|
نجوم النهار؛ رسم ساخر للمجتمع العلوي
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 09:31
المحور:
الادب والفن
1 في روايته " الوباء "، المنشورة عام 1981، تنبأ الأديب السوري هاني الراهب بتحول السلطة الإنقلابية في بلده إلى: " العنف الشامل، وطغيان الدولة سيلغي القانون نهائياً، ويعيدنا إلى وضع همجي، التفكك والانحلال لكل قيمة وبنية وعلاقة ". كونه أحد أفراد المجتمع العلوي، فإن الراهب قدّم لنا في تلك الرواية عرضاً تاريخياً لأجيال ثلاثة من ذلك المجتمع، إنتهى بوصول طغمة عسكرية منه إلى سدة الحكم عقبَ إنقلاب البعث. بعد سبعة أعوام من نشر رواية الراهب، سينحو مواطناً له إلى تجسيد نفس الفكرة، سينمائياً. إنه أسامة محمد، الذي تعهّد كتابة وإخراج فيلم " نجوم النهار ". الفيلم، مدته 115 دقيقة وبالألوان الطبيعية. لقد تجرأ المخرجُ على تحدي أكثر من تابو، كانَ قد فرضه نظامُ الأسد على الأعمال السينمائية: منع الحوار بلهجة ريف الساحل، والاستعاضة عنه بلكنةٍ هجينة. منع التطرق المباشر للبيئة العلوية، إلا لو كانَ بهدف تقديمها كضحية لمظلمة تاريخية. أخيراً، والأهم، تجنّب أي إشارة للحقيقة المعروفة لدى كافة فئات الشعب، وهيَ أن طغمة عسكرية ـ أمنية، علوية، هيَ من تحكم البلد. الأجيال الثلاثة في " نجوم النهار "، تمثلت في الجد العاجز، الذي يتذكّره من حوله حينما يقعون في ورطة.. الأب، القاسي القلب، الباحث لنفسه عن دور محوري في العائلة.. إلى الحفيد، الأكبر سناً بين أشقائه، مَن يرغب بالسيطرة على مصائر أقاربه بطرق ملتوية ودونما أن يأبه بمشاعرهم أو اختياراتهم. على عكس رواية الراهب، المَوْسومة، فإن فيلم أسامة محمد إلتزمَ بالزمن المعاصر ونادراً ما كانَ يعمد إلى استخدام عنصر الفلاش بك. أما المكان، الشاهد على أحداث الفيلم، فإنه في قرية المخرج نفسه، الرامة، التي تقع في ريف مدينة اللاذقية. باستثناء مشاهد قليلة في تلك المدينة، فضلاً عن إنتقال الكاميرا في المشاهد الأخيرة للفيلم إلى العاصمة دمشق. يتعيّن الإشارة، لموضوع منع " نجوم النهار " من العرض في سورية، وذلك بأمر شخصي من الديكتاتور حافظ الأسد. هذا، بالرغم من أن الفيلم كانَ من إنتاج المؤسسة العامة للسينما. والمهزلة، أن هذه المؤسسة قد رشحت نفس الفيلم للإشتراك في العديد من المهرجانات العربية والدولية. بل إن بيانات المؤسسة عن هذا الفيلم، محجوبة في موقع ويكيبيديا، علاوة على تعتيم شبه كامل في ذلك الموقع لسيرة مخرج الفيلم. فليسَ ثمة معلومات عن أسامة محمد ( مواليد 1954 )، سوى أنه درسَ الإخراج السينمائي في موسكو وأن فيلمه " صندوق الدنيا " قد عرضَ في مهرجان كان بدورة 2002، وأنه أخرجَ فيلم " ماء الفضة " عام 2016. هذا يذكّرنا بنقمة النظام البعثي على الأديب هاني الراهب ( 1939 ـ 2000 )، صاحب رواية " الوباء "، المتمثلة بفصله من إتحاد الكتّاب، وكيفَ إقتصرت جنازته على حضور زميل واحد من ذلك الإتحاد، وهوَ صديقه الكاتب نبيل سليمان. كذلك يتعين علينا الإشارة، إلى أنه على عكس معظم الأفلام السورية في موقع يوتيوب، فإن فيلم " نجوم النهار "، المنتج عام 1988، كانت نسخته ممتازة. في هذا الشأن، يقال أن منظمة ثقافية إيطالية هيَ من تعهّدت ترميم نسخة الفيلم. ويقال أيضاً، أن فيلم " نجوم النهار " تم عرضه مؤخراً في إحدى الصالات السينمائية الدمشقية بعد منعٍ استمر لمدة 37 عاماً، وبالطبع، على أثر سقوط نظام البعث.
2 شارة " نجوم النهار "، توالت فيها أسماءُ المساهمين في الفيلم بدون خلفية موسيقية. وفي المشاهد الأولى، كانَ يُستعاض عن الموسيقى التصويرية بمواويل من البيئة المحلية أو بأغنيات من نفس البيئة بصوت نسائي: هذا يعبّر، حقاً، عن المزاج العام في ريف الساحل من عشق للطرب والموسيقى. سيفتتح الفيلم بصوَر كأنها لوحات، ربما للتعبير عن تلك البيئة الريفية: بابٌ خشبي، يصدر أنيناً فيما كانَ يفتح ويغلق؛ ضوءُ النهار، يتسلل من كوّة في جدار البيت، لتنزلق منها يدٌ تحمل زوجين من الدجاج؛ حمامةٌ في حالة مخاض، تغادر عشها حالما تسقط منها البيضة. المشهد الأول، يظهر فيه خليل غازي وهوَ يخاطب جدّه، مبيناً معاناته لحين الحصول له على دواء من المدينة. مخرجُ الفيلم، إختار مساعده عبد اللطيف عبد الحميد ( الذي سيغدو لاحقاً مخرجاً )، لتجسيد دَور الحفيد. في حقيقة الحال، وهذا رأي شخصي، أن سبب إختيار هذا المساعد لأداء دور البطولة، إنما لشبهه الواضح بالديكتاتور حافظ الأسد. كذلك أفترضُ، أن إضفاء كنية " غازي " على تلك الأسرة الريفية، كانَ لإيهام الرقابة بأن القصد منها هوَ الفخر بأحد أبناء القرية، المطرب فؤاد غازي. هذا المطرب، يظهر في مشهدٍ لاحق كما سنرى. في المشهد التالي، نسمعُ صوتَ الجد ( الفنان سعد الدين بقدونس ) وهوَ يرتل آية من القرآن. يتقدم منه الحفيد الأصغر، ليقدم له شراباً شعبياً. يمشي الجد باتجاه شجرة معمّرة، ثم يقول للحفيد أنه يرغب بتشييد مقبرة للعائلة في هذا المكان. وكانَ مما له مغزاه، أنه في المشهد الأخير من الفيلم، سيقول أحد مواطني القرية لقريبه كاسر وهما في دمشق: " لا أرغبُ بالعودة لقريتنا قط، اللهم إلا لحضور عزاء واحد من أهلي أو لو مت أنا ". هذه الفكرة، إقتبسها الصحفي ميشيل كيلو، لاحقاً، في مقالةٍ بعنوان " نعوات سوريّة "؛ فعاقبه نظام بشار الأسد بالسجن لمدة ثلاثة أعوام، بتهمة إثارة النعرات الطائفية! حضور المرأة في الفيلم، أستهل من خلال زوجة خليل ( الفنانة مها الصالح )، المتذمرة من تواجد الأقارب في منزلها، وما تكنّه من نفور لشقيقة رجلها. هذه الأخيرة، سناء ( الفنانة صباح السالم )، كانت محور حبكة الفيلم. إذ كانت تجرى التحضيرات لعرسٍ مزدوج، على طريقة زواج التبادل: سناء وشقيقها كاسر، سيعقد قرانهما على شقيقين من أولاد العمومة. العروس الأخرى، واسمها ميادة، تعتقد أنها ستبتلى بالزواج من شخصٍ شبه أبله، وفوق ذلك، نصف أطرش. فما لبثت أن هربت في ليلة العرس، لتلحق بحبيبٍ يمتلك حافلة صغيرة. هنا تتحجج سناء بكرامة أخيها، معلنة رفضها للعريس، الذي كانَ قادماً من ألمانيا . مشهد ليلة العرس، أخذ نصف وقت الفيلم تقريباً. وكانَ ذلك ضمن خطة المخرج، ولا شك، بما حمّله للمشهد من دلالاتٍ وإسقاطات. فالقرية المحرومة من الكهرباء، تشتعل الأضواءُ فيها ليلتئذٍ دونما أن نعرف كيفَ تم ذلك. بل وحضرت أيضاً كاميرا فيديو لتصوير العرس، كانت متصلة بشاشة جهاز تلفاز. والد سناء ( الفنان محمود جركس )، كانَ في الأثناء يمر على المدعوين، المنهمكين بالوليمة، مكرراً هذه اللازمة: " خصمه الله من لا يأكل حتى الشبع ". ثمة لقطة وحيدة في الفيلم، فلاش باك، يستعيد بها الابنُ كاسر ( الفنان زهير عبد الكريم ) مشهداً يبيّن قسوة الأب حينما تسبب له بفقدانه السمع جزئياً بضربه على أذنه. ثم تنتقل الكاميرا لتصوير مشهد حضور ابن عم كاسر، ويُدعى توفيق ( الفنان زهير رمضان )، ليقرأ على المدعوين نتفاً من أشعاره التافهة يتخللها شعاراتٌ ديماغوجية من أدبيات حزب البعث. كذلك يظهر توأم من الأطفال الذكور، يتلون نشيداً عروبياً لا بد أنهما حفظاه في المدرسة. أخيراً، وقبل فضيحة فض العرس، يأتي المطرب فؤاد غازي لكي يقدّم أغنية عشق. وهيَ أغنية، كانَ يُعاد بثها كل يوم في الإذاعة السورية. وإذاً، ترفض سناء ابنَ عمها العريسَ، فما كانَ منه إلا العودة بحراً إلى ألمانيا. شقيقها خليل، المعتاد على صفعها، يستجوبها لمعرفة ما لو كانت عاشقة. وكأنما صفتها هذه، المفترضة، ستكون مبرراً لابن عمها توفيق كي يحاول اغتصابها ليلاً. تعود سناء للعمل في مصنع لتعليب الأسماك في اللاذقية، وهناك في المدينة تعرّفت على أستاذ أدب عربي وإتفقا من ثم على الزواج. إلا أن خليل رفضَ الشاب، كون عائلته ليست من ملاكين الأراضي. ثم أخبر شقيقته، أنه دبّر لها عريساً أفضل. هذا العريس، سيأتي بالطائرة إلى اللاذقية، ومذ لحظة وصوله يتبدى كشخصٍ مختل يعبد القوة. بل إنه عمدَ إلى اغتصاب خطيبته سناء، لما لاحقها إلى نبع ماء على طرف القرية. المشهد الأخير من الفيلم، شاءَ من خلاله المخرجُ إسقاط دلالاتٍ إضافية. إن الشاب المسكين، كاسر، يجد نفسه في دمشق في محاولةٍ لتدبّر عملاً. هوَ الساذج، شبه الأبله، يقع في أكثر من مأزق في المدينة. لكنه كانَ فخوراً لرؤية إعلانات تحمل صورة مواطنه، المطرب فؤاد غازي، منتشرة بكل مكان من مركز المدينة. لحين أن يلتقي بمواطنه الآخر، المتطوع في الجيش، والذي يقيم بحجرة على سطح أحد أبنية العشوائيات في الضواحي: في النقد السينمائي، بخصوص فيلم " نجوم النهار "، قيلَ أن صوَر ذلك المطرب، إنما رَمَز لها المخرجُ بصوَر الديكتاتور حافظ الأسد، التي كانت مبثوثة في كل شارع وميدان بالعاصمة. وأضيفُ، من ناحيتي، إن المخرجَ أوحى في السياق ذاته برمز آخر، لما جعل حفل ذلك المطرب في ملهى معروف في دمشق، يُدعى " القصر "؛ وكأنما هوَ كناية عن الديكتاتور، المقيم فيما يسمى بقصر الشعب. فيلم " نجوم النهار "، كانَ رسماً كروكياً ساخراً للمجتمع العلوي، وذلك في أوج سطوة نظام الأسد على سورية، وعقبَ المواجهات الدموية مع تنظيم الأخوان المسلمين والتي خرجَ منها منتصراً. هذا النظام، يظهره المخرجُ أسامة محمد كسببٍ في انهيار عائلة غازي؛ وهيَ العائلة، المُرَمّزة للمجتمع العلوي الريفي بشكل عام. إن السياسة المقصودة في إبقاء ذلك الريف متخلفاً، لدرجة الحرمان حتى من الكهرباء، كانَ لا بد ان تدفع شبابه إلى التطوع في الجيش كي يتسنى لهم العيشَ بظروف أفضل في العاصمة. بيد أنّ أحلامهم ستتلاشى، وهم ينتقلون من بيوت القرية البائسة إلى بيوت العشوائيات في أطراف دمشق، والتي ستجعلهم مغتربين عن المدنية وعن عاداتهم الريفية سواءً بسواء.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المصيدة؛ ثنائية الجنس والفساد
-
الإتجاه المعاكس: فيلم فاشل
-
كفر قاسم: القضية الفلسطينية سينمائياً
-
وجه آخر للحب: الرغبة والجريمة
-
اليازرلي والواقعية الجديدة
-
بقايا صُوَر: الأدب والسينما
-
السيد التقدمي والسيناريو السيء
-
رشو آغا؛ العنصرية في السينما
-
سائق الشاحنة: تدشين السينما الواقعية السورية
-
المخدوعون؛ تأريخ الخيانة
-
الفهد؛ قصة أصيلة أم منتحلة
-
سينما المقاولات، سورياً
-
المغامرة؛ الحكاية التاريخية سينمائياً
-
دور الكرد في تأسيس السينما السورية
-
من معالم السينما السورية: الكومبارس
-
إغراء؛ ماذا بقيَ من إرثها الفني
-
تشريح الذات: كانَ خريفَ الخبل
-
تشريح الذات: كانَ صيفَ الخفّة
-
تشريح الذات: كانَ ربيعَ العشق
-
تشريح الذات: كانَ شتاءً كئيباً
المزيد.....
-
الجمعة.. انطلاق نادي السينمائيين الجدد في الرياض
-
غدا.. اجتماع اللجنة الفنية للسياحة العربية بمقر الجامعة العر
...
-
“مبروك لجميع الطلاب ” رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور
...
-
مذكرة تفاهم رباعية لضمان التمثيل القانوني المبكر للأحداث بين
...
-
ضحك طفلك طول اليوم.. تردد بطوط على القمر الصناعي لمتابعة الأ
...
-
الياباني أكيرا ميزوباياشي يفوز بالجائزة الكبرى للفرنكوفونية
...
-
كيف تحولت شقة الجدة وسط البلد إلى مصدر إلهام روائي لرشا عدلي
...
-
القهوة ورحلتها عبر العالم.. كيف تحولت من مشروب إلى ثقافة
-
تاريخ اليهود والمسيحيين في مكة والمدينة حتى ظهور الإسلام
-
رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 لكل التخصصات “تجاري، زراعي،
...
المزيد.....
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|