أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة في الفروقات الصغيرة يكمن التميّز.















المزيد.....

مقامة في الفروقات الصغيرة يكمن التميّز.


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8437 - 2025 / 8 / 17 - 14:54
المحور: الادب والفن
    


مقامة في الفروقات الصغيرة يكمن التميّز:

يُقال إن الشعر يكمن في التفاصيل , وكثيرًا ما كان الشعراء يصفون جمال محبوباتهم بتركيز على فروق دقيقة لا يراها إلا العاشق المتأمل , ولعل أبا فراس الحمداني كان يلمح إلى هذا المعنى حين قال : (( وَبِـعَضِّ النَّـوَى أَسِيـراً لِيَـرَى أَيُّها أَحْـلَى وَأَيُّها أَمَرُّ)) , هنا يصف كيف أن الفرق بين الشيء الحلو والشيء المر هو فارق دقيق يكاد لا يُرى , إلا أن تذوقه هو الذي يكشف الفارق الجوهري بينهما, كان بعض الشعراء يربطون بين التفاصيل الصغيرة والشخصية , فالفروق البسيطة في السلوك أو المظهر هي التي تكشف عن جوهر الإنسان , يقول الشاعر: (( وَيَخْتَـلِفُ النَّاسُ فـي خُلُقٍ وَشِيمَةٍ وَفِي بَعْضِ التَّشَابُهِ بَيْنَهُمْ فُرُقُ )) , يشير هذا البيت إلى أن الفروقات في الأخلاق والصفات , رغم التشابه الظاهري بين الناس, هي التي تحدد شخصياتهم.

لعل هذه المقدمة تنطبق بقوة على الفروقات البسيطة التي نميل غالبًا إلى إهمالها , تلك الفروقات , وإن بدت ضئيلة , هي التي تصنع الفارق الجوهري وتحدد الخصوصية والتميز, فكما يُظهر التشابه الجيني بين الكائنات , فإن القليل من الجينات المتباينة يمكن أن يخلق عالماً من الفروق , فالإنسان يتشارك مع ذبابة الفاكهة في 60% من جيناته , ومع الفئران في 85% , لكن الفارق الأكبر والأكثر إثارة للدهشة يأتي من الشمبانزي , حيث يتقاسم الإنسان معه ما يقارب 98.8% من الجينات, هذا الفارق الضئيل , وهو الـ 1.2% المتبقية , هو الذي يمنح الإنسان خصائصه الفريدة: قدرته على التفكير المجرد , وابتكار الأدوات المعقدة , وإنشاء الحضارات, هذا الفارق البسيط , على الرغم من ضآلته , هو جوهر ما يميزنا كبشر, وإهماله يعني إهمال ما يجعلنا (( نحن )) .

لا يقتصر هذا المنطق على الفروقات الجينية فحسب , بل يمتد ليشمل كل جوانب حياتنا , إن التميُّز الحقيقي لا يأتي من تغييرات جذرية وشاسعة , بل من تعديلات دقيقة قد تبدو تافهة للوهلة الأولى , خذ على سبيل المثال مقطوعة موسيقية لموزارت, عندما نقارنها بأخرى لموسيقار محترف لكنه غير مشهور, قد لا نجد فروقًا ضخمة في النوتات أو الإيقاع , الفارق قد يكون مجرد كسر من الثانية في حركة أو لمسة فنية دقيقة , لكن هذه التفاصيل الصغيرة هي التي جعلت موزارت خالدًا بينما ظل الآخر في دائرة (( الجيد )) , وفي الحياة الأكاديمية , يستطيع معظم الطلاب الحصول على الخمسين في المائة الأولى من الدرجات , لكن المهمة أصعب في الثلاثين التالية , ثم أصعب في الخمس عشرة التالية , ومع اقتراب القمة , تصير المنافسة ضارية على كسور الدرجات , وفي مضمار العدو الأولمبي , يفوز الأبطال بكسور من الثانية لا يدركها العقل البشري دون أداة رقمية .

لو صممنا نظاماً يعامل من حصل على 98 في المائة كمن حصل على الدرجة الكاملة , ورأينا أن الفارق لا يستحق , فسنفقد العقول الأكاديمية الفذة , هذه التدخلات تشبه أن تنزع من غوريلا جيناتها التي تميزها عن الإنسان , ثم تتركها في قسوة الغابة , أو أن تنزع من الإنسان قدرته على الكلام وصناعة الأساطير, ثم تدعوه ليلقي كلمة في ((تيك توك )) , تلك هندسة جينية ضررها واضح للعين , والهندسة الاجتماعية التي تلغي الفروق بين الأفراد بعبارة (( لا فرق )) تشبهها في الضرر, لكنها متوارية. نحن لا نتحدث هنا عن الفروق الجينية , بل عن منطق التمايز , التميّز يعتمد غالباً على فروق ضئيلة إلى درجة تُغري بتجاهلها , رغم أنها الفارق الذي يُحدث الفارق فلا تستهينوا بجملة (( لا فرق )) , فهي أول فأس في هدم التميّز .

من ناحية اخرى لا تُلغى الفروق غالباً بقرار مباشر, بل بطريقة عكسية : تخفيف شروط المنافسة إلى حد يفقد معها التصنيف معناه , ما دمت تقرأ وتكتب بلغة منضبطة , فأنت صحافي , ما دمت قادراً على قيادة سيارة فلماذا لا تشارك في سباق محترفين؟ ما دمت مهندساً , فصمّم لنا دار الأوبرا , في الشركات الخاصة , لن تسمح لنفسك بهذا , لأنك ستدفع الثمن , لكي تربح , يجب أن تكون جواهرجياً : يقدّر الذهب , ويزن الفروق بالغرام والميليغرام , و في عالم كرة القدم , تتنافس الأندية على المواهب , وتقيّم بدقة الفروق بين ميسي , ورونالدو , وراشفورد , ونونيز , تُعيد الحسابات وتراجع نفسها , لأن الفروق الصغيرة ضخمة التباين في الربح أو الخسارة , بهذه العقلية يتلاقى الجميع في الممر نفسه: من المواهب , والمديرين , والمستثمرين , والنتائج , وكشوف الحسابات , والجماهيرية.

بالأضافة لذلك لا تظنوا أن التميز يدفن استهدافاً وعمداً , بل يكون جهلاً بطبيعته , أحياناً لأنه فوق مستوى الإدراك : فالعين لا ترى الحاجب , والخيال الضيق لا يستوعب الواسع , وأحياناً لأن البعض يعتقد أن السنتيمتر هو السنتيمتر, سواء كان أسفل الزانة أو أعلاها ,وستختل المعادلة بمجرد أن يختفي العقاب المالي على القرارات السيئة, حين تتحكم في ما لا تملكه , كما في القطاع العام , ما الذي يمنعك من تفضيل سعيد الجيد على أسعد المتفوّق؟ أو من مساواة الـ98 في المائة بالدرجة الكاملة؟ في الواقع ربما تكسب أكثر في رد الجميل , وليس صدفة أن مجتمعات التملّك الحر والاقتصاد الرأسمالي أكثر غزارة في المواهب من غيرها , وليس صدفة أنه حين يتحكم الموظف البيروقراطي في الفن , تندر المواهب.

(( لا فرق )) تكلف المجتمعات سنوات ضائعة , وتحرمها من أعزّ ما فيها : مواهبها , (( لا فرق )) آلة شفط المواهب من على المسرح وهرسها أو الإلقاء بها في مقاعد المتفرجين المتحسرين , (( لا فرق )) باب إلى خطوات قصيرة لخنق المستقبل , إن هذه الأمثلة تذكرنا بأن النجاح والتميز يكمنان غالبًا في الاهتمام بما هو ضئيل وليس فقط بما هو ضخم. سواء كان الأمر يتعلق بفارق جيني يحدد هوية كائن حي , أو بلمسة فنية تُخلد عملاً إبداعيًا , فإن هذه الفروقات الصغيرة هي التي تصنع الفارق الأكبر, إن تجاهلها هو تجاهل لجوهر التميز, فلنتعلم أن ننظر بعمق , وأن نقدر الفروقات مهما بدت قليلة , لأنها غالبًا ما تكون الأساس الذي يقوم عليه كل شيء عظيم.

صباح الزهيري .



#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة سيدوري .
- مقامة الكهرباء .
- مقامة البيلسان .
- مقامة العميان .
- مقامة الحنين .
- مقامة الفرح .
- مقامة عبثية .
- مقامة ألأستلال .
- مقامة الأقصاء .
- مقامة الصقيع .
- مقامة الجهل ( الحفر في العقول ) .
- مقامة السفراء .
- مقامة ألأمشجي .
- مقامة الونين .
- مقامة البحث عن السعادة .
- مقامة المسكون .
- مقامة سفلة السفلة .
- مقامة نبي بني عبس .
- مقامة بوصلة لطفية الدليمي .
- مقامة الرويبضة .


المزيد.....




- العمارة التراثية.. حلول بيئية ذكية تتحدى المناخ القاسي
- صدور -الأعمال الشعرية الكاملة- للشاعر خلف علي الخلف
- القدس تجمع الكشافين.. فعاليات دولية لتعزيز الوعي بالقدس وفلس ...
- زوار المتنزهات الأميركية يطالبون بسرد الوقائع الحقيقية لتاري ...
- استجابة لمناشدتها.. وفد حكومي يزور الفنانة المصرية نجوى فؤاد ...
- -أنقذ ابنه من الغرق ومات هو-.. تفاصيل وفاة الفنان المصري تيم ...
- حمزة شيماييف بطل العالم للفنون القتال المختلطة.. قدرات لغوية ...
- لتوعية المجتمع بالضمان الاجتماعي .. الموصل تحتضن اول عرض لمس ...
- -شاعر البيت الأبيض-.. عندما يفتخر جو بايدن بأصوله الأيرلندية ...
- مطابخ فرنسا تحت المجهر.. عنصرية واعتداءات جنسية في قلب -عالم ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة في الفروقات الصغيرة يكمن التميّز.