أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - “ما راح أنسى”… شهادة رئيفة داود صليبا أبو منّه – كركر كما وثّقتها دينا سليم قراءة وتحليل














المزيد.....

“ما راح أنسى”… شهادة رئيفة داود صليبا أبو منّه – كركر كما وثّقتها دينا سليم قراءة وتحليل


رانية مرجية

الحوار المتمدن-العدد: 8431 - 2025 / 8 / 11 - 08:18
المحور: الادب والفن
    


هناك شهادات شفوية لا يمكن التعامل معها كمجرد ذكريات شخصية، بل كوثائق حيّة تنبض بالتاريخ، وتعيد رسم مشهد النكبة بألوان الألم والحنين معًا. شهادة رئيفة داود صليبا أبو منّه – كركر، المولودة في اللد عام 1934، كما وردت في رواية الكاتبة دينا سليم، واحدة من هذه الشهادات التي تحفظ التفاصيل الصغيرة بقدر ما تحفظ المآسي الكبرى، وتعيد إلينا صورة مدينة كانت تنبض بالحياة قبل أن تُسلب بالخديعة.
ما يميز عمل دينا سليم في هذا السياق هو أسلوبها التوثيقي الذي يجمع بين الدقة التاريخية والنَفَس الأدبي. فهي لا تكتفي بجمع الشهادات كأرقام أو وقائع جامدة، بل تمنحها حياة على الصفحة؛ تنقل صوت الشاهد بلغته القريبة من روحه، وتحافظ على إيقاع الحكاية كما تروى في المجالس، لتجعل القارئ شريكًا في السماع، لا مجرد متلقٍّ لمعلومات. في كتابتها، تتجاور الحوارات الحية مع التفاصيل المكانية والزمنية، فينتج نصّ يجمع بين الصدق العاطفي والصرامة التوثيقية.
منذ الجملة الأولى التي قالت فيها رئيفة: “ما راح أقدر أنسى ما دمت على قيد الحياة”، ندرك أننا أمام ذاكرة عصية على النسيان، ذاكرة لا تكتفي بتسجيل الوقائع، بل تعيشها من جديد في كل استدعاء. هذا النوع من السرد، الذي يختلط فيه الصوت الشخصي بالصوت الجمعي، هو ما يمنح شهادتها قوتها؛ فهي لا تتحدث عن نفسها فقط، بل عن مدينة بأكملها، وعن جيل وجد نفسه فجأة داخل “كمّاشة” الاحتلال.
تصوّر رئيفة مشهد سقوط اللد كحدث فاصل، ليس فقط لأنه أتى على الأرواح والمنازل، بل لأنه كسَر الإيقاع الطبيعي للحياة. قبل النكبة، لم يكن اليهود يتواجدون في اللد إلا في حالات نادرة، مثل الطبيب “بنيت” الذي كان يغادر سريعًا بعد انتهاء عمله. ثم فجأة، و”بالزي الأردني الشعبي” وبالعربية، يدخلون المدينة في مشهد يجمع الخداع بالدهاء العسكري. هذا التفصيل – التنكر واللغة – يكشف عن البعد النفسي للحرب، حيث يُستهدف وعي الضحية قبل جسدها.
أحد أهم ما يميز هذه الشهادة هو حضور تفاصيل الحياة اليومية وسط الكارثة: الأم التي تعجن، الأخت التي تهرع من المشفى مذعورة، الأخ الذي يخاطر ليخبز الأرغفة ويوزعها على الموجودين في المشفى. هذه التفاصيل الصغيرة ليست هامشية، بل هي جوهر الحكاية؛ لأنها تُظهر مقاومة الحياة للموت، وإصرار الجائعين على اقتسام الخبز حتى في قلب الخوف.
وفي المقابل، هناك صور العنف الرمزي والجسدي: دقّ الأبواب مساءً “بشراسة” لإرهاب السكان، الرسائل غير المعلنة للرحيل، وأسر الشباب. تصف رئيفة كيف كان الخوف يشل التفكير: “خنقوا أفكارنا حتى لا نستهدي إلى فكرة تقودنا إلى الطريق الصحيحة”. هذه العبارة وحدها تكثّف استراتيجية الاحتلال في تلك اللحظة – ليس فقط التهجير المادي، بل شلّ القدرة على التخطيط والهروب.
قرار العائلة بالبقاء في المدينة، رغم الرعب، كان فعل بقاءٍ شجاع، ولو جاء بدافع غريزة الحذر. تشير رئيفة إلى أن من لحق بالنازحين قضى بعضهم على الطريق، بينما من بقي تحمّل الخوف لكنه نجا من الهلاك الفوري. هذه المفارقة تفتح بابًا للتأمل في قرارات البقاء والرحيل زمن الكارثة، وكيف أنها لم تكن دائمًا مسألة اختيار حر، بل رهانات على المجهول.
البعد الإنساني في الشهادة لا يقتصر على لحظة النكبة، بل يمتد إلى ما بعدها؛ فالبيت القديم في اللد ما زال قائمًا “أكلته الأعشاب الضارة” وعاث فيه الخراب، لكنه محروم من العودة إليه بحجة أنه لا يصلح للبناء. هنا يتجلى شكل آخر من الاحتلال: الاحتلال البيروقراطي البارد الذي يقتل المكان بالمنع والإهمال، فيتحول البيت من مأوى إلى شاهد صامت على الغياب.
أما على المستوى الاجتماعي، فتذكر رئيفة أعمامها، أحدهما استشهد في ثورة 1936، وآخر في يافا، لتربط بين النكبة وسلسلة أطول من النضال والمواجهات. شهادتها لا تنعزل عن تاريخ المقاومة الفلسطينية، بل تأتي كحلقة في سردية ممتدة من الانتفاضات المبكرة إلى التهجير الجماعي.
ولعل أجمل ما في هذه الشهادة هو البعد الشخصي الإنساني الذي يتخلل المأساة: حبها لزوجها فائق أبو منّه الذي شاركها ذاكرة النكبة، وكيف تحوّل الحديث عنها إلى طقس يومي بينهما. هنا، تصبح الذكرى المشتركة رابطًا أسريًا، كما لو أن إعادة الحكي هي طريقة لتضميد الجرح أو على الأقل لمنع اندثاره.
في النهاية، يمكن القول إن شهادة رئيفة داود صليبا أبو منّه – كركر، كما وثّقتها دينا سليم بأسلوبها التوثيقي الممزوج بالروح الأدبية، ليست مجرد فصل في كتاب التاريخ، بل نص إنساني، مكتوب بالروح قبل القلم. إنها ذاكرة شخصية تحولت إلى ذاكرة وطن، وحكاية بيت تحولت إلى حكاية مدينة، وصوت امرأة صار صدى لجيل كامل قال: “ما راح أنسى”.
✦ نبذة عن الكاتبة: دينا سليم، روائية وكاتبة فلسطينية-أسترالية، عُرفت بقدرتها على المزج بين السرد الأدبي والتوثيق التاريخي، مع اهتمام خاص بالشهادات الشفوية التي تحفظ الذاكرة الفلسطينية من الاندثار، وتحوّلها إلى نصوص أدبية نابضة بالحياة.



#رانية_مرجية (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يصرخ الصمت... رواية دينا حنحن تكتب بالحزن والنجاة قراءة ...
- قراءة في نص إياد شماسنة –
- ثمن الفستان… وثمن الوهم قراءة وجدانية في قصة “رجل فاشل” ل عا ...
- نشيد الوحدة في حضرة النور
- شهيدة وطن
- “أيام الغبار”: حين تُحبّك البلاد كما تُجففك
- قراءة زاخرة وجدانية فلسفية لنص “صهيلُ السؤال في زمنِ الصمت”
- حين تُشرعُ الكلمات نوافذ الحوار _ فوز فرنسيس ورانية مرجيّة
- خبزُها... كتب، وصلاتُها... قصائد
- قراءة لديوان “لماذا تأخرتِ دهراً؟” للشاعر يحيى السماوي
- حينَ يزهرُ الصبّارُ في القلب: قراءة لرواية -إلى أن يُزهر الص ...
- حين يُصبح النقد مرآةً للروح والشعر: قراءة في دراسة إيمان مصا ...
- حين يُقتل الحنان بصمت: قراءة نقدية في “لقد قتل الفقد روح الك ...
- حين يُقتل الحنان بصمت: قراءة نقدية في “لقد قتل الفقد روح الك ...
- يا نارَ الانقسامِ، كُفّي
- من أين أملك لغتي؟
- الكاتب الكبير... الذي لا يكتب!
- -نكبتنا لم تَغِب... بل كبُرت معنا-
- توجيه مجموعات للمتوحدين: عبور إلى عالمٍ آخر
- دوائر الظلم


المزيد.....




- سعيد يقطين: أمريكا توجه دفة الإبادة والتطهير العرقي بدعمها ل ...
- افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن ...
- -شومان- تستعيد أمجد ناصر: أنا هنا في لغتكم
- افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن ...
- سطو -سينمائي- بكاليفورنيا.. عصابة تستخدم فؤوسا لسرقة محل مجو ...
- فيلم -ني تشا 2-.. الأسطورة الصينية تعيد تجديد نفسها بالرسوم ...
- تعاطف واسع مع غزة بمهرجان سان سباستيان السينمائي وتنديد بالح ...
- -ضع روحك على يدك وامشي-: فيلم يحكي عن حياة ومقتل الصحفية فاط ...
- رصدته الكاميرا.. سائق سيارة مسروقة يهرب من الشرطة ويقفز على ...
- برتولت بريشت وفضيحة أدبية كادت أن تُنسى


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - “ما راح أنسى”… شهادة رئيفة داود صليبا أبو منّه – كركر كما وثّقتها دينا سليم قراءة وتحليل