مروان صباح
الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 14:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
/ ليس كل أنواع الإدمان سلبية ، فهناك إدمانات بناءة ، تبنّتها المؤسسات العلمية بوصفها من أدوات التقدم والإستقرار ، ومن أبرز هذه “الإدمانات” الإيجابية — كما ترى هذه السطور — إدمان العمل الاستخباراتي ، الذي تحوّل إلى ركيزة مركزية في إستراتيجيات القوة للدول الحديثة ، لقد بات معلوماً أن المعلومات الاستخباراتية تشكّل العمود الفقري للقرار العسكري والسياسي ، فالسياحة ، على سبيل المثال ، كانت في حقبة معينة أداة لإختراق الدول ، وعُرفت اصطلاحاً بـ”السياحة السوداء” (Tragaki, 2013) ، ولذلك ، فإن من البديهي أن تخضع تجارب إسرائيل 🇮🇱 القتالية — في غزة 🇵🇸 ، ولبنان 🇱🇧 ، واليمن 🇾🇪 ، وحتى ضد إيران 🇮🇷 — لمراجعة دقيقة👌من قِبَل دول الإقليم ، لا سيما الدول التىّ تملك جيوشاً واستخبارات ، كالدول العربية ☪ وتركيا 🇹🇷 وإيران 🇮🇷 .
هذه المواجهات تكشف عن فجوات بنيوية في العتاد العسكري والاستخباراتي العربي ، يمكن اختزالها في 5 عناصر رئيسية ، رغم مرور قرن على إستخدام الطيران الحربي في الشرق الأوسط ، فإن الدول العربية — وعلى رأسها مصر 🇪🇬 ذات التاريخ العسكري الممتد — لم تتمكن من تصنيع مقاتلة حربية محلية تدخل بها مجالها الجوي ، بل إن ما أنفقته مصر وحدها على شراء الطائرات الحربية خلال العقدين الأخيرين يتجاوز 10 مليارات دولار (SIPRI Arms Transfers Database, 2024)، وهو مبلغ يكفي لبناء منظومة تصنيع متكاملة للمقاتلات ، إن إستمرار الإعتماد على المقاتلات ✈ الأجنبية يضع القرار العسكري العربي في قبضة الشروط السياسية للدول المصنّعة ، ويجعل أي مواجهة إستراتيجية مرتبطة بموافقة ضمنية من الخارج .
تمكّنت إسرائيل من امتلاك ترسانة نووية بفضل تعاونها المبكر مع فرنسا 🇫🇷 في خمسينيات القرن الماضي ، ثم دعمها غير المعلن من الولايات المتحدة 🇺🇸 لاحقاً (Cohen, 1998) ، أما العرب ، فلا يزالون عاجزين عن بلورة مشروع نووي ردعي ، رغم التهديدات المتكررة في المنطقة ، وفي هذا السياق ، يُعد المثال الباكستاني 🇵🇰 مرجعاً مهماً ، بعد ما إستطاعت إسلام أباد إمتلاك سلاح نووي رغم الحصار الدولي ، عبر إستراتيجية تعتمد على تعدد القنوات الدبلوماسية ، وتكتيكات التعتيم المعلوماتي (Kapur, 2007) ، بل إن الشكل التقليدي للمفاعل النووي — بحسب خبراء أمنيين — يخضع لتصميم متعمّد لتسهيل رصده واستهدافه (Albright & Hibbs, 2012). من هنا 👈، فإن تخصيب اليورانيوم وتطوير المفاعلات يجب أن يخضعا لنموذج جديد " مصغر ومتحرر من الشكل الحالي - التقليدي - ، وأكثر سرية وأقل خضوعاً للرقابة الدولية المباشرة ، لقد كشفت المواجهات الأخيرة ، خصوصاً الحرب بين إسرائيل وإيران ، هشاشة منظومات الدفاع الجوي الإيرانية — رغم أنها تعتمد على تقنيات روسية متقدمة (Postol, 2023) ، إذ سمح إختراق هذه المنظومات بتنفيذ ضربات جوية إسرائيلية وأمريكية ضد مواقع نووية وحيوية ، دون خسائر تذكر .
ولو كانت لدى إيران 🇮🇷 منظومة دفاع قادرة على إسقاط طائرات شبح مثل B-2 Spirit، لما تجرأ الطرف الآخر على شن الغارات ، نظراً لأن سقوط مقاتلة كهذه يعني خسارة تتجاوز 2 مليار دولار للطائرة الواحدة (U.S. Department of Defense, 2022)، ورغم أن العرب لم يستثمروا بشكل كافٍ في هذا القطاع ، فإن التجربة الإيرانية أثبتت أن الصواريخ البالستية قادرة على خلق توازن ردعي حتى بوجود تفوق جوي معادٍ ، فعلى الرغم من الثغرات في الدفاع الجوي الإيراني ، فإن ردها الصاروخي ألحق أضراراً ملحوظة في البنية التحتية الإسرائيلية خلال حرب الأيام الـ12 (Reuters, April 2024) ، فالصواريخ البالستية 🚀 ، كما أظهرت دراسة حديثة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS, 2023) ، ليست فقط وسيلة ردع ، بل أداة تأثير سياسي ونفسي في الحروب المعاصرة ، فالمجال الاستخباراتي هو أخطر نقاط الضعف في النظام الأمني العربي ، فبينما تخصص الولايات المتحدة نحو 70 مليار دولار سنوياً لوكالة الاستخبارات المركزية (Office of the -dir-ector of National Intelligence, 2023)، وتستثمر إسرائيل مئات الملايين في تطوير أجهزة كـ”الموساد” و”الشاباك”، لا تزال أجهزة الاستخبارات العربية تعاني من ضعف الموارد ، والبيروقراطية ، وإنعدام التحديث التكنولوجي .
واليوم ، لم يعد التجسس قائماً على العنصر البشري وحده ، بل أصبح يعتمد على تحليل البيانات ، والتجسس الرقمي ، والذكاء الاصطناعي ، والطائرات المسيّرة ، والتقنيات فائقة الدقة (Miller, 2021). وبالتالي ، فإن الإخفاق الاستخباراتي لا يعني فقط فقدان المعلومات ، بل قد يؤدي إلى هزيمة ساحقة قبل إندلاع المعركة أصلاً …
في غزة 🇵🇸 ، لا يُشبه الحاضر أي لحظة سابقة ، ففي حين كانت أدوات الإحتلال الإسرائيلي تعتمد على السيطرة المباشرة ، والعنف المكشوف ، بدأت اليوم تتجلى ملامح إستراتيجية استعمارية جديدة ، أكثر دهاءً وتعقيداً ، تعتمد على “هندسة الفوضى” كوسيلة للسيطرة غير المباشرة ، ومن داخل المجتمع نفسه ، فغزة لم تعد مجرد ساحة حرب ، بل تحولت إلى مختبر سياسي لاستراتيجيات “الاستعمار الذكي”، حيث تُدار الفوضى من بُعد ، ويُعاد تشكيل النسيج الاجتماعي الفلسطيني بما يخدم مصالح الإحتلال طويلة المدى ، من دون حاجة إلى رايات أو جنود دائمين على الأرض 🌍، من أبرز وجوه الأزمة الحالية التىّ يعيشها المشروع الصهيوني في غزة ، رفض المستوطنين المتدينين الانخراط في القتال ، ورغم خطابهم القومي المتشدد ، إلا أن لحظة الحقيقة تكشف ترددّداً عميقاً في مواجهة المقاومة الفلسطينية المسلحة ، لا يعود هذا فقط إلى الخوف من الموت ، بل إلى إدراك دفين بأن هذه الأرض ليست لهم ، تماماً كما أن باريس لم تكن يوماً للجنود النازيين أو روما لغير الإيطاليين ، فهؤلاء ، الذين أعتادوا رفع السلاح بوجه المدنيين ، يُسارعون إلى الهروب من الميادين عند أول مواجهة حقيقية ، حتى أنهم يُلوّحون بمغادرة البلاد نهائياً إن فُرضت عليهم الخدمة العسكرية ، ما يعكس أزمة شرعية مزدوجة : أخلاقية وعسكرية .
لقد بات واضحاً أن الجيش الإسرائيلي ، رغم قوته التدميرية الهائلة ، غير قادر على حسم المعركة في غزة ، فالاستنزاف المستمر في الأرواح والتكاليف السياسية ، خلق ذلك حالة من الإرباك داخل المؤسسة الحاكمة في تل أبيب ، وهنا برز بديل خطير : توظيف الفوضى كأداة حكم ، وبالتالي ، يسعى نتنياهو إلى خلق سلطة محلية غير رسمية ، عبارة عن شبكات مسلحة أو “عصابات من نمط ميليشياوي”، تعمل على ضبط المجتمع الفلسطيني تحت غطاء إنساني أو خدماتي ، لكنها في الحقيقة تُدار بمعلومات أمنية وتوجيهات غير معلنة من الإحتلال ، فالمساعدات الإنسانية – التىّ من المفترض أن تكون وسيلة للنجاة – تحولت إلى أداة ابتزاز وهيمنة ، فالحكومة الإسرائيلية ، عبر وسطاء محليين ، تتحكم في توزيع المساعدات على أساس الولاءات السياسية ، بل إن بعض التقارير تؤكد أن جزءاً من المواد الغذائية والطبية يُستبدل بسلع كمالية كالسجائر والخمور ، ويُباع في السوق السوداء داخل غزة ، وهذا ليس فساداً فقط ، بل سياسة مُمنهجة لتفكيك المجتمع من الداخل ، وتحويل روابط التكافل الاجتماعي إلى علاقات زبونية مرتهنة بالإحتلال .
ما يجري في غزة ليس معزولاً عن سجل الإستعمار الحديث ، فقد إستخدمت بريطانيا 🇬🇧 في الهند 🇮🇳 سياسة “فرّق تسد” لتعميق الإنقسام بين الهندوس والمسلمين ، ما أدى إلى كوارث إنسانية امتدّت لعقود (Pandey, 2001) Pandey, G. (2001). " Partition: Violence, Nationalism and History in India. Cambridge University Press" ، أما فرنسا 🇫🇷 في الجزائر 🇩🇿 ، فقد أعتمدت على خلق فئة من العملاء المحليين (الحركيين) لإدارة شؤون المستعمرات تحت إشراف غير مباشر ، وتفتيت البنية الاجتماعية للمجتمع الجزائري (Evans, 2012) " Evans, M. (2012). Algeria: France’s Undeclared War. Oxford University Press " ، فالإحتلال الإسرائيلي اليوم يُعيد إنتاج هذا النموذج ، ولكن بصيغة أكثر تعقيداً وحداثة ، لم يعد بحاجة إلى إحتلال كامل للأرض ، بل يكفيه السيطرة على شبكات التوزيع ، والمعلومات ، وأدوات الحياة اليومية ، إنه إستعمار يعمل في الظل ، لكنه يُمسك بخيوط كل شيء .
فالمجتمع الفلسطيني في غزة يواجه اليوم عدو متعدد الوجوه : جيش نظامي ، شبكات محلية مدفوعة بالنجاة أو الطمع ، ومجتمع دولي يُغض الطرف عن استراتيجيات التفكيك الممنهج ، ولذلك ، فإن النضال لم يعد فقط مقاومة السلاح بالسلاح ، بل مواجهة البنية الاستعمارية المعاصرة ، التىّ تُعيد إنتاج السيطرة عبر الفوضى ، والعوز ، والتمييز الداخلي .
ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم ليس فقط الدعم السياسي أو المساعدات ، بل رؤية استراتيجية مضادة للفوضى ، تُعيد بناء النسيج الاجتماعي على أسس الصمود ، وتُحصّن المجتمع من الداخل ، بعيداً عن الأجندات الدولية والوسطاء المحليين المرتبطين بها …
عادةً ، مع تجدّد موجات العدوان على الشعب الفلسطيني ، تبرز الحاجة إلى إستعادة المراجعات التىّ قدّمتها بعض الدول الهامشية أو المفكرين المهمّشين في النظام الدولي ، هذه المراجعات ، رغم تجاهلها رسمياً ، كانت دوماً العتبة الأولى لإعادة تعريف الفشل لا بوصفه قدراً محتوماً ، بل كحالة قابلة للتجاوز عبر تصوّرات واقعية للمستقبل ، تنطلق من حقيقة 😳 أن المواجهة مع المشروع الصهيوني ليست حالة استثنائية ، بل أحتمال دائم وإمتداد لصراع استعماري لم يتوقف منذ نكبة 1948 (Pappé, 2006) " Pappé, I. (2006( . The Ethnic Cleansing of. Oneworld Publications " ، وفي هذا السياق ، تبرز العملية الإسرائيلية التي يُطلق عليها أسم “عربات جدعون” كعنوان جديد لمرحلة قديمة من التطهير العرقي ، فبحسب تقارير استخباراتية مسرّبة نشرتها صحيفة Haaretz. (2024( . “Leaked Documents Reveal Details of Israeli ‘Gideon Chariots’ Operation.” هآرتس (2024)، فإن هذه العملية تهدف إلى تجميع سكان غزة في منطقة محددة جنوب القطاع ، تمهيداً لإخراجهم منها ، في تكرار لما جرى في النكبة ، هذا التوجّه لم يعد مجرد تكهّن ، بل أصبح موضوعاً لتقارير دولية محجوبة عن الرأي العام ، تؤكّد إمتلاك مؤسسات غربية وأممية معلومات دقيقة عن مراحل الخطة ، دون إتخاذ أي إجراء يُذكر (Middle East Eye, 2024) Middle East Eye. (2024). "“UN Knew of Israel’s Gaza Plans Months Before Offensive.
والمؤلم في المشهد 🎬 ليس فقط تكرار السياسات الإسرائيلية ، بل صمت المجتمع الدولي ، بل وتواطؤه أحياناً في الإنتقال من سياسة الإبادة البطيئة إلى سياسة التهجير الممنهج ، كما تشير الباحثة الأمريكية نورما سليمان ، فإن “الصمت الدولي على عمليات مثل عربات جدعون يعكس قبولاً ضمنياً
بإعادة رسم الجغرافيا الديموغرافية لفلسطين لصالح المشروع الصهيوني” (Suleiman, 2024) Suleiman, N. (2024). Deconstructing Humanitarian Silence. Georgetown Policy Journal ، لكن لا يمكن تحميل المجتمع الدولي وحده مسؤولية ما يحدث ، إذ أن الفشل العربي في بناء قوة عسكرية واقتصادية مستقلة وفعالة ، يفتح الباب أمام إسرائيل لتنفيذ مخططاتها دون رادع ،لقد حذّر المفكر الراحل جورج قرم من أن غياب مشروع عربي سيادي جعل من المنطقة “هامشاً جيوسياسياً تابعاً يُعاد تشكيله حسب الحاجة الغربية” (قرم، 2018) " الشرق الأوسط الجديد… الخداع الكبير - بيروت: دار الفارابي " ، ولو كانت لدى العرب منظومة ردع عسكرية وإقتصاد منافس ، لما تجرأت إسرائيل 🇮🇱 على تدمير غزة بالكامل ، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين ، أمام عدسات الكاميرات ، وبصمت مُطبق من “مجتمع دولي” يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان ، فقد وثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقاريرها الأخيرة (2024) Human Rights Watch (2024) “Gaza: Civilian Deaths Suggest War Crimes حجم النيران المصبوبة على القطاع ، وعدد الضحايا المدنيين ، مشيرة إلى “نية واضحة في استهداف البنية السكانية والمدنية”.
يبدو أن العدوان الأخير لا يستهدف فقط كسر شوكة المقاومة ، بل إنهاء الوجود الفلسطيني في قطاع غزة برمّته ، من حيث حجم التدمير ، وعدد الضحايا ، وخطط التهجير ، فإننا أمام هندسة 📐 فوضى إباديّة ممنهجة ، تُدار بدم بارد ، تحت لافتة “مكافحة الإرهاب”، وتُشرّعها أنظمة إعلامية غربية تبنّت الرواية الإسرائيلية بالكامل ، وما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد عدوان عسكري ، بل مرحلة متقدمة من مشروع استيطانيّ استعماري يهدف إلى محو الوجود الفلسطيني من الخريطة ، وإن إستمرار هذا المشروع مرهون أولاً بالفشل العربي الرسمي ، وثانياً بالتواطؤ الدولي الذي لم يعد يخجل من الوقوف إلى جانب الجلاد ، في الوقت الذي يُذبح فيه الضحية .
إن الحاجة اليوم ليست فقط إلى وقف العدوان ، بل إلى بناء مشروع عربي مستقل ، يعيد تعريف السيادة والدفاع ، ويضع حداً لقرن من التهجير والاقتلاع والعربدة والاهانة والتهديد ، والذي كانت “عربات جدعون” مجرد فصل آخر منه …
بين الأزقة الضيقة في غزة ، والمباني الزجاجية لوكالة الاستخبارات المركزية ، تتقاطع خيوط خفية ، تشكل ما يمكن تسميته بـ”جغرافيا الإستخبارات”، حيث لا تُخاض المعارك على الأرض فقط ، بل في العقول ، والخرائط ، والبيانات ، تُظهر العمليات الأخيرة للمقاومة الفلسطينية — سواء في غزة أو الضفة — تحوّلاً نوعياً في بنيتها الاستخباراتية ، لم تعد مجرد تنظيمات عسكرية تعمل تحت ضغط الإحتلال ، بل أصبحت تمتلك أدوات لجمع المعلومات ، وتحليلها ، وتوظيفها بدقة تؤلم العدو ، هذه القدرة لم تأت من فراغ ، بل من سنوات من التجريب ، والمراكمة ، وملاحقة التفاصيل تحت أقسى شروط الحصار .
لكن هذا التحول ليس معزولاً ، فمن واشنطن إلى طهران ، ومن تل أبيب إلى القاهرة ، تتشكّل خرائط موازية لحروب الظل ، حيث لا تُقاس القوة بعدد المقاتلات وحدها ، بل بعمق الاختراق ، وسرعة التحليل ، وذكاء التنفيذ ، فمنذ الإنتفاضة الثانية وحتى عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023 ، تطورت البنية الأمنية لفصائل المقاومة بشكل لافت ، لم تعد تعتمد فقط على الوسائل البدائية ، بل دخلت مجال الحروب السيبرانية ، واعتراض الإتصالات ، والتجسس على التحركات الميدانية ، كما ظهر في عمليات التمويه ، وضبط التوقيت ، واستهداف المواقع الإسرائيلية بدقة ، وتقول الباحثة نادية أبو نحلة: “المقاومة في غزة استطاعت ، رغم الحصار ، بناء بيئة أمنية هجينة ، تجمع بين تقنيات محلية وعمليات إنسانية تقليدية ، لتصنع من كل شاب عيناً على الاحتلال ، ”(Journal of Palestinian Studies, 2024) ، والولايات المتحدة استثمرت في الاستخبارات كما تستثمر الدول في جيوشها ، فوكالة الـCIA ، ووكالة الأمن القومي (NSA)، إلى جانب شبكة من الوكالات الفيدرالية ، تمثل ما يُعرف بـ”الدولة العميقة” التيكىّ تتحكم في السياسات الدولية من خلال المعلومات .
وفي واشنطن ، أنشئ “المتحف الدولي للجاسوسية” عام 2002، وفيه يتم عرض أدوات تنصت ، وتقنيات تجنيد ، وقصص تجسس من الحرب الباردة حتى اليوم ، لتصبح الاستخبارات جزءاً من الوعي الجماهيري الأمريكي ، وقد بلغت ذروة هذا التأثير في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر ، حين توسعت صلاحيات المراقبة الداخلية والخارجية تحت مبررات “الحرب على الإرهاب”، وما أسس لعصر جديد من التجسس الرقمي كما كشف إدوارد سنودن في 2013 ، ومنذ الثورة الإسلامية عام 1979 ، بنت إيران جهازاً استخباراتياً شديد المركزية ، يتمحور حول وزارة الاستخبارات و”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري ، وتُظهر الوقائع أن طهران تفضّل نموذج “الاستخبارات الممتدة”، بحيث لا تدافع عن حدودها ، بل تبني شبكات نفوذ في العواصم المجاورة ، لكنه متأخر تكنولوجياً .
ويكفي النظر إلى نفوذها في بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء لفهم أن الرؤية الأمنية الإيرانية جيو-عقائدية ، تتجاوز المفهوم الكلاسيكي للسيادة ، وتعتمد على المعلومة كذراع إستراتيجية ؟ كما أنها استثمرت بقوة في قدراتها السيبرانية ، وهو ما برز في الهجمات على منشآت إسرائيلية وأمريكية خلال العقد الماضي ، وايضاً كذلك التجربة الاستخباراتية المصرية ، خاصة بين خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين ، أمتزجت بالروح القومية ، وشكلت جزءاً من ذاكرة الشعب من خلال قصص مثل رأفت الهجان وجمعة الشوان ، لم تكن هذه مجرد حكايات ، بل دلائل على قدرة مصر 🇪🇬 على زرع عملاء داخل الكيان الصهيوني ، والحصول على معلومات ميدانية حرجة ساهمت في عبور القناة بأكتوبر 1973 .
وقد حرصت الدولة على توثيق هذه القصص في الإعلام والدراما ، في محاولة لخلق وجدان أمني جماعي ، يرى في الجاسوسية دفاعاً نبيلاً عن الأرض 🌍 ، لا مجرد عمل مظلم 😕، لكن التحدي في العقود الأخيرة كان في تكييف الجهاز الاستخباراتي مع التهديدات الجديدة مثل الإرهاب العابر للحدود ، والتجسس السيبراني ، ومخاطر الاستقطاب الداخلي ،فإسرائيل تبقى العدو الذي لا ينام ، فمنذ تأسيسها ، إعتمدت إسرائيل 🇮🇱 على التفوق الاستخباراتي كأداة للبقاء ، فالموساد ، الشاباك، وأمان ، هي ثلاثة أجهزة تتقاطع في إدارة الأمن القومي ، وقد أظهرت قدرات عالية في تنفيذ اغتيالات نوعية ، كاغتيال العلماء النوويين في إيران ، أو عمليات “الظل الطويل” ضد قادة المقاومة في الخارج .
لكن مؤخراً ، ظهرت شروخ في هذه الصورة ؛ فعملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023 ، كانت زلزالاً استخباراتياً أظهر عجز المنظومة عن توقع أو إحباط العملية ، رغم كل التقنيات ، يرى الباحث الإسرائيلي يوسي ميلمان:“الإعتماد الزائد على التكنولوجيا خلق إحساساً زائفاً بالأمان ، فالمعلومات كانت موجودة ، لكن لم يُحسن تفسيرها ”(Haaretz, Oct. 2023) ، وروسيا ايضاً تعتبر بالمدرسة القديمة في عصر جديد ، وريثة الـKGB ، لا تزال روسيا 🇷🇺 تعتمد على استخباراتها كأداة لإعادة تعريف ميزان القوى العالمي ، فبجانب العمل الكلاسيكي في تجنيد العملاء ، تبنت موسكو أساليب الحرب السيبرانية ، وحملات التضليل الإعلامي ، والتأثير في الانتخابات الأجنبية ، كما في تدخلها في الانتخابات الأمريكي 2016 ، وفي سياق الحرب على أوكرانيا 🇺🇦 ، كانت الاستخبارات الروسية تلعب أدواراً مزدوجة : التجسس العسكري ، وشنّ هجمات موازية ، وهو ما يعكس تطوراً في فهم الإستخبارات ليس كأداة “جمع”، بل “تأثير” على العدو والرأي العام الدولي .
حتماً الذكاء لا يُرى … لكنه يوجّه كل شيء ، وما يجمع بين هذه التجارب هو أنها أعادت تعريف القوة الوطنية على أساس إمتلاك المعلومة ، فلم تعد السيادة تتعلق بالحدود فقط ، بل بما تعرفه ، وكيف توظفه ، ومن تراقبه ، وكيف 🤷♂ تمنع الآخرين من مراقبتك ؟ ، وفي ظل هذا ، تصبح غزة ليست مجرد مساحة محاصرة ، بل مختبراً لاستخبارات المقاومة في مواجهة إستعمار رقمي وتقني شرس ، وتصبح القاهرة ، وواشنطن ، وطهران ، وتل أبيب ، عواصم تتنافس في أكثر جبهات الحرب غموضاً : جبهة لا تُقاس بالدبابات ، بل بالخطوات قبل أن تُخطى … والسلام ✍
#مروان_صباح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟