أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - بين أختراع الحقيقة وإكتشافها ( الجزء الثاني والأخير )















المزيد.....

بين أختراع الحقيقة وإكتشافها ( الجزء الثاني والأخير )


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8352 - 2025 / 5 / 24 - 17:19
المحور: الادب والفن
    


الجزء الثاني: اكتشاف الحقيقة – لحظة السقوط من الإيمان:
1. الإيمان بالحقيقة المخترعة... ثم ماذا؟
عندما تستقر الحقيقة المخترعة، وتتشكل حولها حياة الناس وأحلامهم، وتُبنى المؤسسات على أساسها، تُصبح الحقيقة القديمة — تلك التي سقطت بعد الثورة — ماضٍ يجب نسيانه.
لكن الماضي لا يُمحى، والوعي لا يموت. هناك دائمًا لحظة ارتباك، فجوة، صدمة، تجعل الإنسان يشك في ما آمن به. لا تأتي هذه اللحظة دائمًا من الخارج، بل كثيرًا ما تولد من الداخل: من سؤال طفل، أو موقف عبثي، أو تصرف سلطوي ينقض العدالة التي بُني عليها الإيمان.
تبدأ الحقيقة المكتشفة بارتجافة بسيطة في القلب.
كأن ترى ضوءًا صغيرًا لا يُفسد العتمة، لكنه يفضحها.
2. الحقيقة المكتشفة لا تصرخ
بعكس الحقيقة المخترعة التي جاءت بالشعارات والاحتفالات،
الحقيقة المكتشفة تأتي خافتة، هامسة، محطِّمة للطمأنينة.
إنها لحظة شبيهة بسقوط قناع.
حين يدرك الإنسان أنه لا يعرف ما ظنه معلومًا.
حين يرى أن الشعارات التي آمن بها لا تصمد أمام الواقع.
لكن الحقيقة هنا ليست انتصارًا… بل خيانة للإيمان.
يشعر الإنسان بالخيانة، لا من قِبَل الآخر، بل من داخله هو.
فهو من صدّق، وهو من ردد، وهو من دافع عن "الاختراع".
والآن، عليه أن يقرّ أنه كان يعيش في كذبة.
3. بين صدمة الاكتشاف وقسوة الإنكار
حين تظهر الحقيقة المكتشفة، ينقسم الوعي الجمعي:
فئة أولى تنكر الاكتشاف.
تتمسك بالحقيقة المخترعة، لأنها أصبحت جزءًا من كيانها.
ترى في الاعتراف انهيارًا. في التراجع خيانة.
في الشك كفرًا.
هؤلاء هم حماة "الإيمان الزائف".
فئة ثانية تحاول أن تصمت.
لا تقوى على الدفاع ولا تجرؤ على الاعتراف.
هؤلاء هم المأزومون، الواقفون على الحافة.
فئة ثالثة تصرخ: "لقد خدعونا".
تبدأ مقاومة جديدة، لا ضد نظام، بل ضد سردية.
ضد شعور الخيانة، ضد ذاتها القديمة، ضد ذاكرة مدجنة.
هنا يبدأ الصراع.
4. أمثلة تاريخية على الاكتشاف المؤلم
ألمانيا النازية:
حين انتهت الحرب، وانهار نظام هتلر، ظهرت الحقيقة:
أن تلك "الحقيقة" التي تم تسويقها باسم النقاء العرقي والعظمة القومية، لم تكن سوى وهْم دموي.
آلاف من الألمان عاشوا سنوات من الصمت والخجل، عاجزين عن مواجهة سؤال: كيف صدّقنا هذا؟
الاتحاد السوفيتي:
مع انهيار الدولة في التسعينيات، اكتشف الملايين أنهم عاشوا حياة قائمة على مراقبة، قمع، كذب منظم باسم "العدالة الاشتراكية".
من كان يجرؤ أن يسأل؟
بل، من يحتمل أن يجيب؟
ما بعد الربيع العربي:
اكتشف كثيرون أن الثورة لم تكن خلاصًا، وأن الحقيقة المخترعة — "الشعب أسقط النظام" — كانت غلافًا لمرحلة جديدة أكثر اضطرابًا.
البعض صرخ، البعض صمت، البعض حاول أن يخترع حقيقة جديدة لتغطي على جرح الحقيقة المكتشفة.
5. تحليل فلسفي: الحقيقة كألم:
هيدغر قال إن الحقيقة ليست ما يُقال، بل ما "ينكشف".
وهذا الانكشاف، كالتعرّي، لا يأتي بلا ألم.
الحقيقة المكتشفة تشبه عودة الوعي بعد التخدير.
ليس لأن التخدير كان سيئًا، بل لأن الصحو مؤلم.
وهنا المفارقة: الناس لا يخافون الحقيقة لأنها كذب، بل لأنها صادقة أكثر مما يحتملون.
إنها تكشف هشاشة البناء النفسي الذي عاشوا داخله.
تكشف أن الشرف ربما لم يكن شرفًا، وأن النصر لم يكن نصرًا، وأن التضحية ربما كانت عبثًا.
6. لحظة التمزق: بين الذنب والوعي
من أدرك الحقيقة المكتشفة يقع في مأزق أخلاقي:
هل يجب أن يصمت حفاظًا على السلام؟
أم يعلنها ويدخل في مواجهة مع تاريخ كامل؟
هل يغفر لنفسه؟
أم يحاول أن ينقذ الآخرين من ذات الوهم؟
إنه لا يملك رفاهية النسيان، ولا يستطيع اختراع حقيقة جديدة بسهولة.
هو الآن في لحظة نادرة، تشبه الغرق.
لكن الغرق الواعي، المؤلم، الذي يرى الأعماق ولا يستطيع التنفس.
من اكتشاف الحقيقة إلى ضرورة المقاومة
اكتشاف الحقيقة لا يُنتج راحة، بل مسؤولية.
والمعركة الآن لم تعد بين القديم والجديد، بل بين الزيف الذي صار مريحًا، والصدق الذي صار عبئًا.

الجزء الثالث: الصراع – حين تواجه الحقيقة نفسها:
1. وعيان يتصارعان
في قلب المجتمعات التي مرّت بلحظة "اختراع الحقيقة"، ثم اهتزت باكتشاف أنها كانت وهمًا… ينشأ صراع عميق، ليس بين الناس، بل بين وعيين داخل كل فرد:
وعي يريد الاستمرار في الإيمان، حفاظًا على السلام النفسي، والهوية التي تأسست، والحياة التي تشكلت.
وعي يريد الاعتراف بالحقيقة، ولو أدى ذلك إلى نسف كل شيء.
ولأن الحقيقة ليست خنجرًا ظاهرًا، بل ندبة في الروح، فإن الصراع لا يكون معلنًا دائمًا.
بل يُمارس عبر اللغة، والرموز، والسياسات، والكتابات، والتأريخ، والأغاني، والمناهج…
إنه صراع وجودي، لكنه يرتدي أقنعة.
2. حماة الحقيقة المخترعة
هؤلاء ليسوا أشرارًا بالضرورة.
هم من خافوا من الهاوية.
من أدركوا الحقيقة، ثم قرروا تجاهلها.
وربما آمنوا، بإخلاص، أن الحقيقة — أيًا كانت — لا تهم، ما دام البناء الذي نحياه مستقرًا.
هؤلاء يحاربون كل من يشكك في المسلّمات.
ينعتونهم بالخونة، أو المخرّبين، أو فاقدي الوطنية.
هم ليسوا ضد الحقيقة… بل ضد هدم الحقيقة التي بنوا بها أنفسهم.
3. حراس الحقيقة المكتشفة
هم أقل، وأكثر تعبًا.
لأنهم لا يحملون راية النصر، بل صليب الوعي.
يريدون قول ما لا يُقال، فضح ما هو مستتر،
لكنهم يُواجهون ليس فقط بالمؤسسات، بل بالألم الجماعي، والذاكرة الجمعية، والحنين إلى وهم الاستقرار.
إنهم يعرفون أن الحقيقة المكتشفة قد لا تبني دولة، ولا تنظّم شعبًا.
لكنهم يصرّون على قولها، لأنهم عرفوا طعم الخديعة.
4. ما بعد الصدام: من يصنع التاريخ؟
حين تتصارع الحقيقة المخترعة والمكتشفة، تتشكل ثلاث احتمالات:
إما أن تُقمع الحقيقة المكتشفة، ويعود الإيمان الزائف أقوى، أكثر قسوة، وأكثر تسليحًا.
أو أن تنتصر الحقيقة المكتشفة، فتنهار البُنى، وتبدأ مرحلة إعادة تشكيل المجتمع — غالبًا على أشلاء ذاكرته.
أو أن يصيبهما الإنهاك، ويتشكل نوع ثالث: "حقيقة هجينة"، يرضى بها الجميع، لكنها ليست ما يريده أحد.
هكذا يُكتب التاريخ. لا من قِبل من يمتلك الحقيقة، بل من قِبل من يمتلك القوة.
5. الرؤية الفلسفية: ماذا لو كانت كل الحقائق مؤقتة؟
هل الحقيقة ثابتة؟
أم أنها لحظة اتفاق مؤقت بين وعيين متصارعين؟
ربما كان ما نراه اليوم "حقيقة مكتشفة" سيُنظر إليه غدًا بوصفه "حقيقة مخترعة" أخرى.
لأن الإنسان لا يعيش الحقيقة، بل يعيش حولها.
يخترعها حين يحتاج، ويكتشفها حين يتألم، ويعيد اختراعها كي ينجو.
الحقيقة في هذا المعنى ليست شيئًا نمتلكه، بل شيئًا يَعرّينا.
6. العودة إلى البداية: هل يمكن اختراع الحقيقة؟
نعود إلى السؤال الذي بدأ كل شيء.
هل نخترع الحقيقة لنحيا؟
هل نكتشف الحقيقة لنهدم ما اخترعناه؟
أم أن الرحلة كلها — من الثورة إلى الإيمان، من الوهم إلى الوعي، من الصراع إلى الإدراك — ليست سوى دليل على أن الحقيقة لا تُملك، بل تُعاش… فقط إن كنا شجعانًا بما يكفي.
ومن ثم، ما بين اختراع الحقيقة واكتشافها
هذا الكتاب لا يقدّم أجوبة، بل يفتح الجرح.
لأننا لا نحتاج إلى أوهام جديدة، بل إلى جرأة السؤال.
ما بين اختراع الحقيقة واكتشافها، يولد الإنسان، ويعيش، ويموت أحيانًا دون أن يعرف:
هل ما عاشه كان حقًا؟
أم كذبة صدّقها لأن البديل كان الفراغ؟

المراجع:
1. عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، دار النهضة العربية، 1969.
2. ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، 2002.
3. كارل بوبر، منطق الاكتشاف العلمي، ترجمة كمال السيد، دار التنوير، 2008.
4. حنة آرندت، أصل التوتاليتارية، ترجمة عبد الغفار مكاوي، دار أبن رشد، 1981.
5. جان بول سارتر، الوجود والعدم، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الآداب، 1982.
6. نيتشه، إرادة القوة، ترجمة فريد أنطونيوس، منشورات الجمل، 2000.
7. إريك فروم، الهروب من الحرية، ترجمة مجدي عبد الكريم، دار المدى، 2006.
8. محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986.
9. إدوارد سعيد، تمثيلات المثقف، ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب، 1997.
10. غاستون باشلار، تكوين العقل العلمي، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، 1984.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين اختراع الحقيقة وأكتشافها ( الجزء الأول )
- فم الذئب
- الفنان حسن فايق أيقونة الكوميديا
- فيلم معركة الجزائر 1966 وثق كفاح شعب واستغله الأمريكان في غز ...
- قراءة نقدية مقارنة بين أدونيس وأمل دنقل
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الرابع - الحلقة الثانية ...
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة ( الجزء الثالث )
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الرابع )
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة ( الجزء الثاني )
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الثالث - الحلقة الأولى ) ...
- مذكرات السيدة تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الأول + الجزء الث ...
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثالث )
- القفز من نافذة الحكاية
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة: أول برلمان، وأول تعليم مج ...
- النجمة فاتن حمامة وجه القمر سيدة الشاشة العربية
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثاني )
- شيخ الفنانين التشكيليين المصريين حامد عويس ( الجزء الأول )
- القنوات الوثائقية وساحات النفوذ: كيف تصنع القنوات الوثائقية ...
- مصر القديمة... مهد الإخراج المسرحي وجذور الدراما الإنسانية:
- مسرح الطليعة يحيي الذكرى ١٥٠ لوفاة -بيزيه- ...


المزيد.....




- زاخاروفا: كيسليتسا يكذب بقوله إن الوفد الأوكراني تحدث باللغة ...
- -بوليوود- تودع الممثل مكول ديف
- “الإعلان الرسمي الاول” مسلسل قيامة عثمان الحلقة 193 الجزء ال ...
- مهرجان كان السينمائي: الإيراني جعفر بناهي ينتزع السعفة الذهب ...
- المخرج الإيراني جعفر بناهي يفوز بـ-السعفة الذهبية- في الدورة ...
- الفيلم الإيراني -مجرد حادث- يحصد السعفة الذهبية في مهرجان كا ...
- الفيلم الإيراني -مجرد حادث- يحصد السعفة الذهبية بمهرجان كان ...
- المخرج الإيراني المعارض جعفر بناهي يتوج في مهرجان كان
- إيسيسكو تختار سمرقند عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي 2025 ...
- صدمة في عالم الفن.. سيرة جديدة تكشف وجود ابنة سرية لنجم عالم ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - بين أختراع الحقيقة وإكتشافها ( الجزء الثاني والأخير )