أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الثالث والأخير )















المزيد.....

العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الثالث والأخير )


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 08:17
المحور: الادب والفن
    


الجزء الثالث: المصير المركّب — بين الجبر والاختيار
1. سؤال المصالحة: هل يمكن أن يجتمعا؟
في قلب كل عقل تأملي، ينهض السؤال العتيد: إذا كان العالم محكومًا بالحتمية، فكيف نكون أحرارًا؟ وإن كنا أحرارًا، فأين موقع هذه الحرية في عالم محكوم بالأسباب والقوانين؟
ربما الجواب لا يكمن في الإلغاء، بل في الدمج: أن نعيد التفكير في العلاقة بين الإرادة والحتمية لا بوصفهما نقيضين، بل كوجهين لعملة الوعي الإنساني.
2. إرادة داخل النظام: الحرية كوحدة ضمن الكل:
أحد أكثر الأطروحات عمقًا في هذا السياق هو ما يسميه بعض الفلاسفة "الحرية المتوافقة" (compatibilism)، والتي تقول إن الحرية لا تعني غياب الأسباب، بل تعني أن تكون هذه الأسباب نابعة من الشخص نفسه.
دانيل دينيت يضرب مثلًا بذلك: إذا كان المرء يُجبر على فعل شيء تحت التهديد، فهذا ليس حرية. أما إذا كان يفعله لأنه يرى فيه قيمة أو مصلحة نابعة من شخصيته، فهذا "اختيار حر"، رغم أنه ناتج عن دوافع سابقة.
وهنا تظهر فكرة عميقة: أن "الحرية" ليست "انفصالًا عن السببية"، بل "اتصال بالذات العارفة بذاتها ضمن نسق سببي"¹⁷.
3. المجرى والسبّاح: استعارة للعلاقة المركّبة:
تخيل نهرًا هائلًا، يمثل قوانين الطبيعة والحتمية الكونية. كل قطرة ماء تسير فيه محكومة بالجاذبية والانحدار. لكن وسط هذا التيار، يسبح إنسان.
هو لا يستطيع أن يوقف جريان الماء، ولا أن يعكس اتجاهه، لكنه يستطيع أن يسبح، أن يختار موقعه في المجرى، أن يقاوم، أن ينساب، أن يغرق أو ينجو.
هذا هو الإنسان داخل النظام: لا يتحكم في مجرى الكون، لكنه يتحكم في حركته داخله.
4. تقاطعات الزمن: الماضي كقيد، الحاضر كإمكان:
الماضي حتمي: لا يمكن تغييره. أفعالنا السابقة، بيئتنا، جيناتنا، تجاربنا، كلها تصوغ شخصيتنا وتوجهاتنا.
الحاضر لحظة اختيار: فيه نملك القدرة على اتخاذ قرار جديد، أو إعادة توجيه. في هذه اللحظة، تتقاطع الخطوط: دوافع من الماضي، احتمالات من المستقبل، وإرادة حاضرة تختار الطريق.
المستقبل احتمالي: لا شيء مؤكد فيه. وهنا يكمن فضاء الحرية.
هذا التصور يشبه ما يُطلق عليه البعض "الحتمية الديناميكية"، حيث تسير الكائنات ضمن نظام، لكن كل لحظة تحمل هامش تعديل وإعادة تشكيل للمسار²⁰.
5. السيناريوهات المتوازية: فرضية الأكوان المتعددة:
في بعض الفرضيات الفيزيائية، خاصة في تفسير "العوالم المتعددة" (Many Worlds Interpretation) في ميكانيكا الكم، يُفترض أن كل قرار أو حدث يمكن أن يولّد واقعًا مختلفًا. أي أن كل احتمال ممكن يحدث في كون موازٍ.
هذا الطرح وإن كان علميًا، إلا أنه يفتح بابًا فلسفيًا ضخمًا: هل نحن نعيش مسارًا من بين عدد لانهائي من السيناريوهات الممكنة؟ وهل حريتنا هي في اختيار أحدها دون وعي منا؟ أم أن الوعي هو مجرد قناة لمرور أحد هذه السيناريوهات؟²¹
6. الحرية كإرادة للمعنى:
قد لا تكون الحرية المطلقة ممكنة، لكن الإنسان لا يبحث عن حرية بلا قيد، بل عن "حرية لها معنى".
كما قال فيكتور فرانكل: "الحرية وحدها لا تكفي، بل يجب أن تُقرن بالمسؤولية."²²
الحرية هنا ليست ضد الحتمية، بل هي شكل من أشكال تفاعلنا الواعي مع المعطى، قدرتنا على منح ما يحدث لنا تأويلاً، على تحويل الضرورة إلى فرصة، والقدر إلى قصة.
7. الحقيقة الوجودية: الإنسان بين الضرورة والاندهاش:
ربما الحقيقة الكبرى أن الإنسان ليس مخلوقًا حتميًا ولا حرًا تمامًا، بل هو كائن متوتر بين الحتمية والحرية.
كل قرار يتخذه هو تقاطع بين جسده المحكوم بالطبيعة، وعقله السابح في المعنى.
وفي هذا التوتر يكمن الوعي، وتكمن المسافة التي يصنع فيها الإنسان ذاته، وينقذ حريته من الذوبان.

الجزء الرابع: في حضرة القَدر – تأملات صوفية في الحتمية والإرادة
حين يقف الفيلسوف ليسأل: "هل نحن أحرار؟"،
يبتسم الصوفي ابتسامة العارف، ويقول: "وهل هناك غير إرادته؟".
إن نظرة المتصوفة إلى الحتمية والحرية لا تقوم على الجدل العقلي، بل على الذوبان في عين الحقيقة.
لا يبحث الصوفي عن حرية مفصولة عن الله، ولا حتمية تُقصيه، بل عن مقام الفناء، حيث لا يبقى من "الأنا" شيء يطالب بالاختيار.
الحتمية، في التصوف، ليست سلسلة من الأسباب المادية، بل تجلٍّ لإرادة مطلقة، كلية، لا تحتاج إلى تفسير.
كل ما يحدث إنما هو تجلٍّ للاسم "القهار" و"الحكيم" و"اللطيف"،
وكل ما نظنه خيارًا، إنما هو ستر لهيبة الحق، كي لا يُفني عبده بنوره.
يقول ابن عطاء الله السكندري في "الحكم":
"أراح الله القلوب من التعلق بالأسباب، وقطع آمال النفوس عن التطلع إلى الحيل."
وهنا يُدرك السالك أن الإرادة الحقيقية ليست في الاختيار بين الأشياء، بل في الرضا بكل ما يأتي.
فأين الإنسان إذن؟
الإنسان في التصوف ليس مفعولًا به تمامًا، ولا فاعلًا مستقلاً، بل هو مرآة.
كلما صقل مرآته، انعكست عليه الأسماء والصفات، وكلما تزاحمت "الأنا"، حجبت عليه النور.
هو في مقام العبودية، وهي أعلى مقامات الحرية، لأن العبد الذي لا يملك لنفسه شيئًا، قد تحرر من كل قيد سوى الله.
يقول الجنيد:
"الحر عبد ما طمع، والعبد حرّ ما قنع."
فحرية الصوفي ليست فعلاً، بل حال. ليست اختيارًا بين طريقين، بل انمحاء في طريقٍ واحد هو طريق الحب والمعرفة.
ولذلك، فإن السؤال الصوفي عن الإرادة لا يُطرح ليُجاب، بل ليُحترق به.
يحترق القلب شوقًا، ويحترق العقل عجزًا، حتى لا يبقى سوى التسليم، لا خنوعًا، بل شهودًا.
وهذا الشهود، لا يلغي الفعل، بل يجعله صلاة.
الصوفي لا ينكر وجود الإرادة، لكنه يراها مخلوقة.
ولا ينكر الحتمية، لكنه يعرف من وراءها الفعل الإلهي.
وبين إدراك التقدير، والعمل كأنك غير مقدر، تنشأ المقامات.
ففي التصوف، الحرية الحقة هي أن تكون عبدًا لله لا عبدًا لنفسك،
وأن تتحرك في الكون كأنك مختار، وأنت في قلبك تعلم أن كل ما فيك من حركة، إنما هي نفخة من "كن".
ومن ثم، وفي نهاية المسار، لا يتراجع السؤال، بل يتكاثف.
لم نصل إلى يقين مطلق، ولم ننجُ من التناقض، وربما هنا تكمن الحقيقة الوحيدة: أن الإنسان ليس كائنًا نهائيًا، بل هو جسرٌ بين الضرورة والاحتمال، بين ما هو مفروض عليه، وما يجرؤ أن يفرضه.
إن الحتمية لا تُلغى، والحرية لا تُثبت، بل تتداخلان في رقصة سرّية، لا يعرف قواعدها إلا من عاشها.
كأن الكون آلة هائلة تدور بانتظام، وفي قلبها ترنّ شرارة، لا نعرف كيف اشتعلت، ولا لماذا ترفض أن تنطفئ.
ربما ليست الحرية سوى هذا الرفض، رفض أن نكون رقمًا في معادلة، أو نتيجة في سلسلة، رفض أن نُختزل في السبب والنتيجة، وأن تُختزل الحياة في توقعات دقيقة.
الحرية ليست انتصارًا على الحتمية، بل يقظة داخلها، هي إدراك الفارق بين أن نسير لأن لا طريق غير هذا، وبين أن نسير لأننا رأينا فيه معناً واختبرنا فيه ذواتنا.
فليكن الإنسان إذن، هو الكائن الذي يسأل: هل أنا من أراد؟
وهو الذي، رغم السؤال، يمضي.
ليس لأن الجواب قُدّم له، بل لأن السؤال صار فيه.

الهوامش والمراجع:
17. Dennett, Daniel. Elbow Room: The Varieties of Free Will Worth Wanting. MIT Press, 1984.
18. Kane, Robert. The Significance of Free Will. Oxford University Press, 1996.
19. Frankfurt, Harry. The Importance of What We Care About, Cambridge University Press, 1988.
20. Popper, Karl. The Open Universe: An Argument for Indeterminism, Routledge, 1982.
21. Everett, Hugh. "Relative State" Formulation of Quantum Mechanics, 1957.
22. Frankl, Viktor. Man’s Search for Meaning, Beacon Press, 1946.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الثاني )
- العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الأول )
- بين أختراع الحقيقة وإكتشافها ( الجزء الثاني والأخير )
- بين اختراع الحقيقة وأكتشافها ( الجزء الأول )
- فم الذئب
- الفنان حسن فايق أيقونة الكوميديا
- فيلم معركة الجزائر 1966 وثق كفاح شعب واستغله الأمريكان في غز ...
- قراءة نقدية مقارنة بين أدونيس وأمل دنقل
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الرابع - الحلقة الثانية ...
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة ( الجزء الثالث )
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الرابع )
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة ( الجزء الثاني )
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الثالث - الحلقة الأولى ) ...
- مذكرات السيدة تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الأول + الجزء الث ...
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثالث )
- القفز من نافذة الحكاية
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة: أول برلمان، وأول تعليم مج ...
- النجمة فاتن حمامة وجه القمر سيدة الشاشة العربية
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثاني )
- شيخ الفنانين التشكيليين المصريين حامد عويس ( الجزء الأول )


المزيد.....




- فيلم -المشروع X-.. هل يصبح أهم أفلام 2025 المصرية؟
- جنيفر لوبيز تشعل حفل جوائز الموسيقى الأمريكية وجانيت جاكسون ...
- القتلة المتسلسلون.. كيف ترعب أفلامهم المشاهد وتحبس أنفاسه؟
- خمسون عاما على السعفة الذهبية: -وقائع سنين الجمر- مازال يحتل ...
- المخرج الفلسطيني إياد الأسطل: -غزة تقاوم بالفن أيضا-
- حكاية العربي الأخير لواسيني الأعرج.. نقد الراهن واستشراف الم ...
- الأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر.. الألخميادو وتلمس سبل ال ...
- تأثير صناعة الرياضة على ثقافة الشباب والاقتصاد في عام 2025
- -مستشفى الشفاء- و-غزة ساوند مان- يعززان رصيد الجزيرة 360 من ...
- بعد منحها لقب -العاصمة الثقافية لروسيا لعام 2025-.. توقعات ب ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الثالث والأخير )