|
فيلم اليهودي والضياع الأخير
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 8422 - 2025 / 8 / 2 - 01:53
المحور:
الادب والفن
1 في دراستنا لفيلم " الرابعة بتوقيت الفردوس "، المنتج عام 2013، بيّنا أنه كان سابقة في السينما السورية، لناحية إعتماد اللغة الكردية كمادة للحوار في بعض المشاهد. مخرج الفيلم، محمد عبد العزيز، سبقَ له قبل ذلك بثلاث سنين أن قدّمَ فيلماً، عُدّ أيضاً خارج المألوف في السينما السورية. إنه فيلم " دمشق مع حبي "، الذي يعرض لنا حكاية عمن تبقى من يهود المدينة؛ وهما أب وابنته. تاريخياً، كان المجتمع اليهودي في دمشق على درجة من العراقة، لم يخل ذكره في جميع حوليات التدوين القديم والوسيط. ولكن منذ مستهل القرن العشرين، ومع بروز المطالب الصهيونية بأرض فلسطين، أخذت السلطات بالتضييق على اليهود، الذين كانت لهم حارة باسمهم في مدينة دمشق. وعقبَ نكبة 48، أضحوا عرضة للاستهداف أكثر من ذي قبل، علاوة على تقييد حركتهم وتمييزهم عن بقية المواطنين. لتبدأ مرحلة هجرتهم القسرية إلى خارج البلاد، وبشكل تدريجي، إلى أن خلت منهم الشام تماماً اليوم. رفضهم للدعوة الصهيونية، تجلى في إختيارهم الهجرة بشكل رئيسي إلى الولايات المتحدة وليسَ دولة إسرائيل. معظم يهود دمشق، وسورية بشكل عام، أجبروا على الهجرة في زمن البعث. لقد نُظر إليهم من قبل النظام بريبة، وكأنهم الطابور الخامس لإسرائيل، لدرجة إفساد المجتمع نفسه بهكذا نظرة. حتى ضمن غالبية مثقفي البلد، لم يعد ثمة فرق بين المواطن اليهودي والمواطن الإسرائيلي؛ وذلك تحت يافطة رفض التطبيع، التي كان النظام يشجعها لأجل صرف النظر عن استبداده وفساده. بل إن مجرد صدور ترجمة عبرية لإحدى روايات الكاتب السوري، سليم بركات، كانت كافية لوصمه بالتطبيع. كما وتم، نقدياً، تجاهل روايته " ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟ ". وهذا مواطنه، المخرج الكردي السوري، محمد عبد العزيز، يقول في حوار صحفي عن فيلمه هذا: " الكثير من الأصدقاء المقربين، قالوا لي أنت تنتحر فنياً لأنك تؤنسن يهود دمشق، ونصحوني بعدم الإقدام على هذه التجربة. ولكنني مع ذلك، قدمت الفيلم ". في هكذا جو موبوء بالعنصرية، علاوة على مسألة الرقابة، نتفهم ألا يقدّم محمد عبد العزيز في " دمشق مع حبي "، الواقعَ المرير ليهود المدينة، الذي سبقَ هجرتهم. فآثرَ المخرجُ حصرَ الأحداث بآخر من بقي منهم في فترة إنجاز الفيلم، عام 2010؛ وكانَ للمصادفة في عشية الحريق الكبير في الشرق الأوسط، المسمّى بالربيع العربي. مع ذلك، وخِلَل قناع الرمز والمواقف الطريفة، مررَ المخرجُ فكرةَ الفيلم عن إقتلاع أحد المكونات الأثنية للبلد.. المكون اليهودي، الذي ما زالت آثار وجوده التاريخيّ راسخة في دمشق سواء بالمعابد أو المقابر أو المنازل التقليدية الجميلة، الفائح منها أريجُ أزهار النارنج كما وذكرياتُ أصحابها.
2 الشارة، كما والحوار في المشاهد الأولى، يجعلنا نعتقد أن الفيلم مترجمٌ إلى اللغة العربية. يظهر السيد ألبير مزراحي، آخر يهود مدينة دمشق، وهوَ عجوز مريض على كرسي ذي عجلات. إنه في المطار برفقة ابنته، هالة، في طريقهما إلى روما كي ينضما لأقاربهما هناك. الكاميرا تنتقل إلى تلك المدينة، لنشهد حفلاً عائلياً نظمه داوود، ابن ألبير. الأب، يعترف فجأة لهالة أنه أخفى عنها رسائل حبيبها، التي كان يرسلها على عنوان المنزل قبل زمن بعيد. تصرخ ابنته: " إذاً نبيل على قيد الحياة، فلِمَ أخفيت عني ذلك؟ ". تلك كانت عقدة الفيلم، حيث ستتطور الحبكة مع قرار هالة بعدم السفر مع الأب لكي تبحث عن حبيبها. نبيل هذا، مسيحي الديانة، وبذلك ندرك مغزى تصرف والد هالة. حارة اليهود، تقع على ناصية الحي المسيحي، فتعود بنا الكاميرا أكثر من مرة لنشهد تعارف الحبيبين ومن ثم علاقتهما ببعض. هالة، بغية تقصي أخبار نبيل، تذهب إلى منزل أسرته بالرغم من علمها بأن إمرأة أرمنية عجوز قد اشترته منذ زمن بعيد. إلا أن العجوز الأرمنية، أخبرتها أنها لا تعرف شيئاً. في الأثناء، تأخذنا الكاميرا مجدداً إلى روما، لنرى السيد ألبير في سيارة تقودها زوجة ابنه، وكانت لا تخاطبه إلا بالإيطالية مع أنها سورية مثله. يُخرج قارورة فيها تراب من دمشق، فيحدثها عن فتنة تلك المدينة ومدى تعلّقه بها. بعدئذٍ يموت ألبير في هدوء، وكما لو أنه جاء إلى العاصمة الإيطالية من أجل حث أقاربه على العودة إلى دمشق. وبالفعل، يقرر داوود دفن والده في مقبرة اليهود بدمشق، إلا أنه يؤوب من ثم إلى روما. أساساً، فإن اليهودي بحسب القوانين السورية لا يمكنه العودة إلا للزيارة. تواصل هالة محاولة البحث عن نبيل. أحدهم، يدلها على عنوان زميله في الخدمة العسكرية، واسمه كميل وانلي من حي ركن الدين. تلتقي مع كميل، الذي يقع منزله عند القمم الصخرية لجبل قاسيون. لقد كانت رجله مبتورة من زمن حرب الخليج الأولى. في السياق، سنعلم أيضاً أن نبيل نفسه قد أصيب بالشلل نتيجة إصابته في نفس الحرب. هنا، لدينا عدة ملاحظات على السيناريو: فإن اسم كميل، غريبٌ بالنسبة للمسلمين. وكان على المخرج أن يعطيه اسماً كردياً، بما أنه من حي ركن الدين. أيضاً، سكان الحي الأصليين ( ومنهم آل وانلي ) يقيمون في الجادة التحتانية وليس في أعالي الحي. ثم أي حرب هذه، التي سيصاب فيها كميل ونبيل؛ طالما أن القوات السورية في حرب الخليج لم تشترك أبداً في القتال؟ في خلال مراجعة هالة وكميل للدوائر الحكومية، يظهر هناك حجم البيروقراطية وإنعدام المسئولية عند الموظفين بشكل عام. مثلما أن ثمة سخرية من المستوى المتدني في ثقافة الضباط الكبار في جيش النظام، تعكسه مقابلة مع أحدهم لأجل الوساطة. بعدما تأكد لهالة أن حبيبها على قيد الحياة، يدخل على الخط صديق قديم بهدف مساعدتها في البحث. إنه زياد، المنتمي أيضاً لإحدى الطوائف المسيحية. قبل ذلك، ترتقي هالة الدرجَ الحجري إلى قمة أحد الجبال، لكي تلتقي مع راهب ربما لديه معلومات عن نبيل. الراهب، يؤكد لها أن نبيل قد ترهبن وأنه يخدم في دير معروف للفرنسيسكان في جسر الشغور. تتيقن من المعلومة، كونها عثرت هناك على فردة من حذائها وقد جعلت كأصيص للأزهار. هكذا تركب سيارة زياد القديمة، ويأخذان الطريق إلى شمال سورية. في أثناء إجتيازهما إحدى قرى الطائفة العلوية، توقفهما فتاة بملابس العرس: " أنا هاربة من العريس، لكي ألتقي مع حبيبي وأتزوجه بالرغم من إرادة والدي "، تقول لهما. واضحٌ هنا، أنها حكاية موازية لحكاية هالة، التي رفض والدها حبيبها نبيل. أخيراً، تصل هالة وزياد إلى ذلك الدير. وإذا رفيق الرحلة، يعترف لها بدَوره أنه كان يعرف منذ زمن بعيد مكان وجود نبيل. تنهار هالة، فتطلب منه أن يتركها وحدها. ثم تلتقي على الأثر مع راهبة، تخبرها أن نبيل قد ترهبن على أثر إصابته بالشلل في الحرب. هناك في حجرته، تعثر هالة على الفردة الأخرى من حذائها. تترك لنبيل ورقة، تعلمه فيها أنها كانت تبحث عنه. ثم تعود إلى دمشق برفقة زياد. وينتهي الفيلم، بظهور الحبيب عند القوس الروماني، الكائن على ناصية حارة اليهود. كان على الكرسي المتحرك، ينظر إليها بثبات فيما فردتي حذائها قد اجتمعا معاً بدَورهما. هكذا أدخل المخرجُ الحكاية الأسطورية، حذاء سندريلا، لتتماهى مع حبكة الفيلم والمتمحورة أيضاً حول الحب والفقد والبحث والأمل. فيلم " دمشق مع حبي "، يصوّر المشاعر الإنسانية التي تتغلب على الفوارق الدينية، وذلك من خلال ما قلنا آنفاُ أنها قصة فقد وبحث وأمل. الفيلم، كان بعيداً عن العواطف الرخيصة لأمثال هذا الموضوع، ونعني تحدي الحب للفوارق الدينية والمذهبية، المطروح بشكل سطحي وغث في بعض أعمال الدراما السورية. كما أن النجاح الجماهيري للفيلم، إنما كان بسبب الحبكة المتقنة والممتعة، فضلاً عن تقنيات التصوير البارعة. لم يكتفِ الفيلم بإظهار معاناة يهود دمشق، بل وألقى الضوءَ على التنوع في ثقافات البلد من خلال شخصيات تنتمي لمكونات مسيحية وعلوية وكردية وأرمنية ويونانية. إلى ذلك، ومثلما نوهنا في مستهل الدراسة، أن موضوع الفيلم كان جديداً تماماً على السينما السورية. لقد سبق لنا دراسة فيلم مصري مشابه لناحية العلاقة بين المسلم والمسيحي، " حسن ومرقص "، إنتاج عام 2008، فبيّنا مدى تهافت فكرته وحتى أنها تفاقم من الفتنة الدينية عوضاً عن فضحها ومحاولة إخمادها. من ناحية أخرى، يجب الإشادة بدَور " هالة "، المجسّد بشكل مؤثر من قبل الفنانة مرح جبر. كذلك الأمر بالنسبة لبقية الممثلين الرئيسيين، خالد تاجا وفارس الحلو وسامر عمران وبيار داغر وأنطوانيت نجيب وميسون أسعد وميلاد يوسف وجهاد سعد وليلى جبر وبسام لطفي وأسعد فضة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم الكردي وحروب الآخرين
-
مصير أسرة في فيلم سوري
-
تراب الغرباء والتلاعب بالتاريخ
-
الترحال؛ منحوتة للطفولة والمدينة
-
الطحين الأسود ولعنة المكان
-
اللجاة؛ البيئة الدرزية سينمائياً
-
حسّيبة؛ الشام بحسَب يوميات إمرأة
-
شيء ما يحترق؛ عن الدرزي النازح
-
الطحالب؛ حكاية جرح سوري
-
باب المقام، المفتوح على الشغف
-
سُلّم إلى دمشق؛ التقمّص عشيّة الثورة
-
الليل؛ الفنتاسيا والواقع
-
أحلام المدينة أم كوابيسها
-
وقائع العام المقبل واختلال الوعي
-
ليالي ابن آوى؛ البطريركية والسلطة
-
نجوم النهار؛ رسم ساخر للمجتمع العلوي
-
المصيدة؛ ثنائية الجنس والفساد
-
الإتجاه المعاكس: فيلم فاشل
-
كفر قاسم: القضية الفلسطينية سينمائياً
-
وجه آخر للحب: الرغبة والجريمة
المزيد.....
-
العثور على جثمان عم الفنانة أنغام داخل شقته بعد أيام من وفات
...
-
بعد سقوطه على المسرح.. خالد المظفر يطمئن جمهوره: -لن تنكسر ع
...
-
حماس: تصريحات ويتكوف مضللة وزيارته إلى غزة مسرحية لتلميع صور
...
-
الأنشطة الثقافية في ليبيا .. ترفٌ أم إنقاذٌ للشباب من آثار ا
...
-
-كاش كوش-.. حين تعيد العظام المطمورة كتابة تاريخ المغرب القد
...
-
صدر حديثا : الفكاهة ودلالتها الاجتماعية في الثقافة العرب
...
-
صدر حديثا ؛ ديوان رنين الوطن يشدني اليه للشاعر جاسر الياس دا
...
-
بعد زيارة ويتكوف.. هل تدير واشنطن أزمة الجوع أم الرواية في غ
...
-
صدور العدد (26) من مجلة شرمولا الأدبية
-
الفيلم السعودي -الزرفة-.. الكوميديا التي غادرت جوهرها
المزيد.....
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|