|
اليازرلي والواقعية الجديدة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 8379 - 2025 / 6 / 20 - 02:50
المحور:
الادب والفن
1 " اليازرلي "، هوَ فيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سورية، صدرَ عام 1974. هذا العمل، من إخراج العراقي قيس الزبيدي، الذي تكلمنا عن مسيرته السينمائية حينما قمنا بدراسة فيلم " السيد التقدمي "، كونه مؤلف القصة. في بيانات موقع ويكيبيديا عن " اليازرلي "، جاء أنه لم يعرض أبداً للجمهور، مثلما أنه لم يتقدم إلى أي مهرجان سينمائي. هذا، مع أنه حصل على المرتبة 79 في قائمة أفضل مائة فيلم بتاريخ السينما العربية. الفيلم، مقتبس عن قصة للأديب حنا مينه، عنوانها الأصل " على الأكياس ". أيضاً سبقَ لنا دراسة فيلم " بقايا صُوَر "، المأخوذ عن رواية بالاسم نفسه لحنا مينه. وقد نوهنا آنذاك، أن أسلوب الكاتب، المنتمي لما كان يسمى بالواقعية الإشتراكية، إفتقرَ للجانب الفني واللغة الشعرية. عموماً، حنا مينه تجنبَ التجريب، وبقيَ مخلصاً لإسلوبه حتى النهاية. فيما أن فيلم " اليازرلي "، كما سيمر معنا، كانَ واضحاً إسلوب التجريب فيه إن كانَ في السرد أو الحوار. هذا عائدٌ إلى أن من تعهّد كتابة السيناريو، هوَ المخرج نفسه. في حقيقة الحال، أنّ " اليازرلي " ليسَ عملاً أصيلاً تماماً حتى لو كانَ يعدّ من موجة أفلام الواقعية الجديدة. هذه الموجة، ظهرت مبكراً في السينما الإيطالية، وكانَ من أبرز رموزها المخرج الكبير روبرتو روسيليني. لقد أثر هذا المخرج في السينما المصرية، وذلك حينما جاء إلى القاهرة كي ينجز فيلماً عن حضارة الفراعنة. إذاك، كان مساعده هوَ شادي عبد السلام ( 1930 ـ 1986 )، الذي سيقوم لاحقاً بإخراج فيلم " المومياء "، المحتل المرتبة الأولى في قائمة أفضل فيلم بتاريخ السينما المصرية، وذات المرتبة، في قائمة أفضل فيلم بتاريخ السينما العربية. يبدو في هذا الفيلم، تأثر المخرج بأسلوب معلمه الإيطالي. بدَوره، فإن مخرج " اليازرلي " كانَ متأثراً بقوة بفيلم " المومياء ": المشاهد الصامتة، الأشبه باللوحات. الحوار المبتسر أو غير المكتمل. إظهار إحدى صفحات القصة الأصل، كما لو على سبيل العبث. وللمصادفة، أن كلا الفيلمين بطلته الرئيسة تمتهن البغاء. كذلك، ثمة إشكال في كل من الفيلمين فيما يخصّ إستعمال لغة الحوار. فقد قمنا من قبل بدراسة فيلم " المومياء "، واظهرنا الإستغرابَ لاعتماد اللغة العربية الفصحى في الحوار بالرغم من أن القصة ليست مستوحاة من التاريخ الإسلامي. هنا أيضاً، في فيلم " اليازرلي "، نجد الحوار يعتمد لهجة ريف الساحل بدلاً عن لهجة سكان مدينة اللاذقية، التي تجري معظم أحداث القصة في مرفأها.
2 فيلم " اليازرلي "، ترافقت شارته مع أنغام مؤثرة من آلة الفلوت ( موسيقى الفيلم من تأليف صلحي الوادي )، وبخلفية من هدير موج البحر. لتتحول إلى موسيقى ملحمية، عند استهلال المشهد الأول. إذ تظهر فتاة تركب عربة يجرها الخيل، يحيطها فراغ من البياض، تلوّح بيدها لأحدهم. ما لبثَ أن تلقى التلويحة رجلٌ، أشبه بالعملاق، راحَ يؤكد صفته هذه من خلال حمل أكياس ثقيلة بيد واحدة. إنه اليازرلي ( الفنان عدنان بركات )، الذي سنعلم من السياق أنه رئيسُ الحمالين في المرفأ. فتاة العربة ( الفنانة اللبنانية ناديا أرسلان )، يبدو أنها كانت تلوّح لشخص آخر. إنه رجلٌ بائس، غريبُ الهيئة ( الفنان عصام عبه جي )، سيبقى صامتاً طوال السرد بصفته مجنوناً. تقترب منه الفتاة، فتفتح قميصها عن نهدين عاريين، وهيَ تبتسم برقة مشفوعة بنظرة ساخرة. هكذا مشهد إيروتيكي، سيتكرر أكثر من مرة في الفيلم. ولعل المخرج استعان لإداء الدور بهذه الفنانة اللبنانية، لتعذر قبوله من لدُن زميلة سورية. مع ذلك، فإن الرقابة استبعدت على ما يبدو مشاهد أكثر جرأة، مختصرةً من الفيلم 13 دقيقة! السرد، محوره فتىً صغير ( قام بالدور، أكرم العابد )، كأنه يجسّد طفولة المؤلّف نفسه؛ حنا مينه. فكما رأينا في دراستنا لفيلم " بقايا صور "، الذي كانَ أيضاً مستوحىً من سيرة ذاتية روائية، أن طفل الأسرة الوحيد كان له شقيقتان؛ حال قصة فيلم " اليازرلي ". وإذاً، تنتقل الكاميرا إلى مسكن بطلنا الصغير، لنجد والدته ( الفنانة منى واصف ) وهيَ تطمئنه بأن أباه سيعود ليلاً مثل كل مرة. في اليوم التالي، يلتقي بطلنا بفتاة العربة حينما كان يلهو مع أصدقائه في ساحة الحي. حينما عاد للمنزل، تخبره والدته بأن تلك الفتاة هيَ شقيقته الكبرى: " إنها لا تجرؤ على المجيء إلينا، لكي لا يقع عين أبيك عليها. الفقر، يا ولدي، هوَ مَن دفعها إلى ذلك الطريق ". الأب ( الفنان عبد الرحمن آله رشي )، لا يظهر في السرد إلا من خلال ذكريات ابنه الوحيد، أو أحلام يقظته. كان بائعاً جوالاً، يحمل على رأسه طبقاً فيه قطع من الحلوى. حبكة الفيلم، تتطور من خلال أصدقاء بطلنا الصغير، الذين كانوا يعمدون للسرقة أحياناً للحصول على القليل من النقود. إنهم يكرهون اليازرلي ورجاله، فيقومون كل مرة بقذفهم بالحجارة. المتزعم عصابة الأصدقاء، ما عتمَ أن تعارك مع اليازرلي، ليكتشف على الأثر أنه إنسان طيب القلب ويحب مساعدة الآخرين. في مشهدٍ آخر مؤثر، يشاهد الفتى شقيقته الكبرى وهيَ تعطي موعداً لمتزعم العصابة، مقابل حصولها سلفاً على مبلغ محدد من المال. فيما بعد، يأخذ هذا الفتى بالتكلم عن مفاتن الفتاة، دونما ان يعلم أن صديقه هوَ شقيقها. يعرض اليازرلي على الفتيان العملَ معه في المرفأ، وبضمنهم بطلنا الصغير. المرفأ بحالة بدائية ( أحداث القصة ربما تعود لأربعينات القرن المنصرم )، إذ يعمد العمال إلى وضع اكياس الحنطة على قاطرة حديدية، يدفعونها باتجاه الشاطئ، ليقوم آخرون بتحميلها بالقوارب إلى سفينة شحن كبيرة. ذات مرة، يصاب بطلنا الصغير بالاغماء نتيجة الجهد وحرارة الصيف. يعتني به معلمه، ثم يعفيه من الأعمال القاسية. في المقابل، يفاجئ الفتى معلمه بإجادته للكتابة بالأحرف اللاتينية، فينقذه من ورطة مع مسئولي المرفأ. يسمح اليازرلي لعماله بأخذ كميات محدودة من الحنطة، ويعتبرها مكافأة لجهودهم. في موقفٍ آخر، وعلى مسمع من بطلنا الصغير، يعلن اليازرلي أمام مساعده أنه على إستعداد للزواج من تلك الفتاة المومس. في مشهدٍ له دلالته، يعثر بطلنا على كتاب ألف ليلة وليلة، مزيناً برسوم إيروتيكية. في اليوم التالي، وكان يوم جمعة، يذهب مع صديقه إلى البحر ليمارسان السباحة. وإذا المجنون يحضر، فيتجرد عارياً تماماً ويرمي نفسه في الماء. بعدئذٍ يرتدي ملابسه ثم يتجه إلى الحارة. يتبعه الصديقان، فيرونه يعرض على فتاة هناك بعض قطع الصابون بمقابل أن تكشف له ثدييها العاريين. من باب مجاور، تطل شقيقة بطلنا وتطلب من المجنون الدخول إلى مسكنها. ثمة، تجتمع إليه أيضاً بقية الفتيات المومسات: كأنما مخرج الفيلم، يٌحيل هذا المشهد إلى قصة الحمّال في كتاب ألف ليلة وليلة، الذي قضى ليلة حمراء مع ثلاث جواري ماجنات وعابثات. اليازرلي، ما أن سمعَ كيفَ تستقبل فتاة أحلامه ذلك المجنون إلا وثارَ غضبه. ذات ليلة، يسكر في الخمارة ثم يتوجه بعدئذٍ إلى منزل المومسات. في اليوم التالي، يسمع بطلنا الصغير أن معلمه قبض عليه بتهمة إغتصاب تلك الفتاة ( شقيقته ). فيطلب من أصدقائه، لما أجتمع بهم، أن يزوروا اليازرلي في السجن. في شأن فيلم " سائق الشاحنة "، الذي قدمنا دراسة له، فإننا نوهنا بأن كاميرا المصور المعلم، جورج لطفي الخوري، كانت قد خلّدت مشاهدَ من بعض مناطق سورية في عقد الستينات. كذلك كان الأمر في " اليازرلي "، المحتفظة كاميرا نفس المصور بمشاهد لمدينة اللاذقية في عقد السبعينات. المخرج، قيس الزبيدي، كانَ موفقاً في إختياره لنخبة من الممثلين، ممن قدموا أدوارهم ببراعة. بالأخص دور اليازرلي، المجسّد من قبل الفنان عدنان بركات. كذلك الفنان عصام عبه جي، المعروف بتمكنه من أداء الأدوار المعقدة والمركبة، فقد أبدع بشخصية المجنون. وبالطبع، لا يمكن إغفال الدور المؤثر للبطل الصغير، المؤدى من لدُن أكرم العابد؛ وهذه التجربة على ما يبدو، كانت مساهمته الوحيدة في التمثيل.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بقايا صُوَر: الأدب والسينما
-
السيد التقدمي والسيناريو السيء
-
رشو آغا؛ العنصرية في السينما
-
سائق الشاحنة: تدشين السينما الواقعية السورية
-
المخدوعون؛ تأريخ الخيانة
-
الفهد؛ قصة أصيلة أم منتحلة
-
سينما المقاولات، سورياً
-
المغامرة؛ الحكاية التاريخية سينمائياً
-
دور الكرد في تأسيس السينما السورية
-
من معالم السينما السورية: الكومبارس
-
إغراء؛ ماذا بقيَ من إرثها الفني
-
تشريح الذات: كانَ خريفَ الخبل
-
تشريح الذات: كانَ صيفَ الخفّة
-
تشريح الذات: كانَ ربيعَ العشق
-
تشريح الذات: كانَ شتاءً كئيباً
-
تشريح الذات: كانَ صيفاً فاتراً
-
تشريح الذات: كانَ ربيعاً عارياً
-
تشريح الذات: كانَ خريفاً دافئاً
-
أنهارٌ من زنبق: الخاتمة
-
النملة الممسوسة
المزيد.....
-
الجزيرة 360 تشارك في مهرجان شفيلد للفيلم الوثائقي بـ-غزة.. ص
...
-
النيابة تطالب بمضاعفة عقوبة الكاتب بوعلام صنصال إلى عشر سنوا
...
-
دعوات من فنانين عرب لأمن قطر واستقرار المنطقة
-
-الهجوم الإيراني على قاعدة العُديد مسرحية استعراضية- - مقال
...
-
ميادة الحناوي وأصالة في مهرجان -جرش للثقافة والفنون-.. الإعل
...
-
صدر حديثا : كتاب إبداعات منداوية 13
-
لماذا يفضل صناع السينما بناء مدن بدلا من التصوير في الشارع؟
...
-
ميسلون فاخر.. روائية عراقية تُنقّب عن الهوية في عوالم الغربة
...
-
مركز الاتصال الحكومي: وزارة الثقافة تُعزّز الهوية الوطنية وت
...
-
التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|