رانية مرجية
الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 13:37
المحور:
الادب والفن
لم تكن تحمل سلاحًا.
لم تكن ترتدي كوفية، ولا ترفع شعارات.
كانت تحمل حقيبة صغيرة، وحلمًا أكبر من المسافة بين قريتها وسور السجن.
اسمها “ميس الريان”.
طالبة جامعية عادية، تشبه شجر التين حين يخضرُّ رغم الحصار، وتحب الزعتر أكثر من الحب.
هادئة، لكن في عينيها نارٌ تعرف كيف تنتظر.
كانت تكتب رسائل إلى نفسها، تخبّئها في علبة معدنية خلف الدار،
كل رسالة تبدأ بجملة واحدة تكرّرها كتعويذة:
“أنا لست خائفة، لكنني وحدي.”
في صباح الأربعاء، دخل الجنود القرية.
كسروا البيوت والمرايا والأمان.
أوقفوها في طريقها إلى الجامعة.
فتشوا حقيبتها.
وجدوا كتابًا في “الهوية الفلسطينية”، ومنديلًا مطرزًا بخيوط أمها.
ضحك الجندي وسألها بازدراء:
– “أين السلاح؟”
قالت له بثبات:
– “هويتي وحدها تكفي لتخيفك.”
ألقوا القبض عليها.
وفي التحقيق…
سألوها عن الشباب، عن الأسماء، عن المقاومين.
أجابتهم بهدوء يشبه النصل:
“كل واحد منهم، يحمل الله على كتفه.”
فأطلقوا عليها لقب “المجنونة”.
مرت شهور من العتمة والعذاب.
لم تعترف.
لم تنهار.
لم تتراجع.
وفي ليلة ماطرة، أُخرجت من الزنزانة للتنظيف.
اقترب منها جندي شاب، لم تره من قبل.
قال لها همسًا:
– “ليش ما بتستسلمي؟”
أجابت كمن يلقي وصيته الأخيرة:
– “أنا الوطن… والوطن لا يتراجع، بل يُؤخذ أو يُستشهد.”
تجمّد.
أخرج قطعة شوكولاتة من جيبه.
ناولها إياها، ثم همس:
– “أنا ياسر… ابن عمك.”
شهقت.
كان آخر عهدها به طفلة في العاشرة، قبل أن يهاجر بلا وداع.
قال:
– “أنا عميل. نادم. سأهربك الليلة. فقط لا تموتي.”
وهزت رأسها دون أن تجيب.
⸻
في الفجر، عُثر على جثتين قرب السور:
جندي مقتول،
وفتاة فلسطينية مشوهة الوجه،
وبجوارها ورقة مبلّلة بالدم والمطر، كُتب عليها:
“أنا لست خائفة، لكنني وحدي… وهذه وحدتي ثمنها حرية وطن.”
أعلن الاحتلال أنها انتحرت.
لكن الحقيقة؟
دفنت معها جثة فتاة أخرى كانت قد ماتت تحت التعذيب.
ميس؟
لم تمت.
غيّرت وجهها، واسمها، وهويتها،
وغادرت البلاد في شتاتٍ جديد.
في أوروبا، أصبحت شاعرة تُدعى “ريّا”،
تكتب عن “ميس” وكأنها امرأة أخرى، بطلة، أسطورة، شهيدة.
وكل قصائدها تبدأ بالجملة ذاتها:
“أنا لست خائفة، لكنني وحدي.”
⸻
وحين سُئلت في أحد المهرجانات الأدبية عن مصدر الإلهام،
قالت:
“ميس ليست شهيدة فقط…
بل وطن استُشهد وقرر أن يُبعث من جديد في جسدي.”
#رانية_مرجية (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟