أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - عبد الجبار عباس: قامة نقديّة باسقة















المزيد.....

عبد الجبار عباس: قامة نقديّة باسقة


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8443 - 2025 / 8 / 23 - 11:13
المحور: سيرة ذاتية
    


حين يُذكر النقد في فضاءات الأدب العراقي الحديث، يبرز اسمُ عبد الجبار عباس بوضوحٍ كأحد أبرز أعلامه. فالنقد، ذلك الشعاع الواعي الذي يضيء مسالك الوجدان الثقافي، يجد في عباس مثالًا للناقد الذي جمع بين الحس الشعري والعمق التأملي. وقد أكّد كثير من الدارسين أنّ اسمه “واحدٌ من الأسماء المتميّزة في ميادين النقد العراقي الحديث”، وصار عند محبي الأدب رمزًا لحسّ نقديّ متأنٍّ وشغف عاطفيّ رفيع. في تناولنا لهذه السيرة النقدية، نُبحر في رحاب ذاكرة هذا الناقد الفذ، متحدّثين عن أصالته وذكرياته الشعرية، وتأثيره العميق في بناء الوعي الأدبي العربي، بعيدًا عن جفاف التقارير ومباشرة التحليل الأكاديمي.
وُلد عبد الجبار عباس في مدينة الحلّة عام 1362هـ - 1941م لأبٍ يعمل عطّارًا متواضعًا، فأُطلق عليه بين أقرانه لقبُ «ابن العطار». تنشّأ على جنبات الأسواق والهندسة العمرانية لتلك المدينة التاريخية، لكنه حمل حلمًا كبيرًا نحو سماوات الثقافة. تلقّى تعليمه المبكّر في مدارس الحلة، ثم انتقل إلى بغداد حيث التحاق بكلية الآداب – جامعة بغداد، وتخرّج منها سنة 1964م حاملاً شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها تحت رعاية أستاذه الشابّ علي جواد الطاهر، شرب عباس من فيض النقد الانطباعي؛ يقول الطاهر عنه: “فيه موهبة ووقفة واعية متأنية تدرك سرّ النص”، فقد زرع الطاهر في تلميذه بذور الحس الحرّ والتأمّل الصادق.
كان عباس الشاب شغوفًا بمعايشة الأدب، ولم يرَ مستقبله مقيدًا بدوامٍ رتيب أو وظيفة ثابتة. بعد تخرّجه عاد إلى الحلة ثم بغداد، فكتب مقالاته الأولى في الصفحة الأدبية لجريدة "الأنباء الجديدة" ومجلة "الكلمة" ولئن اضطُلِع لأوقات قصيرة بوظيفة صحفية، فقد لم يتحمل طوق التنظيم الروتينيّ، فسرعان ما ترك إذاعة بغداد عام 1970 متخففًا إلى دفء القلم الحرّ.
. عاشَ عباس على الكتابة والتحرير، فأدار ركنًا نقديًا في جريدة "الراصد العراقيّة"، وتعاون مع جريدة "الثورة" ببغداد بمقالات نصف شهرية. ورغم فقر مادي كان يدركه مع أصدقائه الأدباء في شقةٍ متواضعة وسط بغداد، فقد ابتذلوا كلّ ما يملكونه من مالٍ على اقتناء الكتب والمجلات.
يحكي الشاعر رزاق إبراهيم حسن عن تلك الفترة: "كنا لا نملك غير رواتب ضئيلة، وكل ما في حوزتنا ينتهي قبل الشهر. فَكُنّا نَدخر القليل للمعيشة، والباقي على القراءات… ولم يألُ عبد الجبار جهدًا في طلب العلم، رغم ضيق الحال". بهذا التفانِ والإصرار، رسم فتى الحلة طريقه نحو النجومية النقدية، مقدّمًا صورةً ساخرة عن نفسه حين كان يفضّل "الحياة الحرة على قيد الوظيفة والدوام الرتيب.
أفنى عبد الجبار عباس جلّ حياته في بناء تراث نقدي متين، فأسهم بكتبٍ ومقالات عن أدب الشعر والقصة. صدر أول مؤلف نقدي له عام 1970 بعنوان "مرايا على الطريق"، وكان جديدًا في فكرته حيث تعامل مع النص الأدبي منطلقًا من جوهره الداخلي ومعزولًا عن أيّ مرجعية نقدية مسبقة. يوصف هذا الكتاب بأنه "من أهم الكتب النقدية التي تعاملت مع النص لوحده بمعزل عن أيّ مرجعية لنقاد آخرين"، حتى سُرّح في كُتيّبات صدرت لاحقًا. ثم صدر في عام 1971 كتابه "السيّاب"، الذي يُعتبر "باكورَة جهد نقديّ متفرّد"، إذ كان أوّل دراسة عراقية شاملة مُخصصة لشاعر واحد. وقد بنى فيه عباس تأملاته حول مفردات مثل الموت والتضحية والحداثة في شعر بدر شاكر السياب، كاشفًا عن قدرةٍ فذّة على نسج الفكرة النقدية من عمق التجربة الإبداعية. ولاحقًا جمع تجربة عقد كامل من الكتابة في كتاب "في النقد القصصي" (1980م)، الذي اعتبره خصيصة مهمّة في حياته المهنية. شملت كتاباته النقدية أضواء على القصة والمسرح والمقالة، كما كان قارئًا جادًّا للأدب العربي والمترجم، فكتب في ظل موجة الثقافة نحو مصر عن نجيب سرور وصلاح عبد الصبور ونجيب محفوظ.
ولم يكتفِ بالكتابة محليًا؛ فقد نشر العديد من مقالاته في أبرز المجلات العربية. تقول المصادر إنَّ عباس كان يكتب المقالة الفنية النقدية بحرية أوسع في مجلّة "الآداب" اللبنانية التي احتضنت نتاجه، فضلاً عن مجلّتي "الأقلام" و"الكلمة"، وبهذه الإطلالات العربية، نجح في أن يرسخ اسمه كناقدٍ عابر للحدود، قائمٍ بذاته على الميدان النقدي بغضّ النظر عن أية تبعيات حزبية أو فكرية، ولئن اشتهر بسلاسة أسلوبه وغنى آرائه، فقد عرف كذلك بفخره بنهج "النقد الانطباعي". فلم يُخفِ رجاءه في هذا الاتجاه النقدي، بل أعلن مرارًا: "أجهر بأنّي ناقدٌ انطباعي" ، وشدّد على أنّ الناقد لا يقتل الأدب باستدعاء علوم النفس والاجتماع بل بالعكس "يرى في الاستعانة بها دون جمود سلاحًا نافذًا في تحقيق هدفه"، وبقي يؤكّد أنه ناقدٌ مستقٍ رؤاه من الموقف الإنساني الخاص، لا مقولات الآخرين أو منصّاتهم، وأنَّه يسعى لغنيّ التعامل النقدي «بألوانٍ متعددة من المعرفة» شرط تمثّلها تمثلاً ناضجاً .
ولعلّ عبقريته في الاشتغال على النص بحدّ ذاته، وتنويعه للمنهجيات دون تجزئة، كانا سببًا في اعتراف الطاهر به "فتيّ النقد الأدبي في العراق". فقد أجمع من عرفوه على تكريم موهبته الفكرية. فقد وصفه أستاذه علي جواد الطاهر مرارًا بمنتهى الاحترام، إذ قال إنّ "عباس ناقل موهبةٍ حقيقية، وذائقته الشعريّة تمنحه رؤية نادرة للنصوص" وفي تقديمه لمنشوراته بعد وفاته، أشاد الطاهر بقدرات عباس النقدية: "قلمٌ متمكِّنٌ ورأيٌ وطيدٌ يلمُّ بأركان موضوعه مهما اتسع"، في إشارةٍ إلى تمكّن عباس من صوغ أحكامه بلغة متسقةٍ وجيّدة. ومن جهته، علّق الناقد حسين سرمك قائلاً إنّ " الناقد الانطباعي الذي دافع عن رأيه بعلمية"، حين استذكره في ذكرى رحيله، مجسّدا مكانته كرمزٍ للتفكير النقدي المحرّر.
كما تؤكد الدراساتُ النقدية على فرادة عباس في خارطة الأدب. فهو – كما كتب بعضهم – أيقونةٌ للتفكير المختلف والصادق الذي أصاب أرجاء الحلة وصدى في أرجاء العراق. وبقي في نظر زملائه مفكّرًا حُرًّا بعينه، "مهتمًا بأن يطوّر تعامل النقد بألوانٍ معرفيّة متعدّدة" دون تقييدٍ بأيّ مرجعية جامدة. وقد لاحظوا أنه – إن كان لا يخضع لمنهج معيّن – فهو دوماً يحمل إتقان البحث وغزارة المعرفة؛ إذ كان يتصفح دواوين الشعراء ويقرأ التراث والفلسفة والسيرة والعلوم الإنسانية. وعُرف عنه عدم تسليم القلم إلا لذائقته الفنية الحيّة، فكان يجد غضب بعض المعاصرين إذا لم يكتب عنهم، واستياء آخرين عندما أثنى عليهم بصدق. كلُّ هذه السمات رسمت له مكانةً متميّزة في الوعي الأدبي العراقي والعربي، جعلته رمزًا نقديًا خالد الذكرى.
وبرحيل عبد الجبار عباس في الثالث من ديسمبر 1992م، خيم أسفٌ عميقٌ على الوسط الثقافي العراقي، لكن روحه لم تفنَ مع الجسد؛ فما زالت مقالاته ودراساته تُقرأ وتُناقش، وحاله النقديّة تلهم الأجيال. فقد ترك في «بيوت المدى» وندوات الثقافة اسمه وقلمه كثرى في زرع المعرفة والحبّ الصادق للكلمة. ويظلُّ مصطلحه النقدي وبرهاناته الفكرية حفرى لا تُمحى في ذاكرة الأدب العربي. إنّ «فتى الحلة» الذي سار في مسلك الحرية لا حدود للتفكير، بات أسطورةً رمزيةً في خارطة الثقافة العراقية، تسمو لوائحنا باسمه وهو يغدو خالدًا في وجدان الأدباء والنقاد على السواء.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فوزي الطائي شاعر القصيدة المتأملة وباحث النصوص العميقة
- حسام آل زوين.. بين جمر التجربة ولهيب الكتابة
- سلام كاظم فرج القاص والناقد الذي كتب بضمير الوطن
- فلاح الرهيمي حارس الفكرة وناقل الشعلة
- الشاعر أكرم بخيت حين يُزهرُ الحزنُ على ضفاف الفرات
- ولاء الصواف حين تصير الأرض شعرًا والقصيدة خريطة للروح
- عدنان سماكة نبض الحلة الثقافي وسادن التراث
- عبد الله كوران الشاعر الذي أعاد ترتيب أنفاس الجبال
- عدنان البراك... مسيرة النور والوفاء
- صلاح حسن شاعر الطفولة والغربة وصوت العبور إلى ضفاف جديدة
- كوكب حمزة مُلحِّن النَّغَم الثائر ورفيق المنفى الطويل
- صادق الطريحي الشاعر الذي مشى إلى اللغة بأجنحة من رؤيا
- عادل حبه: شاهد قرنٍ مضرجٍ بالخيبات والأمل
- في عيد الصحافة الشيوعية... حين تُقاتل الكلمة
- الخطيب الثائر محمد الشبيبي
- الشهيد الذي كتب بالحبر والدم: عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
- عبد الرزاق الصافي: نبضُ الصحافةِ الحمراء وقلمُ الفكرة الواضح ...
- قاسم محمد حمزة... صوت الشعب الذي أعدمه الطغيان
- عبد الأمير محيميد... ربيع الشوملي الذي أزهر في فجر الإعدام
- المقدم إبراهيم كاظم الموسوي... نبيلُ الحلة ودرعُ الثورة الذي ...


المزيد.....




- شريكة جيفري إبستين عن ترامب: لم أر أي شيء غير لائق منه.. وكا ...
- كارثة جوية كادت تقع.. كاميرا توثّق انكسار جناح طائرة دلتا
- تعويضات بملايين الدولارات.. مسافرون يقاضون شركتي طيران بسبب ...
- -البقعة الزرقاء-.. كلمة السر التي تتحكم بذكرياتنا
- بعد رفض حزب الله تسليم السلاح .. إلى أين يتجه لبنان؟
- يديعوت أحرنوت: إسرائيل تعزز أسطولها بطائرتين لتزويد الوقود ف ...
- فيديو: مغاربة يحيون ذكرى إحراق الأقصى برفض -محرقة- غزة
- مسؤول إسرائيلي: حماس ما تزال تحتفظ بـ20 ألف مقاتل وحجم السلا ...
- إدارة ترامب تقيل رئيس وكالة استخبارات الدفاع بعد تقرير حول ا ...
- ألمانيا ترصد تزايدا في محاولات التحايل خلال اختبارات القيادة ...


المزيد.....

- أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد علي محيي الدين - عبد الجبار عباس: قامة نقديّة باسقة