محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 8342 - 2025 / 5 / 14 - 23:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة لابد منها على جزئين:
( الجزء الأول )
في استهلال هذه السيرة من مذكرات تحية عبد الناصر، نُطلّ بالفعل على لوحة إنسانية حافلة بالتناقضات العميقة: حيث تتقاطع البساطة مع العظمة، والسكينة العائلية مع زلازل السياسة. ليست هذه الوثيقة مجرد سرد لامرأة عاشت في ظل أحد أكثر القادة تأثيرًا في التاريخ العربي الحديث، بل هي شهادة وجدانية نادرة تنسج خيوط الحياة اليومية لجمال عبد الناصر من خلال عيني من عرفته كزوج، لا كزعيم، ومن رأت فيه الأب والرفيق والإنسان، قبل أن يراه العالم أيقونة الثورة وأسطورة الأمة.
ما تبوح به تحية عبد الناصر في سطورها الأولى، لا يقتصر على البوح الشخصي أو الحنين الموجع بعد الفقد، بل يتعداه إلى إعادة رسم صورة كاملة لزمنٍ بكامله من خلال عدسة البيت الصغير، لا عبر شاشات الخطابات أو ميادين الجموع. في عالمٍ يضجّ بالخطابة والبطولة المصطنعة، تكتب هذه السيدة الجليلة حكايتها بنبرة هامسة، راضية، واثقة، كأنها تقول لنا: "هكذا يُبنى التاريخ الحقيقي، لا في المؤتمرات بل في المطابخ، لا على المنابر بل في عيون الأطفال، لا في السلطة بل في الحب".
هذا النص ليس وثيقة محلية تخص مصر وحدها، بل هو لبنة أساسية في أرشيف الوجدان الإنساني العالمي؛ لأنه يكشف ذلك الوجه الخفي للثورات: الوجه الذي لا تلتقطه الكاميرات، حيث يمشي الزعيم، لا في البذلة العسكرية، بل في البيجاما، حيث يبكي الأطفال لا لأن الوطن في خطر، بل لأن أباهم تأخر عن العشاء.
إن ما تبدأه تحية عبد الناصر هنا ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، بل نوع من "الاعتراف الصامت"، شهادة امرأة حملت عبء الذاكرة، وقررت أخيرًا أن تسلمه للتاريخ قبل أن تودع الحياة، وكأنها تقول لنا إن وراء كل عظيم امرأة لم تحاول أن تكون عظيمة، لكنها كانت المدى الذي اتسع لعظمته.
في هذا السرد، ينسحب التاريخ الرسمي بكل جلاله، ليمنح الساحة للحكاية الصادقة، النقية، التي تسير على مهل، كما تمشي الأرامل في وداع لا ينتهي.
وكزوجة لرئيس جمهورية كانت:
1. رمز للحضور الأنثوي الصامت في زمن العاصفة
لم تظهر على المنصات، ولم تخرج للميادين، ولم تلقِ خطابات، لكنها كانت الوجه الآخر للثورة: الوجه الذي يحفظ التوازن الإنساني للقائد وسط دوامات السياسة.
في وقت كانت فيه مصر تمور بالانقلابات والمؤامرات والتحولات الجذرية، كانت تحية توفر لجمال عبد الناصر مساحة من الثبات الأسري، والسكينة العاطفية، والتوازن النفسي. وهذا في حد ذاته دور سياسي عظيم في خلفيته، لا في ضوءه.
السياسيون يقفون أمام الشعوب، أما تحية فكانت تقف خلف عبد الناصر، لتمنع الظلال من أن تتسرب إلى قلبه.
2. الحياد الواعي: الامتناع عن التدخل كان موقفًا سياسيًا
في مذكراتها، تروي كيف كانت ترى "أشياء شديدة الغموض" في المنزل قبل الثورة، لكنها لم تسأل، ولم تحاول التطفل.
لم يكن ذلك جهلًا، بل احترامًا لدور زوجها، وإدراكًا لخطورة المرحلة.
موقفها هنا هو موقف واعٍ بالتاريخ، لا سلبي حيادي. لقد مارست الحذر السياسي، دون أن تدّعي دورًا لا يناسبها.
لم تكن شاهدة صامتة فقط، بل "شاهدة كريمة" تحفظ الأسرار، وتصون البيت من أن يكون مسرحًا للقلق أو الفضول.
3. تحية كأداة من أدوات "صناعة الصورة السياسية" لعبد الناصر
ظهرت مرات قليلة في الإعلام، دائمًا في إطار متواضع، بسيط، شعبي.
لم تتكلم في السياسة، لكنها كانت تقدم صورة القائد الذي لا يعيش في برج عاجي.
زياراتها الصيفية البسيطة مع أولادها، منزلها المتواضع، رفضها للترف — كل ذلك صاغ جزءًا من الخطاب السياسي الشعبي لعبد الناصر: ابن الشعب، القريب من الناس.
تحية كانت جزءًا من “المشهد السياسي” دون أن تكون سياسية: هي مكون في رواية الزعيم لا في خطابه.
4. دورها بعد وفاة عبد الناصر: المرأة التي تواصل حماية الذاكرة
بعد رحيل جمال عبد الناصر، لم تتكلم كثيرًا، لكنها كانت حارسة الذاكرة.
رفضت أن تُكتب مذكراتها في البداية خوفًا من أن "تُحرج بعض الناس" أو تفتح ملفات لا تريدها.
ثم عادت بعد سنوات لتكتب من أجل ابنها، ومن أجل التاريخ، ولكن بلغة أم، لا بلغة مؤرخة.
كتبت لا لتؤرخ الثورة، بل لتُخلد الإنسان الذي كان يسكنها، ولتُذكّر الأجيال أن القائد كان زوجًا وأبًا قبل أن يكون زعيمًا.
5. قوتها كامرأة مصرية تمثل جيلًا بأكمله
تحية ليست فقط زوجة عبد الناصر، بل تمثل المرأة المصرية في منتصف القرن العشرين:
الصابرة.
القوية بلا صخب.
الذكية بلا استعراض.
الوفية حتى بعد الفقد.
لم تكن مناضلة نسوية، لكنها تجسيد عملي لقدرة المرأة على الثبات، التكوين، والاحتواء.
وخلاصة القول:
تحية عبد الناصر كانت السياسة التي لم تُمارس، لكنها صُنعت منها.
كانت المرأة التي اختارت الظل، فأنارت به قلب زعيم.
كانت الأمان في زمن الخوف، والبساطة في زمن التهويل، والوفاء في زمن التحول.
_____________________________________________________
مقدمة لابد منها على جزئين:
( الجزء الثاني):
تحية عبد الناصر: الدور الخفي للمرأة في هندسة الوجدان السياسي لثورة يوليو:
في سرديات الثورات، تتصدر الوجوه العسكرية والسياسية المشهد، بينما تُدفع الشخصيات الأنثوية إلى الهوامش، ويُطمر أثرها في الصمت أو الظل. لكن حين نعيد قراءة سيرة تحية عبد الناصر، زوجة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ندرك أن هناك دورًا آخر، أكثر خفاءً وعمقًا، ساهم في تشكيل الوجدان السياسي لثورة يوليو 1952، وصياغة صورة الزعيم في الوعي الجمعي، دون أن تنطق هذه المرأة بجملة سياسية واحدة.
لم تكن تحية عبد الناصر امرأة تقليدية كما تبدو للوهلة الأولى، بل كانت تجسيدًا للمرأة المصرية الصامتة التي لا تطلب لنفسها دورًا، ولكنها تتحول بفعل إخلاصها وثباتها إلى مركز اتزان عاطفي في قلب العاصفة. لقد أدّت دورها بلا صخب، وكانت بمثابة "الظل الحارس" لرجل يواجه صراعات الإقليم والتاريخ.
منذ اللحظة الأولى لزواجها بجمال عبد الناصر في 29 يونيو 1944، قبل قيام الثورة بثماني سنوات، دخلت عالمًا مختلفًا. لم يكن زوجها مجرد ضابط شاب، بل كان رجلًا يحمل مشروعًا في قلبه. تحية، في وعيها الفطري، أدركت أنها لا تتزوجه وحده، بل تتزوج قضيته. ومع ذلك، لم تحاول أن تفرض نفسها على عالمه، بل اختارت موقعًا خلفيًا لا يقل أثرًا عن المنصة الأمامية.
في بيت الزوجية، كانت ترى زملاء جمال يدخلون ويخرجون، كانت تسمع همسات عن الاجتماعات والتخطيط، لكنها لم تسأل، ولم تلح، بل اختارت الصمت الواعي. ذلك الصمت، الذي لا ينم عن جهل أو تهميش، بل عن احترام عميق للدور، وثقة بالشريك، وانحياز لقدر تراه أكبر من التفاصيل.
كان حضورها السياسي غير مباشر، لكنه مؤثر. لم تظهر في المشهد العام إلا نادرًا، ولكنها كانت حاضرة في كل بيت مصري بصورة الزعيمة المتواضعة، الزوجة الصبورة، الأم البسيطة، التي تذهب إلى المصيف مع أطفالها دون موكب، وتعيش في بيت لا يختلف عن بيوت الناس.
لقد ساهم هذا النموذج في ترسيخ صورة عبد الناصر ليس فقط كقائد جماهيري، بل كرجل من الناس، بيته يشبه بيوتهم، وزوجته تشبه زوجاتهم. وهنا يتجلى الدور الرمزي لتحية عبد الناصر في هندسة وجدان الشعب: لم تكن تُدار حملات علاقات عامة لترتيب صورتها، بل كانت عفويتها الصادقة هي الدعاية الأعمق.
بعد الثورة، ظلت تحية محتفظة بنفس الخط المتواضع. لم تتدخل في قرارات، لم تسع لمنصب أو شهرة، ولم تتحدث للإعلام. لكنها كانت المستقر الذي يعود إليه عبد الناصر بعد كل عاصفة، والحاضنة العاطفية التي تعيد توازنه. كانت بذلك تؤدي دورًا سياسيًا جوهريًا: تثبيت الزعيم من الداخل.
بعد رحيل عبد الناصر، كتبت مذكراتها بيد مرتجفة وقلب دامع. لم تكن المذكرات اعترافات سياسية، بل كانت شهادة وجدانية. فيها اعترفت بتحملها للغياب، وبأنها لم تفتقد شيئًا من متاع الدنيا، فقط افتقدت "هو". ذلك الاعتراف وحده يكشف حجم الحب، والصدق، والولاء، ويمنح سيرتها بعدها الإنساني والسياسي معًا.
تحية عبد الناصر لم تكن خلف الزعيم فحسب، بل كانت في عمقه. لم تكن على يمينه أو يساره، بل في داخله، كصوت خافت يمنحه الطمأنينة وسط الجلبة. في كل صورة لعبد الناصر بين الجماهير، ثمة ظل هادئ اسمه تحية، كان جزءًا من تكوينه، حتى وإن لم يظهر.
إنها بذلك تقدم لنا تعريفًا آخر للمرأة السياسية: لا تلك التي تعتلي المنابر، بل التي تخلق من بيتها وطنًا، ومن صبرها خريطة، ومن بساطتها خطابًا وجدانيًا يرسخ في الوعي الجمعي أكثر مما تفعل عشرات الخطب.
وهكذا، حين نعيد كتابة تاريخ ثورة يوليو، لا يصح أن نغفل تحية عبد الناصر. لقد هندست، بصمتها وصدقها، جزءًا لا يُنسى من وجدان الأمة. إنها مدرسة في الصبر، وفي الوفاء، وفي صناعة القوة من الحب، والسياسة من الظل.
#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟