويل:
التساؤلات إلى بنية فلسفية–اعترافية تفتح النص على القارئ.
السلوكيات الطفولية والشخصية إلى دراما سردية تكشف المأساة الإنسانية.
وبهذا، يصبح النص أكثر من حكاية فردية؛ إنه تجربة إنسانية عامة تُحاكي القارئ في صميم قلقه واغترابه.

• المستوى الإيحائي الرمزي
الرواية غنية بالرموز التي تتجاوز دلالتها المباشرة لتشكّل بنية رمزية تنعكس على موضوع الغربة والفقد والهوية.
العصفور الميت – رمز البراءة المهدورة
يقول البطل عن أخيه صالح:
"لقد أردتُ أن أحتضن العصفور وألهو معه؛ ولكنّه مات،ثم نظر إلى العصفور وبكى قائلًا: صالح شرير، صالح سيّئ، صالح سيذهب إلى النار" (ص. 23).
العصفور هنا رمز للبراءة والطفولة، وموته يفتح جرحًا مبكرًا يجعل الذنب والاغتراب رفيقين دائمين للراوي.
الخرابة – رمز الموت والفزع الوجودي
"تلك الخرابة التي لطالما ارتعدنا خوفًا عند ذكرها… بدت أمامي بجدارها المهدم، وقصص أشباحها المرعبة ودُجّيلتها القابعة في أحد أركانها تنتظر حلول المساء لتخرج تحت ستار عتمته لتخطف الأطفال" (ص. 22).
الخرابة ليست مجرد مكان مهجور، بل رمز للفناء والقدر الذي يهدّد الإنسان منذ الطفولة.
العطر – رمز الذاكرة والهوية
"أحسستُ أنّ تلك العطور في قبو خالي قد تسرَّبت لعروقي…وبسرعة مذهلة تشرّبت تصنيع العطور وتركيبها" (ص. 168).
" لم تعد الروائح بكل أشكالها متصلة بحاسة الشم فقط، بل أصبح لكل رائحة أشتمّها صورة تتكوّن في عقلي قتضفي عليها وجهًا وكيانًا يحفر في ذهني... " ص 169
العطر هنا رمز للذاكرة المتجسّدة؛ هو وسيلة البطل لمقاومة النسيان وإعادة تشكيل هوية مفقودة.
الغربة – رمز الاغتراب الوجودي
"مدينتي التي لم تعد مدينتي وكأنني نبتة شيطانية خرجت من رحم أرض مهجورة" (ص. 279).
الغربة تتحول من مجرد شعور إلى رمز وجودي يختزل انفصال الإنسان عن ذاته ومكانه.
بهذا نرى أن المستوى الرمزي يتكامل مع النفسي والبصري والديناميكي ليؤسس لبنية سردية ملحمية–رحلية، حيث تتحوّل الأشياء (عطر، عصفور، خرابة) إلى رموز لحياة كاملة من الغربة والصراع.

التجربة الإبداعية
تجربة ريم عبد الباقي تقوم على صياغة سيرة ملحمية–رحلية، حيث الفرد (نجم الدين) يتحوّل إلى شاهد على تحولات المجتمع، والرحلة الفردية تصبح مرآة لرحلة أمة في الغربة والتحول. العطر هنا ليس مهنة فقط، بل استعارة كبرى لالتقاط الذاكرة وحفظ الهوية، تمامًا كما يحفظ العطر أثره في الزمان والمكان.
الإبداع يكمن في مزج الاعتراف بالملحمي والرحلي، ليخرج النص من حدود السيرة الفردية إلى أفق أوسع يجعل القارئ يعيش رحلة نجم الدين كرحلته الخاصة.
في الختام:
تأتي رواية "نجم الدين صانع العطور" لتشغل موقعًا مميزًا في بنية السرد الروائي العربي المعاصر؛ فهي لا تكتفي بتقديم سيرة فردية لبطل مأزوم بالغياب والغربة، بل تتجاوزها إلى صياغة سرد ملحمي–رحلي، تتقاطع فيه الذاكرة الشخصية مع التاريخ الجمعي، والبوح الاعترافي مع الأسطورة والرمز، والواقع المعيش مع التراث الديني والشعبي. بهذا الامتداد الزمكاني، تقترب الرواية من تقاليد الرواية–النهر (roman-fleuve) التي ترصد التحولات عبر أجيال وأمكنة، لكنها في الوقت ذاته تحتفظ بحميمية المونولوج الاعترافي الذي يجعلها صوتًا فرديًا صادقًا.
على الصعيد الوجداني، تترك الرواية أثرًا عميقًا في القارئ؛ إذ تستثير تعاطفه عبر ثنائية الذنب والتكفير، وتجعله شريكًا في التساؤلات الوجودية التي يطرحها البطل، من معنى الحب والخوف إلى جدوى الرحلة وطبيعة الغربة. إن حضور الأم الغائبة، وصالح المختلف، والعطر بوصفه ذاكرة حيّة، كلها عناصر تبني شبكة وجدانية تجعل القارئ يتأمل حياته الخاصة في مرآة النص. فالرواية لا تُقرأ فقط، بل تُعاش؛ إذ تعيد تشكيل الحس الإنساني بالغربة، والفقد، والبحث عن معنى.
وبهذا، تثبت نجم الدين صانع العطور أن السرد الروائي قادر على الجمع بين التوثيق والرمزية، بين الرحلة الفردية والملحمة الجماعية، وبين الاعتراف الذاتي والأثر الوجداني الكوني، لتكون إضافة أصيلة في مسار الرواية العربية، ومرآة صادقة للإنسان في مواجهة الزمن والذاكرة والغياب.

#دعبيرخالديحيي الإسكندرية – مصر 9 سبتمبر 2025






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مُتَيَّمة بالنور: دراسة ذرائعية في البنية اللسانية والجمالية ...
- -صلاة القلق: رمزية الخوف والتضليل السلطوي الإعلامي- دراسة ذر ...


المزيد.....




- فاطمة الشقراء... من كازان إلى القاهرة
- هل يعود مسلسل (عدنان ولينا) من جديد؟!
- فيلم -متلبسا بالسرقة-.. دارين آرنوفسكي يجرب حظه في الكوميديا ...
- طالبان وتقنين الشعر.. بين الإبداع والرقابة
- خطأ بالترجمة يسبب أزمة لإنتر ميلان ومهاجمه مارتينيز
- فيلم -هند رجب- صرخة ضمير مدويّة قد تحرك العالم لوقف الحرب عل ...
- خالد كمال درويش: والآن، من يستقبلنا بابتسامته الملازمة!
- فنانون عالميون يتعهدون بمقاطعة مؤسسات إسرائيل السينمائية بسب ...
- الترجمة بين الثقافة والتاريخ في المعهد الثقافي الفرنسي
- مسرحية -سيرك- تحصد 3 جوائز بمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عببر خالد يحيي - دراسة ذرائعية في الغربة والذاكرة بين السرد الملحمي وأدب الرحلات في رواية -نجم الدين صانع العطور- للكاتبة السعودية ريم عبد الباقي بقلم الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي