|
الطحين الأسود ولعنة المكان
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 02:27
المحور:
الادب والفن
1 سبقَ لنا دراسة فيلمين عن البيئة الدرزية، هما " اللجاة " للمخرج رياض شيا، و" شيء ما يحترق " للمخرج غسان شميط. هذا الأخير، سيقدم فيلماً آخر عن نفس البيئة، " الطحين الأسود "، إنتاج عام 2001. والمخرج، مثلما جرى ذكره حين تطرقنا لفيلمه الأول، هوَ من جيل خريجي السينما السوفييتية في بداية عقد الثمانينيات. هذا الجيل، تميز بما أصطلح على تسميته ب " سينما المؤلّف "؛ أي تقاطع قصة الفيلم مع السيرة الذاتية للمخرج، على الأقل في باكورة أعماله. لقد لحظنا ذلك بالنسبة لغسان شميط، حينما درسنا فيلم " شيء ما يحترق ". كما أن ما يلاحظ في الأعمال الروائية لجيله، إنها يغلب عليها الإهتمام باللقطات المعبّرة من خلال كاميرا مصوّر ذكي ومحترف، إلى تعهّد كتابة السيناريو، أو الإشتراك فيه مع مؤلّفين آخرين. فيلم " الطحين الأسود "، قصة وسيناريو وحوار غسان شميط، استرجع فيه حقبة تاريخية أعقبت جلاء الفرنسيين عن سورية، وذلك من خلال يوميات قرية درزية. عنوان الفيلم، المتسم بالمفارقة ولا شك، يُحيل إلى المفهوم الغيبي لسكان المنطقة، المفسّر حالة الظلم والقهر. المخرج، ربما بالغ في تفاصيل الاعتقاد الشعبي بالجن، لناحية سكناهم في الخرابات والسراديب أو تسللهم إلى طاحونة القرية لقلب طحينها إلى لون أسود. من ناحيته، يقول غسان شميط في مقابلة صحفية: " الفيلم يدور في قرية مفترضة من جبل العرب، يحكمها مختار ظالم. يتواجد فيها شيخ جليل مع زوجته وحفيده بعد موت ولده، وشاب طامح للسلطة، وفيها المتمرد على الظلم. المقولة، التي كنت أريد إيصالها من خلال ساعتين من العرض، تتلخص بأن الإحتلال الفرنسي رحل، ولكنه استبدل بعد الإستقلال باحتلال آخر أشد وطأة، هو الإقطاع. وأريد أن أوضح أمراً بمنتهى الأهمية، أن البيوت التي شوهدت في الفيلم، ما زالت مسكونة إلى الآن ". الجملة الأخيرة في المقابلة، تجسّدت في الفيلم بتفاصيل غزيرة عن بيوت القرية، التي هي صورة عن ريف الجنوب السوري، بعمارتها المبنية من الحجارة البركانية السمراء، وما يتخللها من آثار؛ كالأقواس والأعمدة، العائدة إلى الحقبة الرومانية. كاميرا المصوّر المحترف، عبده حمزة، نقلتنا إلى مشاهد من تلك القرية، سواءً بالليل أو النهار، وذلك على خلفية من موسيقى تصويرية قام بتأليفها الفنان سميح شقير. إلا أن ثمة ملاحظة سلبية، تتعلق بمونتاج الفيلم. ففي بعض المشاهد، كانت الصورة سيئة أو تتحول إلى اللون الأحمر. كذلك الصوت، لم يكن بالمستوى المطلوب في عددٍ من المشاهد.
2 الشارة، سبقها ظهور امرأة شابة، تدعى أم بدر، تنفذ توصيات شيخة تمارس الرقية، لمحاولة شفاء ابنها الرضيع. صوت الشيخة، ينتهي بهذه الجملة: " الأطفال، الذين يشفون من المرض، نسميهم أبناء الشمس ". سنرى في مشهدٍ تال ما يدل على ذلك الإعتقاد، حينما سلّم مختار القرية لإبنه المجند بالجيش راية عليها رمز الشمس. والمعروف أن هذا الرمز، يرقى إلى عقائد الشرق القديمة، الغنوصية، والتي تأثرت بها لاحقاً الفرق الباطنية؛ كالإيزيدية والإسماعيلية والدرزية والنصيرية. أم بدر تبدو في المشهد الأول مع ابنها الوحيد، الذي أضحى صبياً تعتمد عليه في أعمال الحقل. الأم، وهيَ أرملة، لديها عشيق شاب يتسم بالجرأة والتهور. سنراه في مشهدٍ، يوحي بميثالوجيا المشرق، حينما كانَ في خرابة مسكونة بالجن، ينيرها بالمشاعل كي يتجنب شرّهم أولئك الذين يعبرون بقربها ليلاً. الفيلم، يعزز تلك الدلالة بمشهدٍ آخر، يُظهر فيه كتّاب للأطفال وعلى رأسه شيخٌ عاجز، يعامل تلاميذه بقسوة. لا شك أن طريقة التعليم هذه، البدائية، تعود للعهد العثماني، ويلوح أنها كانت ما زالت شائعة في الريف بالزمن المفترض أحداث الفيلم. فيما بعد، لما أرسلت الدولة معلّماً كي يفتتح مدرسة حديثة في القرية، فإن المختار لم تعجبه الفكرة، فتحجج بالعوائق لإفشالها. جد بدر العجوز، يدير مطحنة القرية، التي يتم فيها طحن الحبوب وعصر الزيتون. حينما إنتهى الموسم، جاء إلى المعصرة عدد من رجال المختار كي ينال حصته، المقدّرة بثلاث تنكات زيت الزيتون. إلا أن الرجال يصرون على زيادة الحصة، وربما لتكون من نصيبهم. لما رفض العجوز زيادة الحصة، ساقوه إلى المختار والذي أمر بضربه وقص شاربه: كأننا أمام نبوءة، حققها الفيلم، وذلك بما عرفناه مؤخراً عن الثورة الشعبية العارمة، التي إشتعلت في السويداء مؤخراً وعلى خلفية قيام عناصر تابعة لوزارة دفاع حكومة دمشق، بإذلال الرجال الدروز عن طريق قص شواربهم تحت تهديد السلاح! حبكة الفيلم، فيها أكثر من محور. أم فرج، وهيَ إمرأة شابة، تقوم ذات يوم بجمع الحطب من البرية، لما أعترضها أحد رجال المختار بحجة مخالفتها للقانون. يهرع زوجها، أيوب، على صراخها لكي يؤدب الرجل وينتزع منه سلاحه. على الأثر، يرسل المختار عدداً من رجاله كي يلقوا القبض على الشاب. حينما لم يعثروا عليه، يبادرون لتحطيم كل آنية المنزل، المحتوية على المؤونة. أيوب، يفر من القرية عبرَ سردابٍ، يعتقد الأهالي أن نهايته في فلسطين. ذلك الإعتقاد، يوحي بأن هذه القرية الدرزية تقع في الجولان وليسَ في محافظة السويداء. ومثلما ذكرناه في دراسة سابقة، أن المخرج غسان شميط هوَ من مواليد الجولان المحتل. امرأة شابة أخرى، اسمها وردة، يأتي بها من لبنان زوجها، الذي ما لبث أن أضحى أقرب معاوني المختار. هذا الأخير، وبعلم الزوج، يتسلل كل ليلة إلى فراش وردة كي يمارس معها الجنس عنوةً. الزوج، يأخذ أمراً من معلمه ذات يوم باستدعاء شرطة المركز لتأديب الفلاحين. ففي نهاية الموسم الزراعي، حاول المختار أيضاً رفع نصيبه من الحبوب. تحضر دورية شرطة، فيولم لها المختار بمناسف اللحوم والبرغل، كمكافأة على جهودهم في تأديب القرويين. في يوم آخر، يُمثل الرجل دورَ الغيور على الشرف والتقاليد، حينما تكتشف علاقة أم بدر بعشيقها. كان يرغب بتدبير عرض تشهير للعاشقين في دروب القرية، إلا أن جد بدر يتدخل ويمنعه من ذلك. الجد، يكتفي بهجر بيت ابنه والمبيت في الطاحونة. في أحد الأيام، يصحو الجد عقبَ رؤيته لمنام مزعج، فينتبه إلى أن الطاحونة تعمل من تلقاء نفسها. وإذا به يتفاجأ، بأن الطحين حال لونه إلى السواد. كأنما هذه كانت علامة، لما سيحل بالقرية من أحداث لاحقة. ابن المختار، يعود من حرب فلسطين برفقة تابوتين محملين بسيارة عسكرية. وإذا أحد الفتيلين، هوَ أيوب، الذي كانَ قد فر من القرية ومن ثم تطوع مع جيش الإنقاذ. وردة، تلتقي على الأثر بابن المختار، فتستولي هذه على قلبه. يطلب من والده أنه يخطبها له، لكن الوالد يعلمه أنها متزوجة من معاونه. وردة، ما لبثت أن تخلصت من حياتها، برمي نفسها في ماء البحيرة. تدور الأيام، وإذا بعشيق أم بدر يظهر مجدداً في القرية، وقد صار آمراً لسرية من الجند: " أقبضوا على المختار، بتهمة مخالفة القوانين! "، يقول لرجاله. فيلم " الطحين الأسود "، شاءَ إظهار مظالم فترة معينة من تاريخ سورية، وذلك بعرض نماذج مختلفة من ساكني الريف. إلا أن وفرة التفاصيل، أدت إلى تشابك الحبكة وضياع محورها الرئيس. مع ذلك، قدّم لنا غسان شميط فيلماً يتسم بلقطات مؤثرة، وكان أيضاً موضوعياً في إستلهام تلك المرحلة التاريخية دونما أن يقع في فخ المباشرة أو الشعارات، التي كانت مألوفة في سينما زمن البعث. الممثلون أيضاً، أدوا أدوارهم ببراعة؛ وكانَ منهم عبد الرحمن أبو القاسم وأسعد فضة ومانيا النبواني وضحى الدبس وسهيل الجباعي ونضال السيجري ومها الصالح.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اللجاة؛ البيئة الدرزية سينمائياً
-
حسّيبة؛ الشام بحسَب يوميات إمرأة
-
شيء ما يحترق؛ عن الدرزي النازح
-
الطحالب؛ حكاية جرح سوري
-
باب المقام، المفتوح على الشغف
-
سُلّم إلى دمشق؛ التقمّص عشيّة الثورة
-
الليل؛ الفنتاسيا والواقع
-
أحلام المدينة أم كوابيسها
-
وقائع العام المقبل واختلال الوعي
-
ليالي ابن آوى؛ البطريركية والسلطة
-
نجوم النهار؛ رسم ساخر للمجتمع العلوي
-
المصيدة؛ ثنائية الجنس والفساد
-
الإتجاه المعاكس: فيلم فاشل
-
كفر قاسم: القضية الفلسطينية سينمائياً
-
وجه آخر للحب: الرغبة والجريمة
-
اليازرلي والواقعية الجديدة
-
بقايا صُوَر: الأدب والسينما
-
السيد التقدمي والسيناريو السيء
-
رشو آغا؛ العنصرية في السينما
-
سائق الشاحنة: تدشين السينما الواقعية السورية
المزيد.....
-
فلسطين كمختبر عالمي لتقنيات القمع ومكافحة التمرد
-
اتهامات بالفساد.. رشيدة داتي وكارلوس غصن في مواجهة مع القضاء
...
-
نواب جمهوريون يطالبون بتسمية دار الأوبرا التابعة لمركز كينيد
...
-
-اختراع الكتب.. اللامتناهي في بَرْدِيَّة- كتاب يولد من رحم ا
...
-
آن هاثاواي تستعد للجزء الثاني لفيلم (الشيطان يرتدي برادا)
-
نقابة الموسيقيين تمنع راغب علامة من الغناء في مصر
-
جيمي لي كورتيس وليندسي لوهان تكشفان سر اجتماعهما مجددًا في ف
...
-
فرنسا: القضاء يحيل وزيرة الثقافة رشيدة داتي وكارلوس غصن على
...
-
فيلم سوبرمان: الفلسطينيون ليسوا بانتظار أبطالا من الغرب لإنق
...
-
هل يتناول فيلم -سوبرمان- حرب الإبادة في غزة؟
المزيد.....
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|