أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - أوتار بابل ونايات الرافدين: الموسيقى في الحضارة العراقية وأصداء الخلود














المزيد.....

أوتار بابل ونايات الرافدين: الموسيقى في الحضارة العراقية وأصداء الخلود


حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8457 - 2025 / 9 / 6 - 02:54
المحور: قضايا ثقافية
    


منذ فجر الحضارات الأولى، حين كانت بابل ترسم أبجديتها على الطين، وحين كانت سومر تدون ملاحمها على ألواحها المشتعلة بالأساطير، وُلدت الموسيقى في بلاد الرافدين كابنة شرعية للنهرين العظيمين. هناك، في مسارح المعابد ودهاليز الزقورات، لم تكن الأنغام مجرد ترفٍ أو تسلية، بل كانت لغة مقدسة، تعويذة روحية تلامس الآلهة وتسترضي السماء. أول وترٍ اهتز على قيثارة سومرية لم يكن سوى صرخة وجود، وأول أنشودة ارتفعت من حنجرة مطربة عراقية في عصور فجر التاريخ لم تكن إلا إعلانًا بأن هذا الشعب، مهما تبدلت العصور، هو شعب الصوت والإيقاع.لقد عُثر في أور، مهد الملوك والكهنة، على قيثارات ذهبية تعود إلى أكثر من أربعة آلاف عام، مزيّنة برؤوس الثيران، لتشهد على أن العراق هو أول من اخترع اللحن الموزون وأول من جرّب الأوتار ليخلق منها فناً يتجاوز حدود المكان. كانت أصوات المغنيات السومريات، مثل الكاهنة إنخيدوانا، وهي أول شاعرة ومغنية مسجلة في تاريخ البشرية، تحمل القصائد إلى الآلهة بصوت مهيب، وكأنها تُدخل الشعر في حضن الموسيقى لتصنع منهما وحدة خالدة. ومن هذه الجذور وُلدت المدرسة الغنائية التي عبرت من سومر إلى بابل وآشور، ومنها تسربت إلى الإغريق الذين بنوا فنونهم على أنغام جاءت من الشرق، من العراق تحديدًا.في بابل، تحوّل العزف والغناء إلى طقس اجتماعي وثقافي، حيث كان المطرب أو المطربة جزءًا من الموكب الملكي، لا يقل شأنًا عن الكاهن أو الحكيم. وكانت النايات والطبول تدوي في الاحتفالات، تُعلن انتصارات الملوك وترافق طقوس الخصوبة والحصاد. أما الآشوريون فقد طوروا آلات النفخ والوتر، وجعلوا من الموسيقى وسيلة للحرب والسلام معًا، فكان الطبل رمزًا للقوة في المعارك، وكانت الأناشيد ترتفع في المعابد كبخور يتسلل إلى آذان السماء.ولم يتوقف الإبداع عند الحضارات القديمة، بل امتد إلى العصور الإسلامية حيث برزت بغداد، حاضرة الدنيا وزهرة الكون. هناك، في مجالس الخلفاء العباسيين، تجلى إسحاق الموصلي وإبراهيم الموصلي وزرياب، الذين أخذوا روح الموسيقى العراقية ليزرعوها في الأندلس، فتتحول لاحقًا إلى بذرة النهضة الأوروبية. كان أول وترٍ عراقي يعزف في بلاط بغداد هو البذرة التي أنبتت لاحقًا السيمفونيات العالمية، وما من لحن في الغرب إلا وفي جذوره صدى بعيد من أنغام دجلة والفرات.
حتى في القرن العشرين، حين دخل العراق مرحلة الحداثة الفنية، بقيت الموسيقى مرآة لروح هذا الشعب. من حضن المقام العراقي، الذي يُعد أعرق مدرسة غنائية في الشرق، خرجت أصوات خالدة مثل ناظم الغزالي وزهور حسين وسليمة مراد، الذين جمعوا بين الحنين السومري والشجن العباسي والعاطفة الحديثة. فالمقام، وهو بناء لحني عراقي صرف، حمل هوية هذا الوطن إلى العالم، وأثبت أن الموسيقى العراقية ليست مجرد فن بل فلسفة في الغناء والبوح والخلود.إن أول مطربة عراقية لم تكن سوى امتداد لكاهنات سومر وبابل، وأول مطرب لم يكن سوى ظلٍ لإسحاق الموصلي وزرياب. أما أول وترٍ اهتز في تاريخ الإنسانية فقد كان وترًا عراقياً، صنعه صائغ سومري أو بابلي ليعلن للعالم أن الأنغام قادرة على تجاوز حدود الطين والحجر، وأن ما يقال باللحن أعمق مما يُقال بالكلمات. ومن ذلك الوتر تفرعت الموسيقى العالمية، من الموشحات الأندلسية إلى الأوبرا الإيطالية، ومن التخت الشرقي إلى الأوركسترا السيمفونية.وهكذا، حين نصغي اليوم إلى أغنية عراقية، أو إلى مقام ينساب من حنجرة بغدادية، فإننا في الحقيقة نصغي إلى آلاف السنين من الذاكرة. نصغي إلى سومر وهي تغني للآلهة، إلى بابل وهي تحتفل بالخصب، إلى بغداد وهي تصوغ أعظم مدارس الغناء، إلى الأندلس وهي ترسل أنغامها إلى أوروبا. إن الموسيقى العراقية لم تكن يومًا مجرد تاريخ، بل كانت هوية وخلودًا، ومن أوتارها الأولى حتى آخر حنجرة تغني اليوم، يبقى العراق معبد الألحان ومهد الغناء الأول في العالم.



#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميلاد النور
- الضبياني… مراثي الطاعة وأغاني الحرية
- اتركوا بهرز لأهلها
- أول من نطق العربية: بين الأسطورة والتاريخ
- حين تُصبح السيولة سراباً.. المتقاعد بين جدار الجوع وجدار الس ...
- على رصيف الانتظار
- على سُلَّم العشق
- أنا لا أرى غيرَك
- عندما تبتلع الرمالُ أقدام الممالك
- وعد الحُلم
- الهويدر.. أغنية القدّاح على ضفاف ديالى
- -قلب الأنقاض الذي يتنفس-
- فقاعات الزمن: المدينة التي تسبح في الخيال
- كنفاس الشوق في منفى الروح
- نشيد الشوق
- الأمة بين سيف الغزاة وخيانة الأقرب -
- فضل شاكر.. العائد من غياب الحنين
- صباحُكِ ريما
- -ريما.. سفر العاشقين-
- المدن الغارقة: عندما تختفي حضاراتنا تحت الماء


المزيد.....




- الشرطة البريطانية تحتجز أكثر من 425 شخصاً خلال مسيرة رافضة ل ...
- عون يدعو واشنطن للضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي اللبنا ...
- القائد الجديد للقيادة الأميركية الوسطى يزور إسرائيل ويؤكد ال ...
- هجوم مدينة غزة يُثير احتجاجات إسرائيلية واسعة النطاق بشأن ال ...
- محللون: ترامب يحاول تحقيق أهداف إسرائيل وحديثه عن المفاوضات ...
- -مسار الأحداث- يناقش مستقبل الحرب في ظل حديث ترامب عن مفاوضا ...
- الاحتلال يدمر 90% من مباني قطاع غزة
- نهشته حتى الموت.. سمكة قرش تقتل رجلًا قبالة شاطئ سيدني في أو ...
- إسرائيل تستعد لخطوة كبرى تجاه إيران
- الحرب على غزة مباشر.. استمرار القصف بالقطاع وأغلبية وزراء ال ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حامد الضبياني - أوتار بابل ونايات الرافدين: الموسيقى في الحضارة العراقية وأصداء الخلود