ميشيل الرائي
الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 08:13
المحور:
قضايا ثقافية
سُئل ذات يوم سياسي عربي: ماذا عن أولئك الذين يكتبون ضدك؟
فأجاب، كمن يمسح الغبار عن مرآةٍ لا يريد أن ينظر فيها:
"لن أسجنهم، يكفي أنهم خارج الحقل القرائي."
وهكذا بدأ كل شيء...
لم تكن تلك الجملة ردًّا، بل حبكة صغيرة مكتملة، خاتمة لرواية لم تُكتب، أو بداية لنص بلا قارئ.
ففي تلك اللحظة، لم يكن الكلام سلطة، بل كان النظام نفسه يتكلم عبره، كأن اللغة تُفرغ ذاتها من الداخل.
"خارج الحقل القرائي" ـ هل ثمة إقصاء أرقّ من ذلك؟
ليس الموت، بل نزع الاسم.
ليس المنع، بل النسيان المبرمج.
هكذا يُعدم النص لا بالسكاكين، بل بالهدوء.
السلطة لا تقول "لا"، إنها فقط لا تقول "نعم".
الرفض لم يعد فعلاً؛ أصبح فراغًا مدببًا، صمتًا تُحركه علامات ترقيم لم تُكتب.
الفيلسوف؟ لم يُنفَ.
هو هناك، لكن كما تُترك الملاحظات في هوامش الكتب القديمة: موجودٌ، لكنه لا يغيّر شيئًا في الصفحة.
تحوّل إلى أثر بلا مرجع، إلى فقرة معطلة، إلى جملة نسيت كيف تنتهي.
في تلك الجملة، التي نُطقت كعرض عابر، كانت تُعاد كتابة مصير الفلسفة كلها:
لا في مواجهة مع السلطة، بل في لعبة أخرى، أكثر خفوتًا، أكثر غدرًا: لعبة التهميش.
أميمة ـ نعم، زوجتي، أو صوتٌ خرج من أنسجة اللغة ـ قالت لي بصوت ناعم لا يحتاج إلى فوكو:
"السجن، كما تعرف، لا يحتاج إلى قضبان. فقط انزع من الشخص مكانه في الخطاب، وسيُصبح شبحًا."
وهكذا يتحول المفكر إلى ضوءٍ لا ينعكس.
تقرأه ولا تسمعه.
تمر بجانبه كما تمر على إعلان فارغ في محطة مترو.
في مجتمع لا يقتل النص بل ينساه، لا يُمنع التفكير، بل يُؤجَّل إلى إشعار غير صادر.
تُصبح الفلسفة ديكورًا أنيقًا في قاعة انتظار لا أحد يدخلها.
فالفكر لا يموت، بل يُعلَّق.
كقميص لم يُلبس أبدًا.
الخطير هنا أن لا أحد يطلب الحرب على الفلسفة، بل فقط لا يطلبها.
لا أحد يريد إسكاتك، بل لا يريد الاستماع أصلًا.
كأنّ الكتابة ليست ضد السلطة، بل في غياب جمهور.
"النفي الرمزي"؟
بل التواطؤ العميق بين اللغة ولامبالاتها.
ليس هناك من طرد، بل فقط طقس هادئ من التبخير.
الفيلسوف اليوم هو نقطة حبر في كتاب لا يُطبع.
هو جملة عاطفية في نص إداري.
هو سطر بخط جميل في وثيقة لا تُقرأ.
ولذلك...
حين نعيد طرح السؤال: هل ماتت الفلسفة؟
فربما الصيغة الأدق ليست سؤالًا بل شطبة.
لم تُقتل. لم تُنسَ. لم تُقرأ.
#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟