|
باب المقام، المفتوح على الشغف
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 11:00
المحور:
الادب والفن
1 ثمة فجوة زمنية كبيرة، بين فيلم محمد ملص الثاني، " الليل "، إنتاج عام 1992، وبين فيلمه الثالث، " باب المقام "، المنتج عام 2005. من لا يجهل ما كان يجري في نظام الأسد من إقصاء وتهميش للمبدعين، لن يدهشه تلك الفجوة الزمنية. فالمؤسسة العامة للسينما، إكتفت بإنتاج باكورة أعمال محمد ملص، " أحلام المدينة "، عام 1983، وعقبَ ذلك تجاهلته تماماً. في هذه الحالة، ندرك لِمَ كانت الأفلام الثلاثة الأخرى لملص قد إعتمد فيها على عدة جهات إنتاج. قصة فيلم " باب المقام "، ربما تطرحُ إشكالاً مماثلاً. فالمخرج في أفلامه الروائية الأربعة ( وهيَ مُجمل ما قدّمه للسينما حتى الآن )، عُرف عنه تعاونه مع آخرين في كتابة السيناريو. وإذاً في هذا الفيلم، الذي نقوم بدراسته، نجد محمد ملص قد أشرك معه في كتابة السيناريو كلاً من مواطنه، الكاتب خالد خليفة، والتونسي أحمد عطية. هذا الأخير، ظهرَ اسمه كذلك بين جهات الإنتاج، بوصفه صاحب شركة " سيني تلي فيلم ". فما كادَ " باب المقام " يُطرح للعرض، إلا والكاتب خالد خليفة يُقاضي المخرج أمام المحكمة بحجة عدم حصوله على حقوقه المادية. أكثر من ذلك، إدعى الكاتب أن محمد ملص تعامل بشكل سيء مع السيناريو؛ فظهرَ الفيلم ـ كذا ـ مرتبكاً ومفككاً وثقيل الإيقاع. ليرد عليه المخرج، بالقول في مقابلة صحفية: " أنا لا أجيد صناعة أفلام الحركة ( الأكشن )، ولا أطمح لذلك. طموحي هوَ خلق حوار بين الشاشة والمتلقي، للوصول إلى الفكرة من خلال إيقاع هادئ وبطيء ". كما وكشفَ محمد ملص في تلك المقابلة، خلفية قصة الفيلم: " هوَ خطاب وجداني للمشاعر والأحاسيس، وقد أنجزته بعد أن قرأتُ خبراً في إحدى الصحف عن مقتل إمرأة مصرية بسبب شغفها بالغناء، وقد وقعت تلك الجريمة في 25 حزيران/ يونيو من عام 2001 ". أيضاً بحسَب مخرج " باب المقام "، أنه إختار حلب كمكان لأحداث الفيلم: " كونها مدينة الغناء والطرب، وهذا يلحظه المرءُ بكل زاوية فيها. أما عنوان الفيلم، فإنه يُحيل إلى اسم أحد أحياء حلب، وكذلك للمعنى الموسيقي لكلمة المقام ". من ناحيتي، فإنني أعتقدُ بأن اختيار حلب، المَوْصوف، قد يكون مُحالاً لواقعة أخرى، مأسوية، شبيهة بواقعة مقتل تلك المرأة المصرية. ففي عام إنتاج فيلم " باب المقام "، إهتز محبو الغناء لخبر وفاة المطربة ربى الجمّال، وذلك على خلفية واقعة ملتبسة. ربى الجمّال ( 1966 ـ 2005 )، لعل تفاصيل حياتها ومسيرتها الفنية، هيَ الأكثر شبهاً بمثيلتها عند مواطنتها الأسطورة، أسمهان. بل إنها تتفوق على هذه الأخيرة، لناحية خامة الصوت؛ بدليل حصولها في مهرجان ماريا كالاس، في باريس، على لقب صاحبة أقوى قرار سوبرانو في العالم. ربى الجمّال، واسمها الحقيقي زوفيناز خجادوربتيان، هيَ من مواليد مدينة حلب في أسرة أرمنية. لقد أرسلها أهلها لدراسة الطب في فرنسا، إلا أن قدَرها تقاطعَ مع الفن على أثر حضورها ذلك المهرجان المذكور. ومثل أسمهان، فإنها تورطت في زواج فاشل استمر لمدة خمس سنوات، أثمرَ عن طفل واحد. والشبه بقرينتها، إنسحبَ أيضاً على قلة الأغاني، المحصورة في شريط واحد. عقبَ مشاركتها لحفل في القاهرة، عام 1982، قال عنها الموسيقار محمد سلطان: " لو أنها تقبل المكوث في مصر، فإنني سأجعل منها أهم مطربة في عصرها ". آراء إعجاب مماثلة في ربى الجمّال، صدرت آنذاك عن محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ووديع الصافي ونجيب السرّاج. في مقابل قلة أغانيها الخاصّة، يذخر موقع يوتيوب بحفلات ربى الجمّال، التي كانت غالباً تؤدي فيها أغنيات أم كلثوم. وبحسَب رأي كثيرين، أنها تفوّقت في الأداء على كوكب الشرق في بعض أغنياتها؛ مثل " الأمل " و" إسأل روحك ". وإنما في إحدى تلك الحفلات، أصيبت ربى الجمّال بانهيار عصبي نتجَ عنه جلطة دماغية ومن ثم الوفاة. بلغَ من فقر ربى الجمّال، أنها عولجت عندئذٍ في مستشفى عام، وأن تكاليف جنازتها وقبرها قد تكفلت بها لاحقاً جمعية خيرية أرمنية! ملابسات واقعة وفاة هذه المطربة العظيمة، أحيلت لتهميشها في حياتها من قبل زبانية نظام الأسد. وفي هذا الخصوص، كتبَ الصحفي السوري نبيل محمد: " من الصعب بمكان على فنان مزاجي، صعب المراس، مثل ربى الجمّال، أن يتقبّل وضع الإنتاج الفني في بلد تحكمه المخابرات وأجهزة رسمية فنية وثقافية متعفنة. أجهزة، رفضت إنضمام ربى الجمّال إلى نقابة الفنانين بحجة عدم وجود مؤهل أكاديمي لديها، في ظل وصول أميين ليكونوا أعضاء في النقابة، بل ووصول بعضهم إلى رئاسة النقابة. بينما ربى الجمّال نالت جائزة ماريا كالاس في باريس، في ثمانينات القرن الماضي، كأفضل قرار سوبرانو في العالم، هيَ عضو غير مرحب به في تلك النقابة ". ما لم يقله الصحفي، أنّ تعمّد تلك الأجهزة المذكورة في إقصاء هذه المطربة، إنما كانَ الهدف منه أيضاً هوَ إبراز عددٍ من نكرات الطائفة المختارة في مجال الغناء، اللواتي لم تكن قاماتهن القزمة لتعلو في وجود العملاقة ربى الجمّال.
2 شارة فيلم " باب المقام "، كانت على خلفية لمشهد مصلين في الصباح، يرددون تهليلة العيد. ينبغي في البدء التنويه، إلى أن الموسيقى التصويرية من تأليف مارسيل خليفة. لقد سبقَ الشارة مشهدٌ للشخصية الرئيسة، إيمان ( الفنانة سلوى جميل )، فيما كانت تلقي نظرة من فوق قلعة حلب على المدينة: " عندما كنت صغيرة، إعتاد والدي أن يصحبنا إلى هذا المكان "، تقول لزوجها. هذا الأخير، واسمه عدنان ( الفنان أسامة السيد يوسف )، يتابع الانصات لإمرأته وهيَ تقول: " حلب، كانت مدينة الطرب. يا الله، كم تغيّرت! ". الرجلُ، يعمل نهاراً في دكان وليلاً كسائق تكسي. إنه شخصٌ رقيق، إقترنَ مع زوجته عقبَ قصة حب، ومن ثم أنجبت له ولدين. بينما أهلها، كانوا يفضّلون أن ترتبط بابن عمها الكبير؛ ابن أبي صبحي، الذي غدا يمحضها كراهية شديدة لهذا السبب. بما أنّ صوتها جميلٌ، فإن عدنان كانَ كل مرةٍ يشتري لزوجته شريطاً يحتوي على إحدى أغاني أم كلثوم. الزوج، كانَ في المقابل يهتم بالأخبار السياسية، وخصوصاً المتعلقة بالحشود الأمريكية والبريطانية في الخليج، تمهيداً لعملية إسقاط نظام صدام حسين. حبكة الفيلم، كانَ محورها شك أقارب إيمان بمسلكها، وذلك على خلفية شغفها بالغناء. ففي أحد المشاهد الأولى، نرى عمها الكبير، المدعو أبو صبحي ( الفنان ناصر وردياني )، وهوَ يحث شقيقيها على ضرورة مراقبتها وتقصّي خطواتها، لكي يتم التأكد ما لو كانَ لديها عشيقٌ ما. في الأثناء وبمناسبة العيد، يُسمح لشقيق إيمان، الموقوف في سجن حلب العسكري، برؤية ابنته. من السياق، نفهم أن السجينَ معتقلٌ بسبب نشاطه السياسي المعارض. الابنة، واسمها جمانة، كانت في نحو العاشرة من عُمرها وتعيش عند عمتها إيمان، وذلك بعد طلاق أمها وزواجها من رجل آخر. في حين أن الشقيق الوحيد لجمانة، بقيَ في منزل جدّه لأبيه. وهوَ ذا العم أبو صبحي، يُقرر ضمَ الفتاة لشقيقها: " لا أريدها أن تتربى هناك على الأخلاق الفاسدة! "، يقول لأبيه شبه العاجز. على الأثر، يتم إنتزاع الفتاة من منزل عمتها والإتيان بها للدار الكبيرة، لتغدو فيه كالسجينة بعدما منعت من مواصلة تعليمها. إيمان، تحضر للدار كي تحاول إسترداد الفتاة. فتتنقل الكاميرا معها عبرَ تفاصيل المكان وبلقطاتٍ مؤثرة، كانت إحداها من خلال تقنية إنعكاس الصورة على صفحة ماء البركة. في غمرة شعورها بالخذلان والإحباط، تذهب إيمان لزيارة إحدى قريباتها. هناك تحضر شقيقتها الصغرى، غادة ( الفنانة أمية ملص )، التي تحاول تهدئة روعها وطمأنتها بأنها تستطيع رؤية جمانة بين الحين والآخر. من هناك تذهب إلى محل تسجيلات، لكي تشتري شريطاً لإحدى حفلات أم كلثوم، فتحط الكاميرا على صورة أهم مطربي حلب الكلاسيكيين؛ الشيخ بكري الكردي. صاحبُ المحل، يُعرّف إيمان عندئذٍ على مَن دعاها: " السيدة بديعة، التي كانَ لها أجمل صوت في حلب ". هذه السيدة ( قامت بالدَور، الفنانة الأرمنية هاسميك قيومجيان )، تصطحبها على الأثر إلى منزلها بعدما خبرت صوتها الجميل. بما أن إيمان مراقبة من لدُن أقاربها، فإن هؤلاء يشكّون بمنزل السيدة بديعة، معتقدين أنه يخصُ العشيق المفترض. مشهدُ السكين في يد أحد مستخدمي مطعم العم أبي صبحي، في مشادةٍ مع شقيق جمانة، كأنه كانَ علامة على المشهد الأخير من الفيلم، الدامي. العم، سيولم لعدد من الأقارب الرجال. وكانَ الهدفَ من الوليمة، التحريضُ على قتل إيمان: " غسلاً للعار، الذي ألحقته هيَ بنا! ". في مشهدٍ آخر له دلالة، يذهب العم من بعض أولئك الأقارب إلى منزل السيدة بديعة، وهناك يفتح لهم الباب ابنها الشاب. يسألونه عن نوع علاقته بإيمان، فيسخر منهم ويغلق الباب بوجوههم. هذا الموقف، يعدّه العم دليلاً على علاقة الزنا، المزعومة، بين قريبتهم وذلك الشاب. ثم تأتي واقعة هروب جمانة إلى منزل عمتها، لكي تفاقم من حقد العم على هذه الأخيرة وتجعله يقرر التخلص منها. فيلم " باب المقام "، على عكس أعمال محمد ملص الأخرى، كانَ خالٍ من الفنتاسيا والرؤى والأحلام، وأيضاً من عنصر الاستعادة ( فلاش بك ). إلا أنه، في المقابل، كانَ لا يقل عن تلك الأفلام لناحية الحوار الموجز البليغ، والحركة الرشيقة والذكية للكاميرا. كذلك ينبغي التنويه بالدَور المؤثر للفنانة سلوى جميل، التي هيَ بنفسها مطربة. كما وأبدعَ بدَور العم أبي صبحي، الفنان ناصر وردياني. من الملاحظات السلبية على الفيلم، التركيز على موضوع الاحتجاج في الشارع على خطة بوش الابن لاسقاط نظام صدام حسين، وكما لو أنه إحتجاجٌ شعبيّ وليسَ حركة استعراضية من تدبير الأجهزة الأمنية. الأكثر فداحة في هذا الشأن، لو أن مشاهدَ إحتجاجات الشارع كانت ترميزاً لبراءة نظام صدام حسين؛ أي مثل براءة الضحية إيمان من التهمة الباطلة بخصوص شرفها. فإنه لمنطقٌ غريب، وتناقضٌ صارخ، أن يتم في الفيلم اللمز من فقدان الحرية في ظل النظام البعثي السوري، وفي الآن نفسه، إظهار نظام البعث العراقي كحَمَل وديع.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سُلّم إلى دمشق؛ التقمّص عشيّة الثورة
-
الليل؛ الفنتاسيا والواقع
-
أحلام المدينة أم كوابيسها
-
وقائع العام المقبل واختلال الوعي
-
ليالي ابن آوى؛ البطريركية والسلطة
-
نجوم النهار؛ رسم ساخر للمجتمع العلوي
-
المصيدة؛ ثنائية الجنس والفساد
-
الإتجاه المعاكس: فيلم فاشل
-
كفر قاسم: القضية الفلسطينية سينمائياً
-
وجه آخر للحب: الرغبة والجريمة
-
اليازرلي والواقعية الجديدة
-
بقايا صُوَر: الأدب والسينما
-
السيد التقدمي والسيناريو السيء
-
رشو آغا؛ العنصرية في السينما
-
سائق الشاحنة: تدشين السينما الواقعية السورية
-
المخدوعون؛ تأريخ الخيانة
-
الفهد؛ قصة أصيلة أم منتحلة
-
سينما المقاولات، سورياً
-
المغامرة؛ الحكاية التاريخية سينمائياً
-
دور الكرد في تأسيس السينما السورية
المزيد.....
-
الاكشن بوضوح .. فيلم روكي الغلابة بقصة جديدة لدنيا سمير غانم
...
-
رحلة عبر التشظي والخراب.. هزاع البراري يروي مأساة الشرق الأو
...
-
قبل أيام من انطلاقه.. حريق هائل يدمر المسرح الرئيسي لمهرجان
...
-
معرض -حنين مطبوع- في الدوحة: 99 فنانا يستشعرون الذاكرة والهو
...
-
الناقد ليث الرواجفة: كيف تعيد -شعرية النسق الدميم- تشكيل الج
...
-
تقنيات المستقبل تغزو صناعات السيارات والسينما واللياقة البدن
...
-
اتحاد الأدباء ووزارة الثقافة يحتفيان بالشاعر والمترجم الكبير
...
-
كيف كانت رائحة روما القديمة؟ رحلة عبر تاريخ الحواس
-
منع إيما واتسون نجمة سلسلة أفلام -هاري بوتر- من القيادة لـ6
...
-
بعد اعتزالها الغناء وارتدائها الحجاب…مدحت العدل يثير جدلا بت
...
المزيد.....
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|