مروان صباح
الحوار المتمدن-العدد: 8432 - 2025 / 8 / 12 - 15:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مروان صباح / تُظهر التجارب الإنسانية أن بعض الأشخاص يتمتّعون بحضور ديناميكي يمنحهم تأثيراً يتجاوز حدود المهنة أو السياق الذي يعملون فيه ، وإذا كانت الكتابة الأدبية أو الفكرية تميل بطبيعتها إلى العزلة والانغماس في التأمل ، فإن العمل الصحفي ، على العكس ، يتطلب انخراطاً مباشراً مع الواقع الإجتماعي والسياسي ، ويستدعي قدرة على بناء العلاقات والتفاعل المستمر مع الآخرين ، وفي هذا الإطار ، تبرز تجربة الصحفي الفلسطيني أنس الشريف مثالاً بارزاً على التلاقي بين الالتزام المهني والانحياز الإنساني ، فقد تخلّى الشريف عن حياته الأسرية والراحة الشخصية لينغمس كلياً في تغطية ما يتعرض له الشعب الفلسطيني 🇵🇸 في قطاع غزة من إبادة جماعية وحصار وتجويع ممنهج ، وقد مكّنه حضوره الميداني المستمر من الوصول إلى مختلف بؤر الأحداث ، ما وفّر له منظوراً استثنائياً نقل من خلاله صورة الواقع بدقة وعمق إلى العالم الخارجي .
تتسم مقاربة الشريف للعمل الصحفي براديكالية واضحة ؛ فهو يرفض التماهي مع دور المتفرج ، ويؤكد أن “لا وطن إلا لغة المضطهدين”، وهو تعبير يعكس رؤية متجذّرة في أدبيات المقاومة والتحرر ، وقد جعلت هذه الرؤية من عمله الإعلامي معادلاً موضوعياً لرسائل السجناء الفلسطينيين إلى عائلاتهم خلف جدران السجون ، بما تحمله من صدق ومباشرة ورفض للانكسار ، وعبر مسيرته الميدانية ، تعرّض الشريف لمواجهة مباشرة مع البنى الأيديولوجية والسياسية التىّ تغذّي المشروع الاستعماري الاستيطاني ، بما في ذلك ارتباطاته الكولونيالية والرأسمالية ، وخلال عامي العدوان الأخيرين على غزة ، تطوّرت رؤيته للمسألة الفلسطينية ، ليصبح أكثر وعياً بالتقاطعات المعقّدة بين الحداثة والفكر الاستعماري ، وقد اتسمت تقاريره الميدانية بإبراز صور الصمود الشعبي الفلسطيني في مواجهة آلة القتل والدمار والحصار …
إن القدرة على تسخير هذه الديناميكية ، وغيرها ، في مواجهة الإبادة الجماعية ، ليست خالية من المفاجآت ، وفي المحصلة ، فإن أنس الشريف ، وكل من قضى على دربه من الصحافيين والإعلاميين وغيرهم ، ما هم إلا إمتداد لأحفاد “لشطرا البرتقال 🍊 ”، وهو التعبير الذي أستخدم لوصف العلاقة الأدبية والإنسانية بين الشاعرين الفلسطينيين محمود درويش وسميح القاسم ، كما ورد في أكثر من موضع في ديوان سميح القاسم وسيرة محمود درويش ، حيث كانا شاهدين على مأساة الفلسطينيين ، ومؤرِّخين لها بالكلمة والصورة ، فأنس ، ببساطة 🤷♂، فعل تماماً ما فعله القاسم في إحدى اللحظات المفصلية ، ففي عام 1991، وأثناء حرب الخليج الثانية ، أطلق صدام حسين 🇮🇶 صواريخ على إسرائيل 🇮🇱 ، فأصاب أحدها حديقة سميح القاسم ، وعندما سألته الصحافة الإسرائيلية عمّا فعل ، أجاب : “ولا أي شيء… أزحت الغبار بيدي وواصلت شرب قهوتي ☕ ” (القاسم، مقابلة صحفية، 1991) ، وعلى هذا النهج ، واصل أنس وزملاؤه مسح الغبار عن الكاميرات والدفاتر بعد كل قصف ، ومتابعة التغطية من بين الركام ، وكأنهم يستحضرون كلمات محمود درويش في قصيدة “عابرون في كلام عابر” درويش ، أحد عشر كوكباً ، أو كما قال القاسم في سقوط الأقنعة : “فوقكم جهنم ، وكل الأرض تحتكم جهنم”.
هذه الروح التىّ تجلت في أنس ، وقبله وائل الدحدوح ، لم تأتِ صدفة ، بل كانت نتيجة طبيعية لإرث ثقافي وأدبي أسّسه محمود درويش عبر أعماله ، حيث وضع الحكاية الفلسطينية أمام الضمير الإنساني ، وكان من أقوى الأصوات وأكثرها تأثيراً في التعبير عن عذابات شعب تحت الإحتلال الدموي ، فمن قصيدته الاندفاعية والعاطفية “سجّل أنا عربي” الواردة في أوراق الزيتون (1964) ، إلى قصائده الفلسفية في دواوين لاحقة التىّ دعت الإحتلال إلى إجلاء الأرض لأصحابها الأصليين ، ظل درويش يجسد جوهر السردية الفلسطينية ، جامعاً بين قوة الكلمة وصدق التجربة …
تُمثل غزة اليوم رمزاً عالمياً للصمود والمقاومة في وجه الإحتلال والعدوان ، إن الإدعاء بأن الفساد أو الإنكسار أمرٌ حتمي في ظل هذه الظروف ، هو طرح مرفوض ، لأنه يكرّس ثقافة الإفلات من العقاب ، إن ما قدّمته غزة ، لا سيما خلال السنوات الأخيرة ، يعيد للأذهان الدرس الأول في المقاومة ، ليس فقط في بعدها العسكري ، بل أيضاً في بعدها الثقافي والنفسي ، لقد قاوم أهل غزة بكل ما يملكون من إرادة وصمود ، واستحضروا أحلامهم بعناد وسخرية حتى في أصعب الظروف ، حافظوا على الأمل حتى عندما كانت ومازالت المواجهة تتطلب الإنتقال من شارع إلى آخر ، ومن بيت إلى بيت ، ومن فوق شهيد إلى آخر ، ومن مشاهد الأمهات اللواتي يبكين أبناءهن وأزواجهن وآباءهن ، وهن يفسحن الطريق للمقاتلين دون إستسلام ، تختزل صورة الفلسطيني منذ ميلاده على هذه الأرض : لا ينحني ، ولا يستسلم ، بل يمضي منتصب القامة ، وفي كفه بندقية أو ميكروفون 🎤 ، وفي الكف الأخرى نعشه ⚰ ، هذا المعنى عبّر عنه الشاعر سميح القاسم في بيته الشهير : “يا عدو الشمس 🌞 ، لكن لن أساوم ، وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم” ، كما تتردد على ألسنة الفلسطينيين مقاطع شعرية تصف فقدان البيوت والزهور والذكريات ، وتربطها بالاغتراب القسري : “أحكي للعالم ، أحكي له ، عن بيت كسروا قنديله ، عن فأس قتلت زنبقة ، عن حريق أودى بجديلة … كنا ما أجمل ما كنا ، يا بنت الجار ويا حنا ، فلماذا صارت أعيننا بالغربة مجبولة؟” .
إن غزة ، بما تمثله من حالة صمود ، تقدم نموذجاً ملهماً لشعوب العالم ، وتكسر معادلة الاستسلام أمام القوة الغاشمة ، وتجسد في الوقت نفسه تحدياً عملياً لثقافة الإفلات من العقاب ، حيث يصبح الفعل المقاوم جزءاً من الهوية الوطنية والشخصية الفلسطينية …
يشهد العالم اليوم مأزقاً يعيد إنتاج التجربة الهتلرية ، هذه المرة في فلسطين 🇵🇸 ، حيث دفع اليهود ، كأقلية ، ثمناً باهظاً لتحقيق دولة قومية شمولية ، وفقاً للأفكار التىّ نادى بها أدولف هتلر خلال فترة حكمه لألمانيا (Shirer, 1960) ، وفي المقابل ، يدفع الشعب الفلسطيني اليوم ثمناً مماثلاً من الاضطهاد والإبادة الجماعية ، بالإضافة إلى الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية ، بما في ذلك حق الحياة والكرامة على أرضه ، وفي السابق ، كانت فلسطين تطالب المجتمع الدولي بنظرة عقلانية ومنصفة ، لكنها تحولت إلى نموذج يعكس أبشع مظاهر اللاعقلانية ، حيث يستند الإحتلال على القوة المفرطة والعنف الأعمى ، في مشهد يذكرنا بجنون هتلر الذي لم يستثنِ حتى الأصوات المعارضة (Browning, 1992) ، ولقد عانى أيضاً الأصوات الحرة من القمع ، كما يتضح من حادثة إعتقال المنشد الشهيد إبراهيم قاشوش على يد نظام بشار الأسد ، عقب مجازر حماة التىّ راح ضحيتها ما يقرب من نصف مليون سوري ، حين تحدى النظام بصوته وقال للأسد " ظز فيك - بلا ارحل يا بشار " ، فكان مصيره التعذيب والقتل الوحشي ، كسرت اضطلاعه وانتزعت حنجرته (Yassin-Kassab & Al-Shami, 2016) ، تعكس هذه الإنتهاكات اليوم ما يحدث في فلسطين ، حيث استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي خيمة الصحافيين ال 6 في قطاع غزة ، محطماً أجسادهم ومكمماً حناجرهم ، بهدف إسكات الحقيقة ومنع إيصال معاناة إلى العالم (Reporters Without Borders, 2024).
تشكل هذه السياسة نموذجاً صارخاً للازدواجية الأخلاقية ، إذ يُعامل أحفاد ضحايا الهولوكوست كأنهم فوق القانون الدولي والإنساني ، بينما تُمارس أشكال الظلم والتجاهل تجاه الشعب الفلسطيني (Snyder, 2010) ، ورغم اعتراف الغرب بماضيه الأسود تجاه اليهود ، فإن ذلك لا يمنحه الحق في التغاضي عن المعاناة المستمرة للشعب الفلسطيني ، التىّ تتضمن إبادة وتجويعاً ممنهجين ، وتبقى هذه الازدواجية عاراً على ضمير الإنسانية ، يتطلب تصحيحاً عاجلًا عبر تحقيق العدالة والمساواة والمحاسبة … والسلام 🙋♂ ✍
#مروان_صباح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟