أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثاني )














المزيد.....

حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثاني )


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8338 - 2025 / 5 / 10 - 18:53
المحور: الادب والفن
    


القسم الثاني: النشأة والتكوين الفني لحامد عويس في صعيد مصر: البذرة في طين الجنوب:
"الفنان الحقّ، لا يولد في مرسم بل في حضن الأرض، تحت شجرة أو على ضفة نهر، حين يسمع لأول مرة صوت الريح ويشمّ رائحة الطين بعد المطر."
ولد محمد حامد عويس في عام 1919، في قرية كفر منصور التابعة لمحافظة بني سويف، مع انطلاق شرارة ثورة 1919، وكأن ميلاده لم يكن بيولوجيًا فحسب، بل رمزيًا أيضًا؛ جاء إلى الوجود في لحظة هياج وطني، وسط هدير الشوارع، وهتاف الفلاحين والطلبة والعمّال، مطالبين بالحرية والاستقلال والكرامة. من هنا، يتداخل جسد الفنان منذ لحظته الأولى مع جسد الأمة، ويتداخل نَفَسه الأول مع نَفَس الشعب، ويغدو، على نحو صوفي، "ابن الوقت"، ابن لحظة مخضبة بالأمل والدم والتراب.
في هذه البيئة الريفية الطاهرة، حيث النخيل حارس السماء، والنيل نبيّ الأرض، والطين سجادة الفلاحين، بدأت البذور الأولى لتكوينه الإنساني والفني، وبدأت تتشكل في داخله أولى الرؤى البصرية قبل أن يعرف معنى الرسم، وقبل أن يلمس فرشاة أو يحمل قلمًا. كان الطفل محمد يصنع تماثيله الأولى من طين الحقول، لا لغاية جمالية أو تدريب تشكيلي، بل كنوع من التوحد الغريزي مع العالم، كمحاولة عفوية لإعادة تشكيل الوجود حوله بلغة يقدر أن يتحكم فيها، تمامًا كما يفعل المتصوف حين يعيد تركيب صور العالم في قلبه بحسب إشراقاته الداخلية.
لقد كان طين بني سويف هو المعلم الأول، لا كما يقول الفنان، بل كما تشهد لوحاته لاحقًا، تلك اللوحات التي ظلت وفيّة لذلك الطين، في ثقل الخط، في امتلاء الجسد، في عمق البساطة، وفي تلك الروح الكونية التي تشع من عيون الفلاحين في لوحاته، كما لو كانوا أولياء مغمورين لا يعرفهم أحد إلا الله والفن.
في قريته الصغيرة، نشأ عويس على وقع إيقاع الطبيعة: تغيّر الفصول، انحناءة الشمس، عبق الزرع، خوار البقر، زقزقة العصافير، ووشوشة الريح في سنابل القمح. ومن هنا بدأت أولى خيوط التصوف تتغلغل في نسيج وعيه: فالصوفي يرى الله في خفقة جناح، في قطرة ماء، في نسمة شوق، والفنان الريفي يرى الجمال في خيوط الضوء، في تقوس الظهر المنهك، في ضحكة فلاح بين تجاعيد وجهه المتربة.
هذا التكوين الأولي هو الذي جعل من حامد عويس فنانًا ملتزمًا بطبعه لا بمواقفه، فاختياره للناس البسطاء لم يكن خيارًا أيديولوجيًا، بل انعكاسًا تلقائيًا لما ترسّب في ذاكرته العاطفية، وفي وجدانه الذي تغذى منذ الطفولة على قيمة العمل، وقسوة الطبيعة، وكرامة الفقر، وسكينة التعب.
ولأن الوعي الصوفي يتأسس على وحدة الوجود، فقد تجلى في عويس أيضًا، في إحساسه المبكر بأن الفلاح والسماء والتراب ليسوا كيانات منفصلة بل أجزاء من كائن واحد كبير هو الحياة. وكان يتأمل الفلاحين وهم يحفرون الأرض بأيديهم، لا كأشخاص، بل كأنبياء يحررون الحبة من الظلمة، ويرشّون عليها الرجاء بماء العرق.
ورغم الجمال الكوني الذي غمر طفولته، لم يكن ذلك الريف جنة كاملة، فقد تسرّب إلى وعيه، كالماء إلى الجذور، شعور مبكر بالظلم: كيف يكدّ هؤلاء الفلاحون من طلوع الشمس حتى مغيبها، ثم لا يأكلون سوى الفتات؟ كيف تكون الأرض أمًا لا تحضن أولادها بعدل؟ ولم يكن هذا التوتر بين جمال الطبيعة وقبح الواقع إلا أول خيط من خيوط الاحتجاج الفني الصامت الذي سيغدو لاحقًا جوهر أعماله.
وهكذا، منذ بدايته، ولد الالتزام الفني لديه من رحم التأمل الصوفي، ومن الشعور الجواني بالانكسار النبيل، لا من صخب الأيديولوجيا ولا من تنظيرات الجماعات السرية. لم يكن يكتب شعارات، بل كان يرى الجمال حيث لا يراه الآخرون، ويرى الكرامة حيث لا يلمحها أحد. كان، كما يقول المتصوفة، "ينظر بنور الله"، وكانت عيناه لا تميز بين عامل في وردية ليلية وملاك يوزع النور.
وعندما رحل إلى القاهرة، للدراسة في مدرسة الفنون الجميلة، واجه لأول مرة قبح المدينة: الزحام، الضجيج، التفاوت الطبقي، غياب الأفق. وهناك، في غربة المدينة، أدرك أن الفنان – كالصوفي – لا يجد ملجأً إلا في أعماقه، فعاد إلى دفاتر الرسم، إلى الكتب، إلى مرسمه، إلى ذاته.
لقد حمل معه من قريته الريفية ما هو أكثر من الحنين: حمل الذائقة الصوفية للتكوين، والانحياز الغريزي للإنسان البسيط، والتوق الوجودي لإقامة عالم جديد تكون فيه الكرامة عملة فنية متداولة.
ومنذ ذلك الحين، لم يعد الفن بالنسبة لعويس أداة للتعبير، بل وسيلة للتطهير، وكان في كل لوحة يرسمها، كما لو كان يؤدي طقسًا روحانيًا سريًا، يرسم لا لكي يُعرض العمل، بل لأن الرسم كان طريقه إلى الحق، وكان كل خط على اللوحة كمن يكتب اسم الله على صفحة الوجود.
تلك هي النشأة التي لا تُروى، بل تُشمّ وتُرى وتُستشف، وهي التي جعلت من محمد حامد عويس رائيًا قبل أن يكون مصورًا، وزاهدًا قبل أن يكون أكاديميًا، ومحبًا قبل أن يكون ناقدًا.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيخ الفنانين التشكيليين المصريين حامد عويس ( الجزء الأول )
- القنوات الوثائقية وساحات النفوذ: كيف تصنع القنوات الوثائقية ...
- مصر القديمة... مهد الإخراج المسرحي وجذور الدراما الإنسانية:
- مسرح الطليعة يحيي الذكرى ١٥٠ لوفاة -بيزيه- ...
- الإسقاط النجمي: بين التجربة الباطنية والبنية الرمزية
- المسرح النفسي: جدلية السيكودراما والعلاج بالدراما
- ماذا تبقى من القومية العربية؟
- المسرح المصري ١٩٨٠ - ٢٠& ...
- الكتاب الأكثر مبيعا في العالم لعام ٢٠٢ ...
- من أراد الحرية .. عليه أن يستعد للموت
- رواية دعاء الكروان حين تكون المرأة الشرقية ضحية لثلاثية المو ...
- النشيد الأول للعشق
- العشق ورحلة الفناء في الحقيقة
- قراءة في كتاب جماليات الصوفية لسايروس زارجار
- السعادة عند ابن سينا وابن عربي
- مفهوم الحياة من منظور الفلسفة
- السعادة وإمكانية الحقيقة
- لماذا الحكمة أفضل من الجمال ؟
- الحب والكراهية عند نيتشة وفلسفة قلب الموازين
- سقوط الدول عنوانه: التدهور الثقافي والفروق الطبقية الحادة


المزيد.....




- وفاة الفنانة التركية غُللو بعد سقوطها من شرفة منزلها
- ديمة قندلفت تتألق بالقفطان الجزائري في مهرجان عنابة السينمائ ...
- خطيب جمعة طهران: مستوى التمثيل الإيراني العالمي يتحسن
- أعداء الظاهر وشركاء الخفاء.. حكاية تحالفات الشركات العالمية ...
- طريق الحرير.. القصة الكاملة لأروع فصل في تاريخ الثقافة العال ...
- جواد غلوم: ابنة أوروك
- مظاهرة بإقليم الباسك شمالي إسبانيا تزامنا مع عرض فيلم -صوت ه ...
- ابتكار غير مسبوق في عالم الفن.. قناع يرمّم اللوحات المتضررة ...
- طبيبة تمنح مسنة لحظة حنين بنغمةٍ عربية، فهل تُكمل الموسيقى م ...
- عبد الكريم البليخ في -بكاء الحقل الأخير-... ثلاثون قصة عن ال ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثاني )