مروان صباح
الحوار المتمدن-العدد: 8431 - 2025 / 8 / 11 - 17:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
/ على مدار قرن من الزمن ، شهدت المنطقة العربية سلسلة من الأزمات القومية والمذهبية والطائفية والسياسية ، ناتجة عن تدخلات داخلية وخارجية ، ضمن سياقات مرحلية أو استراتيجية أو عقائدية ، هدفت جميعها إلى إضعاف البنية السياسية والاجتماعية للدول (Huntington , 1996) ، لم يكن من الممكن للمراقب الموضوعي إغفال هذه المسارات المتعددة التىّ صاغت ملامح المشهد الإقليمي ، ولقد تعمقت الأزمة بعد فشل الدول العربية والإسلامية في إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية ، سواء بالإستناد إلى قرارات الأمم المتحدة 🇺🇳 ومجلس الأمن مثل القرار 242 (1967) والقرار 338 (1973)، أو من خلال مبادرة السلام العربية (قمة بيروت، 2002) (United Nations, 1973 Arab League, 2002) ، كما امتدّ الفشل إلى قضايا قومية ، أبرزها المسألة الكردية ، وإلى خلافات مذهبية مثل الصراع السني–الشيعي ، فضلاً عن أزمات أخرى تخص الأقليات العرقية والدينية (International Crisis Group, 2019).
هذه الأوضاع أفرزت دولاً ضعيفة غير قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية ، ومكّنت ميليشيات مسلحة من ملء فراغ السلطة ، فهذه الميليشيات رفعت شعارات تحرير فلسطين 🇵🇸 ، لكنها عملياً انخرطت في مشاريع تقسيم الدول ، كما في الحالة الكردية أو الدرزية ، أو تورطت في النزاعات المذهبية مثل تدخل حزب الله في سوريا ، أو في الهيمنة على القرار السياسي ، كما هو الحال مع بعض الميليشيات العراقية (International Crisis Group, 2019) ، وإن استمرار تعثر القضية الفلسطينية 🇵🇸 ، في ظل ما تصفه تقارير الأمم المتحدة بالإبادة الجماعية الممنهجة في بعض المناطق مثل غزة (United Nations, 2023)، يجعل أي محاولة لحصر السلاح في لبنان محفوفة بالمخاطر ، نظراً لاحتمالية اندلاع مواجهة شاملة قد تشعل “فتنة كبرى” في المنطقة ، وهو هدف سعت إليه الحركة الصهيونية تاريخياً (Herzl, 1896).
المؤشرات الحالية في لبنان 🇱🇧 تشي بمرحلة “تسخين” سياسي وعسكري بين الجيش اللبناني من جهة ، وحزب الله وحركة أمل وحلفائهما من جهة أخرى ، ومن المتوقع أن تبدأ المواجهة إذا تحرك الجيش لسحب السلاح تحت شعار “إزالة الميليشيات الخارجة عن القانون” ، مثل هذا السيناريو قد يدفع قائد الجيش إلى إجراء مشاورات داخلية مع القيادات المسيحية لتجنب انشقاقات طائفية داخل المؤسسة العسكرية ، خاصة إذا قررت بعض الأطراف المسيحية المتحالفة مع حزب الله رفض المواجهة .
أما على الصعيد الدولي ، فإن خيار المواجهة دون استقالة القيادة العسكرية قد يُفسَّر من قبل بعض القوى العالمية كفرصة لإعادة إشعال حرب أهلية طويلة الأمد ، في هذا السياق ، يمكن أن تتدخل إسرائيل 🇮🇱 ، بحكم تموضعها العسكري في قرى الجنوب ، لدعم الجيش اللبناني والقوى المعارضة لحزب الله ، الأمر الذي قد يمهد لتقسيم لبنان 🇱🇧 بين سوريا وإسرائيل ، في توافق مع ما ورد في رؤية هنري كيسنجر الرامية إلى إخضاع الجنوب اللبناني حتى مدينة الدامور وبعض مناطق الجبل الدرزية للسيطرة الإسرائيلية (Kissinger, 1982)…
هنا 👈 تتّضح الصورة بأن حجاب الخجل قد أنزاح تماماً ، حتى دون أي مظهر من مظاهر التواضع السياسي أو الاجتماعي ، فعندما يُدعى إلى إعتبار مثل هذه التجمعات شكلاً من أشكال “المحافظة على الذات”، وهو حقّ مشروع في سياقات محددة ، فإن الأمر في هذه الحالة يتحوّل إلى انقلاب سياسي ، حتى لو كان بعيداً عن العاصمة ،وهذا يستدعي التعمّق في جذور الحدث لكشف أبعاده الحقيقية ، فالأخطر من ذلك يتمثّل في مؤتمر الأقليات الذي عُقد في مدينة الحسكة قبل أيام قليلة ، تحت عنوان “وحدة الموقف”، وبدعوة من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وبتمويل من مؤسسات مرتبطة بلوبيات صهيونية ، هذا المؤتمر كشف عن نوايا منظميه والحضور فيه ، إذ شمل شخصيات عربية وكردية ودرزية وعلوية وسريانية وأيزيدية وتركمانية وشركسية ، لكن مخرجاته – ولا سيما الدعوة إلى إقامة دولة ذات إدارات ذاتية – أنهت فعلياً اللقاء المرتقب بين مظلوم عبدي وأحمد الشيباني في العاصمة الفرنسية باريس 🇫🇷 .
من الواضح أن المواجهات التىّ وقعت مؤخراً في مناطق الأقليات كانت تمهيداً لهذا الطرح ، وهو سيناريو مرشّح لأن يشهده لبنان أيضاً ، ولكن بشكل أعنف وأوسع ، وربما أكثر تمدداً ، إلى حدّ أن الأقليات قد تطالب بالحماية الإسرائيلية ، كما حصل مع بعض دروز السويداء ، وهو ما أسفر عن تحالف جديد بين قسد وحكمت الهجري وإسرائيل ، بل إن أحد البنود الواردة في مخرجات المؤتمر يكشف النوايا الانفصالية بشكل غير مباشر ، إذ نصّ على رفض “التغيير الديموغرافي” و”عودة المهجّرين”، وهو أمر يثير السخرية ؛ لأنه يفضح تناقض إدعاء إقامة “دولة تعددية” في الوقت الذي يُؤسَّس فيه عملياً لدول طائفية-عرقية ، تحت حماية إقليمية ودولية ، وبغطاء إسرائيلي …
لقد عَبَر نتنياهو خلال العامين الماضيين عن استراتيجيّته العسكرية الشديدة ، من خلال فتح ثلاث جبهات على الأقل ضد كيانه ، فقد شملت هذه التوجهات العمليات العسكرية في غزة ، التحرك على الحدود مع لبنان 🇱🇧 ، وتهديدات ضد إيران 🇮🇷 عبر ضربات استهدفت منشآت نووية عُمانية كـ”ناتنز” ، ولا غرابة في هذا المنحى ؛ إذ تعكس المؤسسة الأمنية الإسرائيلية عزماً على إخضاع المنطقة لقواعدها الأمنية الخاصة ، في حراك يرمز إلى “منطقة منطقية” تفرضها بالقوة ، وفي حال أضطر نتنياهو إلى إنهاء حرب غزة عبر إعلان الإنتصار ، فإن هناك 👉 دلائل على أنه لن يوقف جهوده عند هذا الحد ، بل قد يسعى لاحقاً إلى لبننة المعركة – أي تلويح بإتخاذ قرار ضاغط على حزب الله ، على غرار استنزاف المقاومة في غزة .
وإذا ما أسفرت المفاوضات الأميركية 🇺🇸 الإيرانية 🇮🇷 عن إتفاق نووي ، فقد يُتيح ذلك حلفاء إيران مثل حزب الله تسليم جزء من ترسانته ، مما قد يُخفض التوتر على الحدود الشمالية ، أما في حال لم يحدث ذلك، فسيتعين على القوى المتضررة من نفوذ إيران ومحور المقاومة والقوى المضادة بأن تطوي صفحة الصراع ، وتتوجه نحو بناء دولة مع رؤية وطنية لسلاح المقاومة ، وغير طائفية تعيد هيكلة الجيش بعيداً عن الصراع السياسي الداخلي .
ومن منظور لبناني ، فإن العودة إلى الصراع الأهلي والانقسام الطائفي هو سابقة لم تكن الدولة بأفضل حالٍ فيما مضى ، فمنذ عام 1920م، مثّلت التطورات السياسية والتدخلات الخارجية تكلفة باهظة على لبنان ، وهو اليوم عرضة لخطر وجودي متزايد …
في الختام ، يبدو أنّ ما يُسمّى بـ”فضيلة العنف” لم يعد مجرّد ظاهرة عابرة ، بل أصبح جزءاً من البنية الرمزية التىّ تتشكّل منها نظرة بعض المجتمعات إلى البطولة والقوة ، وهذه المرة ، تأتي الإشارة من عمق الدلالة لا من سطح الحدث ، وهو أمر يستوجب من دمشق أن تتأمله بعين الإعتبار ، والقلق ، والمسؤولية ، إذ إنّ لبنان ، عبر التاريخ ، ظلّ خاصرة سوريا وحزامها الجغرافي والسياسي (سلامة، 2010).
ومنذ أن قامت الدولة اللبنانية المستقلة أسمياً ، تكرّس في وعي الفرد أن البطولة تُكتسب عبر التطبّع بالعنف ، العنف المرتبط بالاقتتال لا بالسلم ، حتى غدا يُنظر إليه كفضيلة ، لأنه ناتج عن صراع الإرادات ، أو بالأحرى نهج عنفي لإثبات الذات وصون الوجود ، في مجتمع لا يعرف الاستقرار في المعنى أو الثبات في القيم (طرابلسي، 2007) ، وهو مجتمع ، وإن أظهر الإعتدال في لغته وخطابه ، يخفي خلف هذا القناع تطرّفاً يختبئ في الظلال ، محتمياً بشرعية شكلية ومفرداتٍ محمّلة بالرموز (بو حمدان، 2015).
إنّ قراءة الواقع بهذه العدسة تكشف أنّ العنف ، حين يُرفَع إلى مرتبة الفضيلة ، يتحوّل من أداة ظرفية إلى ثقافة جمعية ، ومن سلوك استثنائي إلى معيار للحكم على الرجال والأحداث ، وعندها فقط ، تصبح المجتمعات أسيرة وهم القوة ، بينما تتآكل من الداخل بفعل صراعاتها ، حتى ولو ظنّت أنّها تحافظ بذلك على وجودها ، والتاريخ ، كما علّمنا ، لا يرحم من يقدّس أدوات فنائه … والسلام 🙋♂ ✍
#مروان_صباح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟