|
الطحالب؛ حكاية جرح سوري
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 13:02
المحور:
الادب والفن
1 تناولنا في دراسات عديدة، أعمال مخرجين سوريين، درسوا في معاهد السينما في الإتحاد السوفييتي السابق. وقد لحظنا إتجاه هؤلاء المخرجين إلى كتابة السيناريو لأفلامهم، متأثرين بالمدرسة السوفييتية. يُنظر إلى هذه المدرسة، وإجمالاً حتى سبعينات القرن الماضي، أنها كلاسيكية إلى حد بعيد علاوة على هيمنة للخطاب الإيديولوجي في مواضيعها. إلا أن ظهورَ موجة الواقعية الجديدة في دول أوربا الغربية على يد مخرجين ينتمون للفكر الماركسي، أثر بقوة على السينما السوفييتية. لدرجة تحدي السلطات، بشكل أو بآخر، من خلال ما كان يُسمى ب " السينما الموازية "؛ أي الفاعلة خارج مؤسسة الإنتاج الرسمية، والممولة غالباً بإمكانيات بسيطة. مما سبق، نستنتجُ أن الخريجين السوريين من معاهد السينما السوفييتية، قد استلهموا أيضاً في خلال دراستهم أساليبَ الواقعية الجديدة، والتي أضحت مدرسة راسخة. أحد أولئك المخرجين، ريمون بطرس ( 1950 ـ 2020 )؛ وهوَ من مواليد مدينة حماة، أنهى دراسته في معهد كييف للسينما عام 1976. في خلال مسيرته الفنية، قدّم أربعة أفلام روائية طويلة فضلاً عن عدد كبير من الأفلام القصيرة والوثائقية. بعضُ أعماله، حازت على جوائز محلية وعربية ودولية. في هذا الصدد، يقول عنه الناقد والسيناريست سامر محمد إسماعيل: " ظل مثل كثيرين من أبناء جيله، مخلصاً لموجة سينما المؤلف، التي بزغت مع عودة هؤلاء من أكاديميات السينما السوفييتية، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت، ليحققوا معظم افلامهم عن بيئاتهم التي خرجوا منها، وذلك من خلال كتابة سيرة حياتهم الشخصية للشاشة الذهبية. فلم يكن بطرس نشازاً عن تلك الخيارات، التي أختص فيها كل مخرج بتقديم صورة أقرب إلى العائلية عن بيئته، ناقلاً سيرة حياته إلى شاشة السينما كمعادل موضوعي لحياة السوريين في تلك البيئة ". ويقول الكاتب في مكان آخر من مقالته: " عاشَ بطرس شيوعياً حتى آخر أيامه، إذ عمل محرراً لسنوات طويلة للصفحة الثقافية في جريدة " النور "، فظلت معظم إشتغالاته في الكتابة والرسم والإخراج والترجمة منصبّة على هذه النظرية ". هكذا نعلمُ أنه إضافة لأعماله السينمائية، فإن بطرس كتبَ عدداً من مسلسلات الدراما، كما وأخرج مسرحية واحدة. كذلك أسهم في العمل كمحرر للأخبار باللغة الروسية من الإذاعة السورية، وترجم من تلك اللغة عدة كتب للعربية. فيلم " الطحالب "، من تأليف وإخراج ريمون بطرس، وقد أنتجته المؤسسة العامة للسينما عام 1991. إنه ثاني أفلام المخرج، تدور أحداثه في مدينته، حماة. إلا أنه وبحسب خطته، كما سنرى في السياق، إختارَ البيئة الريفية للمدينة. ذلك أن المرأة تلعبُ دوراً مهماً في الفيلم، وهذا كانَ سيتعارض مع بيئة مدينة حماة، الشديدة المحافظة. عطفاً على ما سبقَ الحديث عنه بخصوص الواقعية الجديدة، يلحظ المرءُ التأثرَ الواضحَ للمخرج بأفلام المبدعَيْن الإيطاليين، روسيليني وبازوليني، وذلك من خلال تكرار مشهد الأشخاص، المتسمرين بملابسهم السوداء كالأشباح. لقد سبقَ لنا دراسة الفيلم المصري، " المومياء "، وكتبنا عن مشاهدٍ مماثلة. منذ البدء، أطرحُ هنا تصوري عن فكرة الفيلم وأن من غير المستبعد حملها إسقاطاً سياسياً معيناً سواءَ أكانَ ذلك بشكل مضمر أو عفويّ: إن خلاف الأخوين، مختار وغانم، المُحتدم على خلفية نزاع حول الإرث، ربما يُحال إلى الصراع السوريّ بين السلطة والمعارضة المسلحة. ذلك الصراع، الذي ذهبت ضحيته بالدرجة الأولى مدينة حماة نفسها، نتيجة المجزرة الرهيبة في شهر شباط 1982. بعدَ أكثر من أربعة عقود، سترتكب مجازرٌ هذه المرة بحق الحاضنة العلوية، عقبَ سقوط نظام الأسد.
2 في فيلم " الطحالب "، يستوقفنا أولاً ندرةُ الموسيقى التصويرية، وفي المقابل، الإستعاضة عنها في بعض المشاهد بالمواويل والعتابا الشعبية. كما ورافقَ العديدَ من المشاهد صوتٌ كالعويل، صادرٌ عن نواعير حماة الأثرية، الشهيرة. هذا الصوت، يذكّرنا بمثيله في الفيلم المصري الكلاسيكي، " الحرام "، الذي كان يثير مشاعرَ الفلاحة المسكينة المريضة، ما جعلها أكثر من مرة ترمي نفسها في ماء الترعة لكي تتخلص من حياتها. وفي فيلمنا السوري أيضاً، جرى صراعٌ شبيه بين قروية مظلومة وشقيقها، انتهى بغرقها في نهر العاصي. هذا النهرُ، كان أحد المعالم المهمة في فيلم " الطحالب "، كأنما للإيحاء بأن جريانه مستمرٌ بالرغم من كل المآسي والفواجع والآلام. أسعد ( الفنان أيمن زيدان )، شابٌ أعزب يعملُ كاتباً في ديوان محكمة الجنايات. بالنظر لطيبته ونزاهته، فإنه مقصدُ العديدَ من الأشخاص، الذين لديهم قضايا في قصر العدل. في إحدى جلسات المحكمة، يطلق فتى النارَ على المتهم ويرديه قتيلاً وسط زغردة نساء خصوم هذا الأخير. لا شك أن تلك الحادثة الدموية، كانت بمثابة علامة، تنبئ بما سيجدّ من وقائع مماثلة. إلا أن أسعد، هناك في منزله، يعيشُ حياةً هادئة مع شقيقته الأرملة ( الفنانة أمانة الوالي ) وابنها اليافع، الموهوب في العزف على الكمان. لحين قدوم شقيقهما، مختار ( الفنان ماهر صليبي )، من السعودية وكان يعمل هناك مدرّساً، ليبلغهما بعزمه على استثمار ما معه من مال في إنشاء مزرعة على أرض ورثوها عن والدهم. هنا، يُصدم المغتربُ عند علمه بأن الشقيق الأصغر، غانم، قد استولى على الأرض وحوّلها إلى مدجنة. هذا الأخير ( قام بالدَور، الفنان وفيق الزعيم )، يستقبل شقيقه المغترب ويهدئ روعه بالقول أنه سيعوضه بمبلغ كبير. لكن مختار يرفض العرضَ، مهدداً شقيقه باستعمال القوة لو لزم أمر نيله حصته من الأرض. حبكة الفيلم، تتطوّر بدخول أحدهم على الخط. إنه المدعو، أبو كنان ( الفنان عدنان بركات )، وهوَ شخصٌ ثري يمارس انشطة تجارية مشبوهة. يبدو أن له شراكة مع غانم، فيستعمل المدجنة كمكان لتخزين بضائع مهربة. في إحدى المرات، يُدعى أسعد إلى حفلة ماجنة في فيلا يقيم فيها أبو كنان بقرية مجاورة، تخللها رقصُ مجموعة من الفتيات الغجريات: فكم كان مشهدهن مع المُضيف، شبيهاً لمشاهد المجرم علي كيماوي مع الغجريات ( الكاوليات )، المنتشرة على موقع يوتيوب عقبَ سقوط نظام البعث العراقي. بل إن مشهداً آخر، لجثتيّ غانم ومختار، اللتين سجّيتا جنباً لجنب، يذكّرنا بمشهد مماثل لولديّ الديكتاتور صدّام! من ناحية أخرى، كانَ أسعد مرتبطاً بعلاقة حب مع امرأة، اسمها عزيزة ( الفنانة كارمن لبس )، متزوجة وتسعى للحصول على الطلاق. لكن زوجها المصرّ على إعادتها، كانَ يقوم بتهديدها كل مرة. ثيمة القرين، تظهر في الفيلم من خلال إمرأة تسعى في المحكمة للطلاق، فيأتي زوجها بأربعة شهود زور كي يزعموا أمام القاضي أنها زانية. غيرَ أن إمرأة شجاعة ( قامت بالدَور، منى واصف )، تتحدى أولئك الشهود في المحكمة وتبرهن على براءة المتهمة. ثم يواجه أسعد مشكلة أخرى مع شقيقه غانم، حينما علم بأمر أعماله المشبوهة مع أبي كنان. تحل العقدة أخيراً، لكن بصورة مأسوية دموية، لما اندفعَ مختار وهوَ يحملُ بندقية كي يسترجع حقه بالقوة. المشهد الأخير في الفيلم، كانَ مؤثراً أيضاً. نرى أسعد مع حبيبته عزيزة في حافلة كبيرة، وكانَ يلوحُ أنهما قد قررا الهرب معاً والعيش بعيداً عن الآخرين. وإذا بأسعد ينهارُ في غيبوبة، فيتم إخراجه إلى طرف الطريق العام. ليتبين على الأثر أنه فارق الحياة، نتيجة نوبة قلبية: إنه مشهدٌ، يذكّرنا أيضاً بمشهد الختام في فيلم " دكتور جيفاغو "، حينما دهمت النوبة القلبية البطلَ أثناء رؤيته بالصدفة لحبيبته المفقودة، وكانَ يهمُ باللحاق بها لما سقط ميتاً في الشارع. فيلم " الطحالب "، كانَ غنياً باللقطات المتميّزة، المسجّلة بكاميرا المصوّر المبدع جورج لطفي الخوري. الحوارُ كذلك، كانَ جزلاً ومعبّراً. أداءُ أغلب الممثلين كانَ جيداً، سواءً من المخضرمين مثل عدنان بركات ومنى واصف، أو الناشئين كأيمن زيدان وماهر صليبي ووفيق الزعيم وأمانة والي. إلا أن ما يُمكن وصفه بالأمر النافل، هوَ تعدد مواقف العنف ( الأكشن ) غير المبررة. إلى موقفٍ مُستغرب، يفيد بأن أهالي المنطقة مغرمون بأغاني فؤاد فقرو. مع أن هذا المطرب، معروفٌ أن شعبيته معدومة خارج بيئته العلوية.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
باب المقام، المفتوح على الشغف
-
سُلّم إلى دمشق؛ التقمّص عشيّة الثورة
-
الليل؛ الفنتاسيا والواقع
-
أحلام المدينة أم كوابيسها
-
وقائع العام المقبل واختلال الوعي
-
ليالي ابن آوى؛ البطريركية والسلطة
-
نجوم النهار؛ رسم ساخر للمجتمع العلوي
-
المصيدة؛ ثنائية الجنس والفساد
-
الإتجاه المعاكس: فيلم فاشل
-
كفر قاسم: القضية الفلسطينية سينمائياً
-
وجه آخر للحب: الرغبة والجريمة
-
اليازرلي والواقعية الجديدة
-
بقايا صُوَر: الأدب والسينما
-
السيد التقدمي والسيناريو السيء
-
رشو آغا؛ العنصرية في السينما
-
سائق الشاحنة: تدشين السينما الواقعية السورية
-
المخدوعون؛ تأريخ الخيانة
-
الفهد؛ قصة أصيلة أم منتحلة
-
سينما المقاولات، سورياً
-
المغامرة؛ الحكاية التاريخية سينمائياً
المزيد.....
-
“أخيراً جميع الحلقات” موعد عرض الحلقة 195 من مسلسل المؤسس عث
...
-
سرقة موسيقى غير منشورة لبيونسيه من سيارة مستأجرة لمصمم رقصات
...
-
إضاءة على أدب -اليوتوبيا-.. مسرحية الإنسان الآلي نموذجا
-
كأنها خرجت من فيلم خيالي..مصري يوثق بوابة جليدية قبل زوالها
...
-
من القبعات إلى المناظير.. كيف تُجسِّد الأزياء جوهر الشخصيات
...
-
الواحات المغربية تحت ضغط التغير المناخي.. جفاف وتدهور بيئي ي
...
-
يحقق أرباح غير متوقعة إطلاقًا .. ايرادات فيلم احمد واحمد بطو
...
-
الإسهامات العربية في علم الآثار
-
-واليتم رزق بعضه وذكاء-.. كيف تفنن الشعراء في تناول مفهوم ال
...
-
“العلمية والأدبية”.. خطوات الاستعلام عن نتيجة الثانوية العام
...
المزيد.....
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
المزيد.....
|