|
وقائع العام المقبل واختلال الوعي
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 04:50
المحور:
الادب والفن
1 لعل أوضح مثال على ترييف الفن، المعد سياسة ممنهجة مذ استيلاء البعث على السلطة في سورية، نجده لدى مراجعة قائمة أفلام المؤسسة العامة للسينما. فمعظم أفلامها، المنتجة ابتداءً من نهاية الستينات وامتداداً لثلاثة عقود، كانت مستمدة من البيئة الريفية؛ أو أن شخصياتها منبتهم من هذه البيئة، لكنهم يقيمون ويعملون في العاصمة وغيرها من المدن. فيلم " وقائع العام المقبل "، إنتاج عام 1982، شذ عن تلك القاعدة. الفيلم مدته ساعتان، وهوَ بالألوان الطبيعية. المخرج وكاتب السيناريو، سمير ذكرى ( 1945 )، من مواليد بيروت لكنه ينتمي لعائلة سريانية حلبية. درسَ الإخراج السينمائي في موسكو، وكانت أولى أعماله الإشتراك في كتابة السيناريو لعدد من الأفلام؛ مثل " بقايا صُوَر " و" أحلام المدينة ". بالرغم من قلة أعماله السينمائية، إلا أنه ترك بصمة مؤثرة في هذا الفن. عددٌ من أفلامه إشترك في مهرجانات دولية، ونال المخرج عن بعضها جوائز تقديرية وحازت على إعجاب النقاد. الجدير بالملاحظة، أن سمير ذكرى وهوَ كاتب السيناريو الموهوب، كانَ أول أفلامه " حادثة النصف متر "، المنتج عام 1980، مأخوذاً عن قصة للكاتب المصري صبري موسى. كذلك يسترعي انتباهنا، العنوان الإشكالي لفيلم " وقائع العام المقبل "، والذي ربما كانَ القصد منه هوَ وضع المُشاهد منذ البداية في حالة إختلال الوعي لدى بعض الشخصيات. إنها شخصياتٌ، تعيش أزمة وجودية كانَ لا بد لها أن تؤثر على حالتها النفسية بل وحتى مداركها العقلية. هذا يذكّرنا بشخصيات دستويفسكي، المسحوقة تحت عجلات الحياة المادية القاسية في مدينةٍ كسان بطرسبوغ، مليئة بالتعقيدات والتناقضات. ربما دراسة سمير ذكرى في موسكو، جعلته أقرب إلى السينما السوفياتية، التي عالجت أهم روايات ذلك الكاتب الروسي العظيم. في حقيقة الحال، أن مخرجين آخرين اختاروا أيضاً هكذا عناوين غريبة لأفلامهم؛ كأسامة محمد في " نجوم النهار "، وعبد اللطيف عبد الحميد في " صعود المطر ". مع أن هذين الفيلمين الأخيرين، كانت بيئة كل منهما ريفية وليست مدينية. فيلم " وقائع العام المقبل "، كانَ محظوظاً لأكثر من سبب. ففضلاً عن السيناريو المتين، تولى تصويره حنا ورد، الذي قدّم لنا لوحاتٍ رائعة؛ بحيث ذكّرنا بكاميرا المعلّم، جورج لطفي الخوري. إلى ذلك، تعهّد تأليف الموسيقى التصويرية، الفنان النابغة زياد الرحباني. كذلك إشترك في الفيلم نخبة من الممثلين السوريين، علاوة على إبراز موهبة بطله؛ الفنان نجاح سفكوني. ولكن المخرج، قام بإسناد البطولة النسائية إلى هالة الفيصل، ربما مبرراً ذلك أنها فنانة تشكيلية. وكأنما أي ممثلة في مكانها، غير قادرة على تجسيد هكذا دور. والحقيقة، أن هالة الفيصل كانت سيئة في أداء الدور ( هيَ أصلاً ليست ممثلة عدا أنها غير موهوبة في الرسم! )، فبدت في جميع المشاهد كأنها تقرأ الحوار من ورقة.
2 شارة فيلم " وقائع العام المقبل "، تصدّرتها جملة لأحد كبار الصوفيين، النفّري، مقرونة بمنظر لسقف إحدى قاعات البيوت التقليدية الدمشقية. ثم يظهر الموسيقار منير ( الفنان نجاح سفكوني )، وهوَ يقود الأوركسترا في إحدى الحفلات العامة بمدينته، حلب، وذلك بحضور والدته ( الفنانة يولاند أسمر ). حبكة الفيلم، عقدتها هيَ محاولات الموسيقار الشاب تخطي العوائق البيروقراطية، التي تقف في طريق حلم حياته: إنشاء أوركسترا من الشباب الموهوبين، فتية وفتيات، وذلك بتأمين شراء آلات موسيقية غربية، يبلغ سعرها الإجمالي نصف مليون ليرة. إنه يتبرع بمجهوده للفرقة، فيما عمله الأساس كانَ تدريبُ عددٍ من ذوي الاحتياجات الخاصة على العزف. من السياق، نعلم أنه درسَ الموسيقى في عدد من العواصم الأوربية، ويرغب في تطوير الموسيقى الشرقية من خلال أدخال آلاتٍ غربية كلاسيكية فيها. منير كانَ قد انتقل إلى العاصمة للعمل، إلا أنه بين حينٍ وآخر كان يزور مسقط رأسه كي يلتقي والدته وأخوته. إنه يقيم في شقة مع صديقين، أحدهما ضابط في الجيش والآخر رجل يعمل في التجارة. الضابط ( الفنان سلوم حداد )، يظهر في المشهد التالي فيما كانَ مع عشيقته، التي تظهر عارية تماماً في لقطةٍ خاطفة: هذا المشهد، ولا شك، يضعنا في صورةٍ لما كانت تتمتع به لجنة الرقابة من حرية في ذلك الوقت في تقييم الأفلام على أساس فني بعيداً عن التابو الديني والإجتماعي. لقد سبقَ لنا في دراساتٍ سابقة، أن نوهنا عن ريادة السينما السورية بكسر هكذا محرمات سواءً تعلقَ الأمرُ بجسد المرأة أو مشاهد المطارحة الغرامية. بدَوره، كانَ لمنير صديقة، اسمها هيفاء ( هالة الفيصل ). هيَ فنانة تشكيلية، كما أن لديها رغبة في الغناء ضمن فرقته الموسيقية. كانت إمرأة مطلقة، مرتبطة بعلاقة حب مع شاب مسيحي؛ ما يعني مواجهة الأهل والمجتمع. تبدو ذات فكر عدمي غير مبالي، وفي المقابل، كانَ حبيبها يثرثر طوال الوقت بضرورة تغيير المجتمع من خلال الفكر الماركسي. كانوا يجتمعون مع أصدقاء آخرين في البار، يتبادلون الأحاديث. وفي إحدى المرات، ينفعل أحدهم بعدما ثمل، فأخذ يهذي عن بلدته الأولى، الفلسطينية، إلى حد أن العمال أخرجوه من المكان. ثم تنتقل الكاميرا إلى مقبرة الدحداح، لنرى مجموعة من السكارى وكان منير في رفقتهم على سبيل الصُحبة. يقتحم أيضاً جلستهم رجلٌ مسن ( الفنان أحمد أيوب )، ليعاتبهم بالقول أنهم لا يحترمون الشهداء، الثاوين تحت التراب. هوَ كذلك يأخذ بالهذيان، حينما كلّمَ منير عن ابنه، الذي قتل في الحرب الأخيرة. على المنقلب الآخر، كانَ ثمة فتاة ثلاثينية، تدعى لمياء ( الفنانة نائلة الأطرش )، تزور منير بين فينةٍ وأخرى لتشكو له حياتها، المفعمة بالسأم والاحباط. ذات مرة، وجدت هيفاء لدى منير، فأخذته إلى خارج الشقة وراحت تهذي عن رغبتها بالزواج منه وتكوين أسرة سعيدة. بيد أن الموسيقار الشاب، كانَ مشغولاً تماماً بأمر طلبٍ قدّمه للمسئولين بخصوص مشروع تمويل شراء الآلات الموسيقية. أحدهم، كانَ قد استقبل منير أكثر من مرة ( الفنان عبد الفتاح المزين )، معبّراً عن رأيه بعبث تضييع المال العام على المشروع. كانَ مما له مغزاه، أن هذا المسئول لديه في المكتب ببغاء داخل قفص، يقوم بترديد ما يسمعه من أحاديث الضيوف. في سابقةٍ، هيَ الأولى بالسينما السورية، يظهر في الفيلم مشهدٌ لفتى من أحد أرياف الشمال، كانَ يعمل مستخدماً بمقهى يرتاده منير. معلّم المقهى، يطلب من أجيره الغناء بالكردية. فقام الفتى بأداء أغنية، مترافقة مع عزف على آلة الطنبور، تقول لازمتها: " أنا غريبٌ في وطني ". في هذا الشأن، يُقال أن فيلم " وقائع العام المقبل " قد منع من العرض في الصالات السينمائية بسبب الأغنية؟ المشهد الأخير من الفيلم، تنقلنا الكاميرا من خلاله إلى المسرح الروماني في مدينة تدمر الأثرية، أينَ كان منير يقود أوركسترا من تلاميذه، ذوي الاحتياجات الخاصة، وكانَ بين الحضور العديد من أصدقائه. هذا المشهد، أعتبره الأكثر تأثيراً، وذلك لما فيه من تفاصيل المسرح الروماني، وأيضاً، للآثار الأخرى في المدينة: فالمسرح، ومعظم تلك الآثار، قام عناصر تنظيم داعش الإرهابي بتدميرها بعد أكثر من ثلاثة عقود على إنجاز الفيلم. نظام الأسد البائد، هوَ من سهل لهم احتلال المدينة، لكي يُظهر للعالم كذبة حربه على الإرهاب. بينما كانَ، في واقع الحال، يقمعُ ثورةَ شعبٍ تائق للحرية والكرامة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليالي ابن آوى؛ البطريركية والسلطة
-
نجوم النهار؛ رسم ساخر للمجتمع العلوي
-
المصيدة؛ ثنائية الجنس والفساد
-
الإتجاه المعاكس: فيلم فاشل
-
كفر قاسم: القضية الفلسطينية سينمائياً
-
وجه آخر للحب: الرغبة والجريمة
-
اليازرلي والواقعية الجديدة
-
بقايا صُوَر: الأدب والسينما
-
السيد التقدمي والسيناريو السيء
-
رشو آغا؛ العنصرية في السينما
-
سائق الشاحنة: تدشين السينما الواقعية السورية
-
المخدوعون؛ تأريخ الخيانة
-
الفهد؛ قصة أصيلة أم منتحلة
-
سينما المقاولات، سورياً
-
المغامرة؛ الحكاية التاريخية سينمائياً
-
دور الكرد في تأسيس السينما السورية
-
من معالم السينما السورية: الكومبارس
-
إغراء؛ ماذا بقيَ من إرثها الفني
-
تشريح الذات: كانَ خريفَ الخبل
-
تشريح الذات: كانَ صيفَ الخفّة
المزيد.....
-
رحلة أفلام السجون السينمائية بين الرعب والعدالة الاجتماعية
-
أول تعليق من راغب علامة بعد منعه من الغناء في مصر
-
معهد -لو كوردون بلو- لفنون الطهي يصل إلى أبوظبي
-
الدار السودانية للكتب تتعرض للسرقة والتخريب ودار عزة للنشر ت
...
-
الأكاديمي محمد حصحاص: -مدرسة الرباط- تعكس حوارا فكريا عابرا
...
-
مثقفون بلجيكيون يدعون لفضح تواطؤ أوروبا في الإبادة الجماعية
...
-
مصر.. غرامة مشاركة -البلوغرز- في الأعمال الفنية تثير الجدل
-
راغب علامة يسعى لاحتواء أزمة منعه من الغناء في مصر
-
تهم بالاعتداءات الجنسية.. فنانة أميركية تكشف: طالبت بأن يُحق
...
-
حمامات عكاشة.. تاريخ النوبة وأسرار الشفاء في ينابيع السودان
...
المزيد.....
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
المزيد.....
|