أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - في حضرة التقاعد: خمسة أصوات تتداخل في مرآة رجل واحد














المزيد.....

في حضرة التقاعد: خمسة أصوات تتداخل في مرآة رجل واحد


رانية مرجية

الحوار المتمدن-العدد: 8388 - 2025 / 6 / 29 - 00:48
المحور: الادب والفن
    


ليس من السهل أن تحوّل فعل التقاعد – هذا الحدث البيروقراطي، العابر، وربما الجاف – إلى قصيدة نثرية متعددة الأصوات، تتنازعها الفلسفة والحسرة والسخرية واللاجدوى. لكن جمال أسدي يفعل ذلك، بجرأة شاعر، وبدقة أكاديمي يعرف تمامًا متى يضرب على وتر الوجع ومتى يعزف على نغمة التأمل أو السخرية السوداء.

نحن أمام نص مركّب، لكنه لا يتكلّف التعقيد. نص يُلقى كأنه محاضرة، لكنه مكتوب بلغة شِعر داخلي، بلغة رجل لم تعد الألقاب تعنيه بقدر ما يعنيه سؤال جوهري: من أكون بعد الآن؟ أأنا الأستاذ؟ أم المتقاعد؟ أم المجنون؟ أم الحكيم؟ أم الفارغ؟

تعدد الأصوات… أم تمزق الذات؟

خمسة أصوات، لكنها في العمق خمسة أطياف لذات واحدة. الأستاذ الأول لا يزال يحاضر، يعيش متوهّجًا في سلطة الكلام ومركزية المعرفة. الثاني يئنّ من فائض الوقت والملل والخواء الذي أعقب التوديع الرسمي. الثالث يتهكم، لا من الآخرين، بل من نفسه: “أنا مجرد وظيفة تمشي على قدمين!” الرابع يريد العودة، يتوسل العودة، يعرف أن ما تبقّى من حياة سيكون بلا معنى دون غرفة الصف. أما الخامس، فهو الحكيم، أو بالأحرى من يحاول أن يبدو حكيمًا، لكنه يذوب أمام سخونة الذاكرة والمحبّة والخذلان.

هذه الأصوات ليست مونولوجات متوازية، بل صراع داخلي عنيف بين زمنين: زمن الإنتاج والانخراط، وزمن الانزواء والتهميش. جمال أسدي لا يتعامل مع التقاعد كخاتمة، بل ككابوس بيروقراطي يقطع سياق الذات ويفرض عليها تعريفًا جديدًا لا علاقة له بالجوهر.

عنف المؤسسة وصقيع الاعتراف

ربما أجمل ما في هذا النص أنه لا يقع في رومانسية الزمن الجميل ولا في نوستالجيا زائفة. بل يفضح قسوة المؤسسة التعليمية، يعرّي عنفها الرمزي: فبمجرد أن يحين سنّ التقاعد، تُرمى الخبرات في سلة الأرشيف، وتُمحى الأسماء عن الجدران، ويصبح الأستاذ – الذي كان يُشاد باسمه صباح مساء – مجرد رقم قديم في ملفات الموارد البشرية.

أسدي يُشهِر غضبه، ولكن بلغة هادئة، كمن يهمس: “لقد كنتم تستغلون معرفتي لا تحترمونها”، “كنتم تأخذون جهدي دون أن تعترفوا بوجودي”. هذه الحدة المغلفة بالأناقة هي ما يجعل النص مؤلمًا، شجريًا، بشريًا حتى العمق.

التقاعد كمجزرة معنوية

في المجتمع العربي، لا يُهيّأ الناس للتقاعد، بل يُدفعون إليه كما يُدفع المريض إلى غرفة العزل. لا احتفاء حقيقي، لا تفعيل لخبرات المتقاعدين، لا مساحات تمنحهم دورًا جديدًا. وهنا بالضبط تكمن قوة هذا النص: أنه لا يتحدث عن الأستاذ فقط، بل عن مصير جماعي، عن كل من غادر منصبه وهو يشعر أن منصبه غادره أيضًا. لقد صار المتقاعد أشبه بظلّ لا يعترف به الضوء.


وكم هي لاذعة تلك الجملة التي تختصر المأساة: “ما قيمة ما كنتُ أفعله، إذا كنتم تستطيعون استبدالي بلا حرج؟”

بين الهزل والمرارة: فن السخرية الحزينة

النص يحفل بلحظات من التهكم، من تندّر الذات على ذاتها، كما لو أن الضحك هو آخر وسيلة للنجاة من السقوط. “أنا أحاضر في الفراغ”، “الجدران أصدق من الحضور”، “اسألوا الستارة!”… عبارات تجعل من المحاضرة فعلًا عبثيًا، مسرحيًا، يذكّر بمسرحيات صامويل بيكيت، حيث يتحول الانتظار إلى مأساة صامتة.

لكن هذه السخرية لا تخفي هشاشة الداخل، بل تكشفها بذكاء. فالمتقاعِد في النص لا يسخر لأنه قوي، بل لأنه جُرّد من سلاحه الوحيد: الكلمة، المنصة، الطلاب.

جمالية الفقد والغياب

من الناحية الجمالية، ينتمي هذا النص إلى أدب الاعتراف والبوح، لكنه لا يسقط في الرثاء. بل يحوّل الفقد إلى طقس أدبي، ويجعل من الغياب موضوعًا حاضنًا للنقد والوعي. إنه نص يكتبنا نحن، قبل أن نكتبه نحن. لأن كل قارئ فيه، سيجد صدىً لأحد أساتذته، أو لصورة قادمة له هو شخصيًا.

وهنا نلمح أيضًا بُعدًا وجوديًا: “من نحن عندما لا نكون منتجين؟ ما معنى العمر إذا لم تعد فيه جدوى اجتماعية؟ هل نُعرّف بذواتنا أم بوظائفنا؟”

أسئلة معلّقة لا يجيب عنها النص، لكنه يتركها تتردّد في الذاكرة طويلاً، كأنها تدعونا للتفكير في معنى الكرامة، لا في عمر الستين، بل في كل لحظة نُقصى فيها عن الحضور الفعلي.

خاتمة: دراما من خمسة فصول لا تنتهي

“الأستاذ المتقاعد غير المتقاعد” ليس نصًا عابرًا، بل لحظة درامية كثيفة تختصر صراعات جيل كامل. وهو أيضًا وثيقة أدبية مهمّة في أدب التقاعد – إن صحّ التعبير – هذا الأدب النادر في ثقافتنا، والمطلوب بشدة اليوم، مع تصاعد أعداد من وصلوا سنّ الإقصاء الرسمي عن دوائر الحياة.

إنه نص يجب أن يُقرأ في المدارس، لا من أجل الشفقة، بل من أجل الاحترام. يجب أن يُقرأ في كليات التربية، لا كتحذير، بل كدعوة لإعادة تخيّل دور المعلم.

وإن كنتَ ممن أحببت أساتذتك، فاقرأ هذا النص مرة ثانية وثالثة، لأنك ستشعر في كل مرة أنك تودّعهم من جديد، ولكن هذه المرّة… بامتنان.



#رانية_مرجية (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كن إنسانًا أولاً… ثم حدّثني عن الدين
- “أصابع اليد… وأوهام الصحاب”
- الساخر الذي فضح المأساة: نبيل عودة قلمٌ من نار ومرآة من ضمير
- أيمن عودة… حين يُقصى الصوت الحر من كنيست الاحتلال
- “بيني وبين الدبلوماسية ألف ميل وميل” أكتب بوضوح… لا أتملق
- نحن مسيحيون ولسنا نصارى
- الحمد لله على نعمة الإنسانية
- “الإبداع لا يُختَصر في جماعة: دعونا نتحرر من الشليلة”
- سوريا… وترتيلةُ الدم في كنيسة مار إلياس
- ✦ مسيحيو الشرق: ملح الأرض ونورها
- من يستطيع أن يُعرب كلمة “صُمير”؟
- من قال إن الكنائس لا تُفجّر؟! — دماء مار إلياس تصرخ في شوارع ...
- الرملة واللد ويافا: ثلاثية الجرح الفلسطيني من النكبة إلى معر ...
- الإصغاء كفعل مقاومة: من دورة توجيه المجموعات في مركز ريان، إ ...
- -همسات من الوطن العربي-- قصص قصيرة جداً
- أن تكون مثقفًا يعني أن تشجّع غيرك وتدعمه
- أمي، هل تسمعينني الآن؟
- ارتعاش الخلاص
- حين تنطق الأرض وتبكي السماء
- وصايا لعصر تائه


المزيد.....




- روبرت ريدفورد وهوليوود.. بَين سِحر الأداء وصِدق الرِسالة
- تجربة الشاعر الراحل عقيل علي على طاولة إتحاد أدباء ذي قار
- عزف الموسيقى في سن متأخرة يعزز صحة الدماغ
- درويش والشعر العربي ما بعد الرحيل
- -غزة صوت الحياة والموت-.. وثيقة سينمائية من قلب الكارثة
- -غزة صوت الحياة والموت-.. وثيقة سينمائية من قلب الكارثة
- بائع الصحف الباريسي علي أكبر.. صفحة أخيرة من زمن المناداة عل ...
- لماذا انتظر محافظون على -تيك توك- تحقق نبوءة -الاختطاف- قبل ...
- فاضل العزاوي: ستون عامًا من الإبداع في الشعر والرواية
- موسم أصيلة الثقافي 46 يقدم شهادات للتاريخ ووفاء لـ -رجل الدو ...


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رانية مرجية - في حضرة التقاعد: خمسة أصوات تتداخل في مرآة رجل واحد