أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الأول )














المزيد.....

العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الأول )


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 10:18
المحور: الادب والفن
    


في مهب الضرورة، ووميض الإرادة:
كل لحظة نعيشها محاطة بإيهام مزدوج:
أن ما وقع، لم يكن ليقع سواه؛ وأننا مع ذلك، كنّا نستطيع أن نختار شيئًا آخر.
نحن نتحرك، نقرّر، نحبّ، نغضب، ثم نلتفت فنُدرك أن كثيرًا من ذلك كان ممكنًا توقعه، وربما هندسته.
أين تنتهي السببية؟ وأين تبدأ الإرادة؟
وهل الإرادةُ لحظةُ تمردٍ على نظام كوني صارم، أم هي صورة أخرى من صور هذا النظام وقد انعكست في وعينا؟
ما الذي يجعلني أقول "لا" في حين كان يمكنني أن أقول "نعم"؟
هل هو صوت داخلي حرّ ومستقل؟ أم أنه صدى لماضي طويل، لعوامل تتراكم في الظل، حتى تبدو كأنها اختياراتي؟
الحتمية ليست قيدًا فحسب، بل هي اللغة التي يتحدث بها العالم — قانون، تكرار، سبب، ونتيجة.
لكن الإرادة الحرة، تلك الومضة التي تشتعل فجأة داخل كائنٍ واعٍ، تشبه الكلمة التي تقفز في منتصف نصّ مبرمج: غير متوقعة، غير مفسّرة، لكنها موجودة.
ربما لا نحتاج إلى كسر السلاسل، بل إلى فهم كيف تنمو شجرة الإرادة في تربة الضرورة، كيف ينبثق الخيار من قلب النسق، كيف يصير الإنسان فاعلًا لا بالرغم من الحتمية، بل بفضل إدراكه لها.
بين جسدٍ تحكمه الكيمياء، وعقلٍ يسعى إلى المعنى، تقف الذات، مترددة بين أن تكون مفعولًا به أو فاعلًا لما يحدث لها.
وفي هذه المسافة، لا يُولد الحسم، بل يُولد السؤال.
وكل من سأل بصدق، لا بد أن يغيّره السؤال، حتى لو لم يجب.

الجزء الأول: نظام بلا صدفة — الحتمية كحكمة كونية
1. المشهد الأول: الحتمية كبنية للكون:
في البدء لم يكن الإنسان يسأل عن الحرية، بل عن النجاة. ثم بدأ يلاحظ التكرار: تعاقب الفصول، دوران الشمس، الدورة الشهرية للقمر، موت الكائنات. وحين صار يكتب على الحجر والطين، بدأ يربط بين السبب والمسبب. الحتمية لم تكن فلسفة، بل حدسًا نبت من رحم الملاحظة. ومع صعود العقل الفلسفي، وُلدت الفكرة الكبرى: "كل ما يحدث له سبب".
قال هرقليطس: "كل شيء يجري"، لكنه لم ينكر أن الجريان خاضع لنظام. وسرعان ما جاء الرواقيون ليعلنوا أن الكون عقلٌ كلي، نظام مطلق، حيث لا محل للصدفة بل كل شيء يجري وفق "اللوغوس" — العقل الكوني الذي ينظم كل شيء حتى الآهات.
2. الحتمية في الفلسفة اليونانية:
ديموقريطس، أول الماديين الكبار، رأى أن كل شيء مؤلّف من ذرات تتحرك في الفضاء. واعتبر أن هذه الذرات تتحرك وفق قوانين ثابتة، أي أن كل حركة، كل فعل، كل فكرة، لها أساس حتمي مادي لا يقبل الاستثناء¹.
أفلاطون، رغم مثاليته، لم ينكر النظام العقلي للعالم، لكنه أتاح متسعًا لما سماه "النفس"، تلك القدرة على التوق والشوق. ومع ذلك، ظل الكون عنده منظمًا كأثر لخالق حكيم رتّب الأشياء كما ينبغي.
أرسطو، بنى منظومة سببية دقيقة: "كل شيء له علة"، وميز بين أربعة أنواع من العلل، أهمها "العلّة الفاعلة". هنا يظهر الفكر الحتمي بوضوح: لا شيء يحدث دون دافع أو قوة محركة².
3. الثورة العلمية وبزوغ الحتمية الحديثة:
بلغت الحتمية ذروتها مع إسحاق نيوتن. الكون عنده آلة دقيقة، تحكمها قوانين رياضية صلبة. إن عرفت موضع وسرعة جسم ما، يمكنك التنبؤ بمستقبله تمامًا. هذا هو حلم لابلاس حين قال إنه إذا توفرت لدينا معرفة تامة بجميع الجسيمات في الكون، فبإمكان عقل كلي (عقل لابلاس) أن يحسب الماضي والمستقبل تمامًا³.
لم تكن هذه مجرد فرضية، بل أيديولوجيا علمية هيمنت على العقل الغربي حتى بدايات القرن العشرين. إنها الحتمية الصلبة: كل شيء محسوم، حتى أفكارك، مشاعرك، قراراتك، ما هي إلا نتائج لحركة جسيماتك.
4. الحتمية في اللاهوت والتصوف:
في الفكر المسيحي، وخصوصًا عند أوغسطين، نجد مفهوم "النعمة" مقرونًا بالاختيار الإلهي: الله يعرف ما سنفعله، بل يقرره ضمن خطته الأزلية، مما جعل البعض يتهم هذا التفكير بأنه يقوّض حرية الإنسان⁴.
في الفكر الإسلامي، خاض المعتزلة والأشاعرة صراعًا مريرًا حول "الجبر والاختيار". رأى المعتزلة أن الإنسان حر ومسؤول، بينما ذهب الأشاعرة إلى أن أفعال العباد مخلوقة لله، والإنسان لا يخلق أفعاله بل "يكسبها" فقط. أما المتصوفة، فغالبًا ما مالوا إلى التسليم التام بمشيئة الله، حيث الإرادة الذاتية ذوبان في الإرادة الكلية⁵.
5. تصدعات الحتمية: من الكوانتم إلى الفوضى:
في بدايات القرن العشرين، اهتز عرش الحتمية حين جاء مبدأ الريبة لهايزنبرغ: لا يمكنك أن تعرف موقع وسرعة الجسيم في الوقت نفسه بدقة. النتيجة؟ الطبيعة ليست قابلة للتحديد المطلق. الكون، في أعماقه، لا يسير دائمًا وفق قانون معلوم، بل هناك مجالات يسودها الاحتمال⁶.
كما جاءت نظرية الفوضى (Chaos Theory) لتقول إن حتى الأنظمة الحتمية قد تتصرف بطريقة لا يمكن التنبؤ بها، بسبب ما يُعرف بالحساسية للشروط الابتدائية (مثل "أثر جناح الفراشة"). ليست الفوضى نقيض النظام، بل نظام دقيق لكنه غير قابل للحساب العملي⁷.
6. الحتمية الأخلاقية: هل نحن معذورون؟
إذا كان كل شيء محتومًا، فهل لنا مسؤولية أخلاقية؟ الحتمية المتطرفة تهدد فكرة الثواب والعقاب. لكن آخرين ردوا بأن المسؤولية ليست في حرية الإرادة المطلقة، بل في كون الأفعال تصدر من "ذات" معروفة، أي أن الإنسان مسؤول لأنه هو نفسه مصدر الفعل، حتى لو كان داخله محكومًا بحتميات بيولوجية أو نفسية⁸.

الهوامش والمراجع:
1. Russell, Bertrand. A History of Western Philosophy. Simon and Schuster, 1945.
2. Aristotle. Physics, Book II.
3. Laplace, Pierre-Simon. Philosophical Essay on Probabilities, 1814.
4. Augustine. On Free Choice of the Will.
5. عبد القاهر البغدادي. الفرق بين الفرق. دار المعارف، القاهرة.
6. Heisenberg, Werner. The Physical Principles of the Quantum Theory, 1930.
7. Gleick, James. Chaos: Making a New Science. Penguin, 1987.
8. Dennett, Daniel. Freedom Evolves. Viking, 2003.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين أختراع الحقيقة وإكتشافها ( الجزء الثاني والأخير )
- بين اختراع الحقيقة وأكتشافها ( الجزء الأول )
- فم الذئب
- الفنان حسن فايق أيقونة الكوميديا
- فيلم معركة الجزائر 1966 وثق كفاح شعب واستغله الأمريكان في غز ...
- قراءة نقدية مقارنة بين أدونيس وأمل دنقل
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الرابع - الحلقة الثانية ...
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة ( الجزء الثالث )
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الرابع )
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة ( الجزء الثاني )
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الثالث - الحلقة الأولى ) ...
- مذكرات السيدة تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الأول + الجزء الث ...
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثالث )
- القفز من نافذة الحكاية
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة: أول برلمان، وأول تعليم مج ...
- النجمة فاتن حمامة وجه القمر سيدة الشاشة العربية
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثاني )
- شيخ الفنانين التشكيليين المصريين حامد عويس ( الجزء الأول )
- القنوات الوثائقية وساحات النفوذ: كيف تصنع القنوات الوثائقية ...
- مصر القديمة... مهد الإخراج المسرحي وجذور الدراما الإنسانية:


المزيد.....




- الشعب السوري وثقافة رفض التطبيع
- محمد لخضر حمينة... المخرج الذي -فتح عيون العالم- على معاناة ...
- محافظة خوزستان الإيرانية: بوابة التجارة والثقافة
- مجموعة مسلحة تُهدّد الفنان باسم ياخور بعد عودته إلى دمشق وتم ...
- مسؤولون فرنسيون: انقطاع الطاقة في اليوم الأخير من مهرجان كان ...
- اغنية.. لقد فات الأوان
- إضاءة نقدية على القصيدة العمودية المعاصرة
- بريتني سبيرز تعتذر عن الفضيحة التي تسببت بها على متن الطائرة ...
- مخرج إيراني معارض للنظام يفوز بجائزة ذهبية في مهرجان كان الس ...
- زاخاروفا: كيسليتسا يكذب بقوله إن الوفد الأوكراني تحدث باللغة ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الأول )