|
الليل؛ الفنتاسيا والواقع
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 04:52
المحور:
الادب والفن
1 فيلم " الليل "، للمخرج محمد ملص، المنتج عام 1992، حصدَ أربع جوائز عالمية رفيعة. المخرج، تعهّدَ أيضاً كتابة القصة والسيناريو والحوار. يُقال أن الفيلم مستمدٌ من سيرة ذاتية روائية، " إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب "، نشرها محمد ملص في بيروت عام 1979. وربما فيلمه الأول، " أحلام المدينة "، الذي قمنا بدراسته سابقاً، كانَ كذلك قد تقاطعَ مع نفس السيرة الروائية. وعلى خلاف فيلميه، كانَ عمله الثالث والأخير، " سلم إلى دمشق "، إنتاج عام 2013، سوى أنه هوَ مَن كتبه من وحي الثورة السورية. محمد ملص، بحسَب النقّاد، ينتمي إلى ما يُعرف بمدرسة موسكو السينمائية. هذه المدرسة، المهتمة بجماليات الصورة وشاعريتها. لكنه يرى نفسه أقرب إلى مدرسة الواقعية الجديدة، الإيطالية: " إننا كجزء من الذاكرة الوجدانية في داخلنا، ننتمي إلى هذه المدرسة السينمائية. وليست هذه الواقعية الجديدة، حسب فهمي، هيَ الأفلام التي تصدت إلى معالجة تناقضات الواقع بمنظور فكري معين، بل هيَ اللحظة التي قررَ فيها السينمائيون الإيطاليون العظماء أن يخرجوا بموضوعاتهم ومع موضوعاتهم من إطار سينما سائدة إلى سينما الشارع. والخروج إلى الشارع ليس وسيلة تقنية، إنما هوَ رؤية فكرية وعلاقة مع الواقع "ـ من حوار محمد ملص مع مجلة " الوحدة "، المغربية. إلا أنني، من وجهة نظري، أرى أن المخرج في فيلم " الليل " قد نحى إلى تعدد أصوات الرواة؛ الابن، الأم، الأب. وأن هذا يذكّرنا بأسلوب المخرج الأمريكي، مارتين سكورسيزي، الذي ظهرَ خصوصاً في فيلمه " الأصدقاء الطيبون "، المنتج عام 1990. ثمة إشكالية نلحظها، ما لو أستندَ للسيرة الذاتية لمحمد ملص، كلٌ من فيلميه الأول والثاني. ففي " أحلام المدينة "، الأسرة تتكون من الأم الأرملة وولديها الصغيرين، أحدهما وهوَ الراوي قد حملَ اسم محمد. جدّه لأمه، المقيم في دمشق، يبدو غاضباً على ابنته كونها تزوجت من غير رضاه من رجل يعيش في القنيطرة. أما في " الليل "، فالأسرة لديها طفل واحد، يحمل إسماً غريباً، على الله. فيما جدّه لأمه، هوَ من يقوم بتزويجها وفي مدينة القنيطرة، أينَ يمتلك مطعماً. المستغرب، فوقَ ذلك، أن الفنان رفيق السبيعي، الذي لعبَ دورَ الجد في " أحلام المدينة "، وأدى في أحد المشاهد أغنية باللغة التركية؛ هذا الفنان، يظهر في " الليل " بدَور أحد العمال ويُعيد أداء نفس الأغنية. في سياق الفيلم، الذي سنقوم بدراسته، نجد أيضاً الميل إلى الفنتاسيا بحيث أن بعض الشخصيات تتكرر بصفة أخرى غير شخصيتها الأولى: جدّ الراوي لأمه، صاحب المطعم، إذا بنا نراه في أحد المشاهد الأخيرة من الفيلم وقد تحوّل إلى مرافق الرئيس شكري القوتلي. هذا الأخير، الذي جسّد شخصيته الفنان رفيق سبيعي، قلنا أننا رأيناه بصفة العامل في أحد المشاهد الإفتتاحية. بقيَ أن نذكر، مشاركة المخرج أسامة محمد في كتابة السيناريو لفيلم " الليل ". والمؤكد أنه هوَ من أدخلَ تعابيرَ من لهجة ريف الساحل ( العلوية )، في حوار لشخصياتٍ تنتمي لبيئة مغايرة. وبالطبع، فإن هذا لا علاقة له بالفنتاسيا، بل يُعدّ تجاوزاً على الواقع. سنجد أن ذلك إنسحبَ أيضاً على وقائع تاريخية محددة، تم التلاعب بها في الفيلم.
2 فيلم " الليل "، شاءَ مخرجه أن يتجسّد عنوانه في مشهدٍ صغير، سبقَ ظهور الشارة. الطفل الراوي، ويُدعى على الله ( قام بالدَور عمر ملص، ابن المخرج )، يبدي بهجته لوالدته حينما يظهر القمر من خلف سحابة. ألعاب نارية، تشتعل على الأثر في السماء، ليظهرَ رجلٌ بملابس الجنرالات وهوَ يتقدّم لتدشين نصبٍ يمثل قرنيّ ثور. في ذات اللحظة، تمتد سكينٌ لعنق حَمَل وتذبحه: هذا المشهد الأخير، كانَ من الممكن إظهاره تعبيرياً بدلاً عن عرضه بتلك الصورة الفظيعة. وللحق، أستغربُ من الأوربيين أن يمنحوا الفيلمَ جوائزهم الرفيعة مع حرصهم على شجب هذه الطريقة الهمجية في ذبح الحيوانات؛ بله وعرضها أمام الكاميرا؟ صوتُ الراوي، المفترض أنه الابن، نسمعه في المشهد التالي وكأنه يقرأ من كتاب السيرة الذاتية. الأم ( الفنانة صباح الجزائري )، تطلب من ابنها الذهاب إلى البرية لقطف باقة من أوراق الآس كي يضعها على قبر أبيه. يجيبها الطفل باستغراب: " ولكنّ والدي لا قبرَ له؟ ". تتداخلُ الشخصيات، وكما في حلم، فيظهر الوالد ( الفنان فارس الحلو ) وهوَ يتكلم بزهو أمام زوجته وابنه عن صورةٍ له من أيام إشتراكه في حرب فلسطين كمتطوّع. الأم، تتقمّص هذه المرة صفة الراوي، وذلك عندما ينهار جانبٌ من دارها عقبَ صراخها على ابنها بضرورة البحث عن قبر أبيه. ثم يعود الابن ليروي، وكأنما يُخاطب الأم، يذكّرها كيفَ أن والده طلب منهما عدم انتظار رجوعه؛ أن الجيران، شاهدوه حينما كانَ في القنيطرة يمشي في شوارعها، حافياً، فيما كان يصرخ ويلعن إلى أن حبسه اليهود في مسجد المدينة الكبير. ويتابع الراوي، أنهما لحقاه إلى تلك المدينة ليجدا اليهود قد إحتلوها، فعادا أدراجهما إلى الشام. تعود بنا الكاميرا، على طريقة فلاش باك، إلى مشهدٍ مشابه: الأب وكانَ ما زال عازباً، يأتي إلى القنيطرة بصورةَ متشردٍ، حافٍ، فيعطف عليه صاحبُ مطعم ( الفنان رياض شحرور ) حينما علمَ أنه من مدينة حماة وقادم من فلسطين عقبَ تطوعه تحت قيادة المجاهد السوري عز الدين القسّام. صاحبُ المطعم، يعرض عليه الاقترانَ بابنته لما عرفَ أنه معلّم نجّار. مشهدُ كتب الكتاب، بالرغم من طرافته، إلا أن الفيلم عرضه بشيء كبير من المبالغة فيما يتعلق بالجو المحافظ، الذي يمنع المرأة من مجرد إلقاء نظرة على الشارع: وجه المبالغة، حدّ التناقض، أن صاحبَ المطعم ما لبث في مشهدٍ آخر أن غضّ الطرفَ عن زوجته وبناته الصبايا حينما ساقهن إلى المخفر بغيَة حملهن على الاعتراف بسارق ليراته الذهبية. أم الراوي، تظهر أيضاً في مشهدٍ تال أمام زوجها وهيَ بلباس داخلي عندما شرعت بالطرق على باب الجيران. كذلك في مشهدٍ مماثل، تنقل لنا الكاميرا مشهدَ أم ترضع ابنها أمام عتبة منزلها. من التناقضات الأخرى في هذا الشأن، ما ذكرناه في مستهل دراستنا، وبحسب النقّاد، أن الفيلم مستمدٌ من السيرة الذاتية للمخرج؛ وهذا كانَ أيضاً حالُ فيلمه الأول، " أحلام المدينة ". في هذا الأخير، يبدو جلياً أن الراوي الطفل هوَ من مواليد 1945؛ أي نفس مواليد محمد ملص. ولكن في فيلم " الليل "، في ذلك العام كانَ الطفلُ الراوي يتجاوز عمره الستة أعوام؟ ثمة مشاهد في الفيلم، أشبه بالاستعراضية، وذلك حينما يظهر المجاهدون المتطوعون للحرب في فلسطين وهم على الخيول ينشدون أغنية وطنية. فكيفَ لو علمنا، أن بلادهم محتلة من قبل الفرنسيين، وعوضاً عن الكفاح من أجل استقلالها فإنهم يذهبون إلى بلد آخر لمحاربة اليهود. بالطبع ( وهذا ما لم يجرؤ مخرج الفيلم على قوله )، أنهم رجال الدين مَن كانوا آنذاك يحضّون مواطنيهم على الجهاد في فلسطين وربما بطلبٍ من سلطة الإنتداب الفرنسيّ عبرَ ممثليها المحليين في الحكومة. هكذا وجدنا حبكة الفيلم، محورها يُداور حول عودة والد الراوي من فلسطين، محبطاً، بسبب هزيمة المجاهدين، فيستقر بمدينة القنيطرة عقبَ زواجه من ابنة صاحب المطعم. في مشهدٍ، سبقَ أن قلنا أنه يوحي بالفنتاسيا ( لناحية من قام بالدَور، الفنان رفيق السبيعي )، يأتي إلى القنيطرة الرئيس شكري القوتلي، لتفقد الجبهة مع إسرائيل. في مطبخ الفرقة العسكرية، وبحضور قائد الجيش حسني الزعيم، يكتشف الرئيسُ أن السمنة فاسدة. على أثر سماعه توبيخاً من الرئيس، يذهب الزعيم إلى دكان ليستعمل الهاتف: " من معي؟، الحناوي؟ قل للشيشكلي أن خطة الانقلاب كما هيَ! ". أي بجملة واحدة، وردت أسماء رجالات ثلاثة، تناوبوا على القيام بالانقلابات في عام واحد؛ عام 1949: بالطبع، ولمن يعرف التاريخ، فإن إنقلاب حسني الزعيم لم يتم بهكذا صورة مرتجلة. إنما في البدء، شنت حملة في الصحافة على قيادة الجيش، متهمة إياها بالاهمال وحتى الفساد. بعدئذٍ انتقل النقاش إلى البرلمان، ليطالب أكثر من نائب بضرورة تنحية قائد الجيش. هذا الأخير، إجتمع عندئذٍ بأركان جيشه وقرروا على الأثر الإطاحة بالرئيس. ونعود إلى المشهد الأخير من الفيلم، وكانت الفنتاسيا حاضرة أثناء موت الأب كما تخيله ابنه: يبدو أن الأب أصطحبه مع والدته إلى مدينة دمشق، وهناك أمام باب بيت عتيق، قال لهما بغموض أنه ذاهبٌ وعليهما ألا ينتظراه. يلحقه الطفل إلى المسجد، فيراه منكباً إلى جانب وقد فارق الحياة. ثم يعترف الراوي، بما أسماه " الموت المشتهى للأب "؛ أي أنه من إختلاق مخيلته. خاتمة الفيلم، تضافر توكيدنا في أكثر من مكان من دراستنا، بشأن تناقض الأحداث مع ما قيل أنها السيرة الذاتية للمخرج. ففي فيلم " أحلام المدينة "، الذي من المفترض أنه يبتدئ من حيث انتهى فيلم " الليل "، رأينا الراوي طفلاً في نحو الثامنة من عمره وقد قدِمَ مع والدته وشقيقه الأصغر من القنيطرة عقبَ وفاة الأب. جدّه لأمه، يبدو جلياً أنه من سكان الحارة الدمشقية ويمتلك بيتاً قديماً من دورَيْن: وإذاً، نحن بإزاء شخصية أخرى تختلف تماماً عن جدّ الراوي في فيلم " الليل "، فضلاً عن تناقضات أخرى أوضحناها في سياق المقال.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحلام المدينة أم كوابيسها
-
وقائع العام المقبل واختلال الوعي
-
ليالي ابن آوى؛ البطريركية والسلطة
-
نجوم النهار؛ رسم ساخر للمجتمع العلوي
-
المصيدة؛ ثنائية الجنس والفساد
-
الإتجاه المعاكس: فيلم فاشل
-
كفر قاسم: القضية الفلسطينية سينمائياً
-
وجه آخر للحب: الرغبة والجريمة
-
اليازرلي والواقعية الجديدة
-
بقايا صُوَر: الأدب والسينما
-
السيد التقدمي والسيناريو السيء
-
رشو آغا؛ العنصرية في السينما
-
سائق الشاحنة: تدشين السينما الواقعية السورية
-
المخدوعون؛ تأريخ الخيانة
-
الفهد؛ قصة أصيلة أم منتحلة
-
سينما المقاولات، سورياً
-
المغامرة؛ الحكاية التاريخية سينمائياً
-
دور الكرد في تأسيس السينما السورية
-
من معالم السينما السورية: الكومبارس
-
إغراء؛ ماذا بقيَ من إرثها الفني
المزيد.....
-
اكتشاف أقدم مستوطنة بشرية على بحيرة أوروبية في ألبانيا
-
الصيف في السينما.. عندما يصبح الحر بطلا خفيا في الأحداث
-
الاكشن بوضوح .. فيلم روكي الغلابة بقصة جديدة لدنيا سمير غانم
...
-
رحلة عبر التشظي والخراب.. هزاع البراري يروي مأساة الشرق الأو
...
-
قبل أيام من انطلاقه.. حريق هائل يدمر المسرح الرئيسي لمهرجان
...
-
معرض -حنين مطبوع- في الدوحة: 99 فنانا يستشعرون الذاكرة والهو
...
-
الناقد ليث الرواجفة: كيف تعيد -شعرية النسق الدميم- تشكيل الج
...
-
تقنيات المستقبل تغزو صناعات السيارات والسينما واللياقة البدن
...
-
اتحاد الأدباء ووزارة الثقافة يحتفيان بالشاعر والمترجم الكبير
...
-
كيف كانت رائحة روما القديمة؟ رحلة عبر تاريخ الحواس
المزيد.....
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|