رانية مرجية
الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 03:08
المحور:
المجتمع المدني
خمسة وعشرون عامًا مرت على غيابك يا فيصل، ونحن لا نزال نبحث عنك في الوجوه، في الخطاب، في الحضور الذي لا يكتمل، وفي القدس التي كلما ضاقت بها الأزقة، توسعت في حلمك.
خمسة وعشرون عامًا ونحن نحاول جاهدين أن نكمل الطريق، أن نملأ الفراغ الهائل الذي خلّفه غيابك. لكن الحقيقة، التي لا نهرب منها، هي أننا لم ننجح. ليس لأننا لم نحاول، بل لأن فيصلك لم يكن مجرد شخص، بل كان مشروعًا، روحًا، نسيجًا من الوطن.
فيصل الحسيني لم يكن ابن الشهيد فقط، بل ابن القضية، وريث الأمل، حامل القدس في قلبه وملفها تحت ذراعه. لم ينحنِ أمام الكبار، ولم يتعالَ على الصغار. ظل حتى آخر أيامه يطرق أبواب البيوت المقدسية، يحمل معهم الهمّ، ويسند جدران البيوت المهددة بالهدم بصلابة الكلمة والموقف.
لقد غادرتنا، يا فيصل، في لحظة كان الوطن أحوج ما يكون فيها لصوتك الهادئ الصارم، لابتسامتك الحنونة التي تشي بالحزم، لعينيك التي لم تنم رغم تعبك. رحلت في صباح مهيب من أيار، في الكويت، بعيدًا عن قدسك التي ما انفك قلبك يحدّق إليها.
نفتقدك اليوم، ليس فقط لأنك غائب، بل لأننا نعيش زمنًا بات فيه الموقف نادرًا، والمبدأ مرهونًا، والقدس متروكة لقدرها. نفتقد وضوحك، شجاعتك، إيمانك الذي لم يتزعزع، رغم كل الانكسارات. لقد كنت آخر الرجال الذين لم يهادنوا على القدس، ولا على كرامة الفلسطيني.
منذ رحيلك، كثر الحديث عنك، لكن من عرفك عن قرب، يعلم أن الحديث وحده لا يكفي. كنت تزرع في الناس أملًا نادرًا، ليس في التحرير فقط، بل في الإنسان، في قدرته على أن يصمد، ويواجه، ويبتكر الحياة من ركام الموت. كنت تقول: “القدس ليست عقارًا نملكه، بل هوية تملكنا”. وها نحن، بعد ربع قرن، نعي عمق تلك الكلمات، حين صارت الهوية مستباحة، والقدس تُفرغ من ناسها وأحلامها.
هل تذكر حين قلت “لن أخرج من القدس حتى في نعشي”؟ خرجت، يا فيصل، ولكنك عدت إليها، عدت في نعشك كما وعدت، ودفنت في ترابها، في حضن والدك عبد القادر الحسيني، كأنكما اتفقتما على أن تكون الحياة والموت سواءً في سبيل القدس.
فيصل، في ذكراك الخامسة والعشرين، لا نرثيك فقط، بل نرثي غياب النموذج، غياب المعلم، غياب الرجل الذي لم يضعف حين ضعفت المؤسسات، ولم يساوم حين سادت ثقافة التسويات.
لقد عشت بسيطًا، ومِتّ كبيرًا، وها نحن، بعد كل هذه السنوات، نقرأك كأنك لا تزال بيننا. كلماتك لا تزال تُدرّس، وملامحك لا تزال في جدران القدس، في عيون الأطفال، في وجع الأمهات، في كل حجر قاوم أن يتحول إلى شاهد قبر على شعب ما زال يقاوم.
سلام عليك، يا من لم تُبددك الذاكرة. وسلام على مسراك إلى القدس، وسلام على إيمانك الذي لا يموت.
فيصل، كم نفتقدك
#رانية_مرجية (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟