أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نعيم إيليا - الأخلاق بين فريدريش إنجلز ولودفيج فويرباخ















المزيد.....



الأخلاق بين فريدريش إنجلز ولودفيج فويرباخ


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 7974 - 2024 / 5 / 11 - 18:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في البدء تجب الإشارة إلى الأصل؛ أصلِ الأخلاق. وإنما المقصود بالأصل، المصدرُ الذي تنبع منه الأخلاق: أيُّ واحد هو؟
1- هل هو الدين؟
2- هل هو الواقع (المجتمع الإنساني تحديداً)؟
3- أم هو النفس؟
وفي جواب (أم) لا مندوحة عن التعيين.. يجب الترجيح أو الاختيار. والمرجَّحُ المختار المتعين ههنا أنّ النفس هي المنبع الذي تصدر منه الأخلاق. فتكون الأخلاق بهذا الترجيح، عند البحث فيها، قضيةً من قضايا علم الحياة. ودليل ذلك أن النظر إذا توجَّه إليها على ضوء نظرية التطور الداروينية المعروفة بتناولها بالتفسير العلمي مشكلاتِ الحياة البيولوجية للحيوان عامة مذ كانت الحياة خلية واحدة؛ وجد لها مناطاً بقانون حفظ النوع. وقد يُعبَّر عن هذا القانون بكلمة (حبّ الحياة). وهو حبّ ليس بإرادة البشر أنفسهم، بل بإرادة الحياة. وهي إرادة يجهلها البشر. فلا يعلمون لماذا يجب عليهم أن يحيوا.
إن قانون حفظ النوع من الاندثار، هو القانون الموكّل الجدير بتفسير وجود الأخلاق في النفس وصدورها عنها، تفسيراً إن لم يكن حاسماً، يكن أدنى إلى تفسير حقيقتها من سواه من القوانين العلمية، وأيضاً أدنى إلى تفسير حقيقتها من التأملات الفلسفية والدينية.
وعلى هذا فلا غرو ولا نشوز في أن يقال إن الأخلاق لولا وجودها في النفس، في القلب - ويصح أيضاً في العقل لأن كلّ شيء من أشياء النفس لا مفر له من العبور إلى العقل، إلى الدماغ - وتمثُّلُها في الأفعال والسلوك، ما كان المجتمع الإنساني. ولا غرو كذلك في أن يقال إنه لولا الأخلاق، ما كان للدين أن يكون على ما هو عليه كائن. فتكون الأخلاق بهذا التقدير هي الأوّل، ويكون المجتمع والدين تاليين لاحقين بالأول.
وإذا كان لا مفرّ من التدليل على هذا بمثال، ذُكرت الأمُّ التي تكاد تكون الخلية الأولى لكل المجتمعات الحيوانية. فلوما الطبيعة زوَّدت الأمَّ بعاطفة التحنان، الحب، العطف... لأهملت كل أم وليدها، فقضى.
وذُكر أيضاً ميلُ الإنسان الطبيعي الفطريّ إلى المحبة والتراحم والشفقة... إن هذه المشاعر ذات الطابع الأخلاقي، لولاها ما كان للإنسان أن يجد في نفسه حافزاً على أن يكوِّن الأسرة، فالقبيلة، فالمجتمع، فالأمة، فالدولة.
وذكر أيضاً الحبُّ الجنسي – وإن لم يكن الجنس بذاته، علاقةً وممارسةً وميلاً، خلقاً - الذي إليه يرجع الفضل في استمرار النسل.
فهذه إذن غاية الطبيعة البعيدة – إن جاز التعبير - من الأخلاق. إنها تعزيز مبدأ البقاء على قيد الحياة.
على أن الفلاسفة منذ افلاطون وأرسطو إلى لودفيج فويرباخ - وإن كانوا اعتقدوا بخلاف اللاهوتيين بأن الأخلاق مصدرها النفس أو القلب، أو الدماغ - لم يتبينوا غاية الطبيعة من الأخلاق أنها لحفظ النوع، فزعموا أن الغاية منها هي الخير الذي يورّث السعادةَ واللذة.
وأشهر الآراء التي تعضد هذا الزعم، رأي أرسطوطاليس الذي قد بسطه بتفصيل ووضوح في نيقوماخيا (1). ولا زال أكثر الفلاسفة من بعده يتبعون رأيه هذا، ويمتحون منه. من هؤلاء الفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ:
„ إنَّ كلَّ صناعة وكلَّ مذهب - يقول أرسطو في نيقوماخيا - وكذلك كل فعل واختيار فقد يعلم أنه إنما نتشوق به خيراً ما. ولذلك أجاد من حكم على الخير أنه الشيء الذي يتشوَّقه الكل… فنقول: إذا كانت كل معرفة وكل اختيار إنما يتشوق خيراً ما، فما الخير الذي نقول إن تدبير المدن يتشوّقه ويقصد قصده ، وهذا الخير الذي هو أعلى وأرفع من جميع الأشياء التي تفعل؟ فنقول إنه يكاد أن يكون أكثر الناس قد أجمعوا عليه بالاسم، وذلك أن الكثير من الناس والحذاق منهم يسمونه السعادة، ويرون أن حسن العيش، وحسن السيرة هي السعادة واختلفوا في حد السعادة: ما هو؟ ...“
فواضح من قوله أن السعادة هي الغاية من الأخلاق. وهي كذلك حتى في السياسة وتدبير المدن. فإذا طرح عليه السؤال: ولكن لماذا السعادة هي الغاية؟ أجاب أرسطو: إن السعادة تامة تكفي نفسها بنفسها؛ أي لا تُطلب إلا لذاتها، إذ لا غاية من بعدها. وبتعبير آخر: إن أكثر الغايات تكون وسيلة لبلوغ السعادة، ولا تكون السعادة وسيلة لبلوغ غاية أخرى.
يقول:
„ إنه إذا كان يظهر أن الغايات كثيرة، وكنا إنما نؤثر بعضها على بعض بسبب شيء آخر (مثل الثروة والمزمار وبالجملة الآلات كلها)، فبَيّنٌ أن ليس جميع الغايات كاملة. وقد يظهر أن الأفضل هو شيء كامل. فيجب من ذلك إن كان ها هنا شيء واحد فقط كاملاً فهو الشيء المطلوب، وإن كانت الأشياء الكاملة كثيرة فهو أكملها وأتمُّها. ونحن نقول إن الشيء المطلوب لذاته ولكنه ليس المطلوب لغيره، والذي لا يؤْثَر في وقت من الأوقات من أجل غيره، أكمل من التي تؤثر لغيرها، لا لنفسها. فالكامل بالجملة هو الذي يُؤثر لذاته أبداً، ولا يؤثر في وقت من الأوقات لغيره. وأَولى الأشياء بهذه الصفة: السعادة. وذلك أن السعادة هي التي نؤثرها لنفسها، ولا نطلبها في وقت من الأوقات لغيرها… فقد ظهر أن السعادة شيء كامل مكتفٍ بنفسه غايةً للأشياء التي تفعل“,
وفي هذا الموضع، ينبغي التنبيه إلى أن أرسطو يضع حداً فاصلاً بين السعادة واللذة. إنه يفرق بينهما لا من حيث طبيعتهما بما هما شعوران صرفان وحسب، بل من حيث طابعهما الاجتماعي: فالسعادة سيرة السادة الأشراف، واللذة سيرة العوام الجفاة العبيد:
„ فنقول: يشبه أن يكون الناس في ظنهم بأن الخير والسعادة إنما هما من السّيَر، لم يخرجوا عن الصواب. أما العامة منهم والجفاة فقالوا إن الخير والسعادة هما اللذة، ولذلك يؤثرون سيرة المتمتع باللذات…“.
والظاهر مما عرضه إنجلز من سيرة فويرباخ، أن فويرباخ كان إبيكورياً يدعو إلى اقتناص اللذات والانغماس فيها ؛ لأنها في حسبانه الغاية من الحياة:
„ وفويرباخ نفسه الذي يبشر في كل صفحة بالانغماس في الشهوات الجسدية ويدعونا إلى الاستغراق في العالم الملموس والواقع، يسقط في التجريد الكامل… (2)“ .
لكن إنجلز إذا كان لا يختلف مع فويرباخ في أن الغاية من (الحياة) هي اللذة، فإنه يختلف معه إلى حد النزاع في قضية الأخلاق: مصدرها، غايتها، وهل هي ثابتة أم متغيرة. وهذا النزاع مادة البحث. وسيأتي القول فيه على وجوهه الثلاثة هذه بإيجاز يتوخى الجوهر ويهمل التفاصيل المحمولة عليه:
1- مصدر الأخلاق:
فويرباخ مثل أرسطو يرى أن الأخلاق (قلبية) أي إنها جملة من المشاعر يضخُّها قلب الإنسان كلِّ إنسان من غير مراعاة لوضع الإنسان بما هو كائن اجتماعي. وبلفظ آخر من غير مراعاة لتنقلات الإنسان عبر الزمن.
فأما إنجلز - وإن كان لا يعترض على كون الأخلاق مشاعر، وهذا يُستنتج من تأييده لرأي هيغل حيث ترد فيه كلمة (الطبع) التي هي مرادفة للفطرة، للنفس: „ كتب هيغل: هناك أناس يعتقدون أنهم يعرضون فكرة عميقة جداً حين يقولون: إن الإنسان (بطبعه) خيّر، ولكنهم ينسون أنَّ فكرة أعمق بكثير ترد في هذه الكلمات: الإنسان (بطبعه) شرير... “ - فإنه يذمّ رأي فويرباخ؛ لأن فويرباخ حين ينوّه بالأخلاق، حين يعرضها في فلسفته على الناس لا يراعي بيئة الإنسان الاجتماعية كل المراعاة. إنه يعرض الأخلاق وكأنها لا شأن لها بواقع الإنسان الاجتماعي والتاريخي. وهذا شأن من يقع في التجريد. والتجريد عند إنجلز لفظ دال على الشيء الكليّ الذي لا وجود له في العالم المحسوس، إنه المثالية التي يمقتها إنجلز أشد المقت، ولم يكن فويرباخ المادي أقل منه مقتاً لها.
فيُستخلص من ذم إنجلز لتأمُّل فويرباخ في الأخلاق بمعزل عن المجتمع، أنه معتقد بأن الأخلاق – وإن كانت مشاعر إنسانية، تصدر عن قلب الإنسان - مصدرها البيئة الاجتماعية، أو العلاقات الاجتماعية التي تربط بين أفراد المجتمع الحقيقيين الذين هم من لحم ودم والذين يحيون داخل مجتمعاتهم، وليس خارجها.
يقول:
„ أما عند فويرباخ فالأمر بالعكس تماماً. فهو من ناحية الشكل واقعي، إذ يتخذ نقطة الانطلاق الإنسان، ولكنه لا ينبس ببنت شفة عن العالم الذي يعيش فيه هذا الإنسان، ولهذا يظل الإنسان عند فويرباخ دوماً نفس الإنسان المجرد الذي يتمثل في فلسفة الدين. هذا الإنسان لم تحمله أية امرأة في أحشائها، بل انبثق من إله الأديان التوحيدية كما تنبثق الفراشة من الشرنقة. ولذا لا يعيش هذا الإنسان في عالم واقعي، متطور تاريخياً ومعين تاريخياً. ورغم أنه على صلة مع أناس آخرين ، إلا أن كل واحد منهم مجرد بقدر تجرده هو نفسه. في فلسفة الدين نميز بين الرجل والمرأة. ولكن هذا الفرق الأخير يختفي في الأخلاق. صحيح أننا نجد عند فويرباخ أحياناً موضوعات مثل هذه: (في القصور يفكرون غير ما يفكرون في الأكواخ. إذا لم تكن لديك بسبب من الجوع والبؤس أي مواد غذائية في الجسم، فليس لديك أيضاً أي غذاء للأخلاق لا في رأسك ولا في مشاعرك ولا في قلبك. ويجب أن تصبح السياسة ديناً … (3) ولكن فويرباخ لا يدري مطلقاً كيف يستعمل هذه الموضوعات، فهي عنده مجرد تعبير … "
ثم إن فويرباخ، في نظر إنجلز، حين يسلك طريق التجريد في عرض نظريته الأخلاقية؛ فلأنه: "... لم يجد الطريق الذي يقود من ملكوت التجريد الذي كان يكرهه فويرباخ نفسه حتى الموت، نحو العالم الحقيقي الحي. فهو يتمسك بكل قواه بالطبيعة وبالإنسان. ولكن الطبيعة والإنسان يظلان بالنسبة له كلمتين فقط. إنه لا يستطيع أن يقول شيئاً واضحاً عن الطبيعة الحقيقية ولا عن الإنسان الحقيقي. وللانتقال من الإنسان المجرد كما يتصور فويرباخ إلى الناس الحقيقيين الأحياء، كان لا بد من دراسة هؤلاء الناس في أفعالهم التاريخية. ولكن فويرباخ كان يعارض ذلك بعناد ، ولهذا فإن عام 1848 (4) الذي لم يفهمه ، لم يعن بالنسبة له سوى القطيعة النهائية مع العالم الواقعي ، والانتقال إلى العزلة المطلقة… غير أن الخطوة التي لم يخطها فويرباخ كان لا بد مع ذلك من خطوها. فإن عبادة الإنسان المجرد التي تؤلف نواة الدين الجديد الفويرباخي، كان يجب الاستعاضة عنها بالعلم عن الناس الحقيقيين وعن تطورهم التاريخي . وهذا التطوير اللاحق لوجهة نظر فويرباخ الذي يتجاوز نطاق فلسفة فويرباخ، إنما بدأه ماركس عام 1845 في كتابه العائلة المقدسة“ (5) .
ويُفهم من هذا الذي قاله إنجلز، أنه يتهم فويرباخ بأنه أخطأ في عرض نظريته الأخلاقية في هذا الإطار من التجريد. وهذا الاتهام، يستجرُّ التحقيقَ فيه بطرح التساؤل التالي:
أحقٌّ أن فويرباخ أخطأ إذ عرض نظريته في الأخلاق بهذا النحو من التجريد؛ أي ضمن هذا الإطار المثالي؟
ولن يكون الجواب عن هذا التساؤل عند التحقيق الجدي بنعم، بل بكلا. فيكون الذي أخطأ هنا هو إنجلز؛ لأن إنجلز لم ينكر أن الأخلاق مشاعر مصدرها النفس. وعدم إنكاره أنها كذلك، دليل على خطئه. وتفسير ذلك أن المشاعر عواطف زرعتها الطبيعة في نفس الإنسان، ولم تزرعها في المجتمع. صحيح أن للمجتمع تأثيراً فيها، بيد أن هذا التأثير، لا يملك أن يجتث أصلها.. لا يملك أن يجعل المجتمع أصلاً لها، كما يحب لها إنجلز بالإكراه أن تكون كذلك في أصلها. فأي خطأ هو أن يتناول الفيلسوف الأخلاق بالنظر إلى أصلها من غير اهتمام عظيم بتأثير المجتمع فيها؟
إن المجتمع يؤثّر بالتربية وغيرها من الوسائل حتى في الغرائز – هذه حقيقة لم يكن فويرباخ يجهلها - فهل يصح أن يُنظر في الغرائز أنها ذات أصل اجتماعي؟
بالطبع فإنه من المفيد أن يُنظر في الغرائز من قِبَل أن المجتمع يؤثر فيها، ولكنه ليس من المفيد أن يُعتقد أن المجتمع هو أصلها، وكذلك القول في الأخلاق فإنها كالغرائز.
بهذا المنطق يُعلم أن إنجلز لم يكن على حق في نقده لفويرباخ في هذا الموضع. إن الذي يتأمل نقده بعقل يقظ، لن يكون في وسعه إلا أن يحكم عليه بأنه نقد قاصر بل زائف. وآية زيفه أنه يهمل الجوهر وينشغل بأعراضه ولواحقه، وأنه أيضاً لا يرتكن إلى العلم وإنما إلى الهوى الإيديولوجي، إلى النظرية السياسية. إذ بأي علم أن الأخلاق الإنسانية مصدرها المجتمع الإنساني؟! بأي علم أن المحبة والشفقة والإحسان والتسامح والغفران...الخ مصدرها المجتمع، وليس مصدرها النفس، القلب، الدماغ، الطبيعة البشرية؟
نعم، إن الأخلاق تتحقق، أو تمارس في المجتمع. لكن المجتمع ليس مصدر الأخلاق. مصدر الأخلاق هو النفس، والنفس من إنتاج الطبيعة، وما كان من إنتاج الطبيعة في الإنسان فهو عام في كل إنسان، وهو أيضاً يوجد في كل زمان من غير أن يتأثر تأثراً بالمراحل المتقلبة المتطورة من تاريخ المجتمعات البشرية تأثراً عميقاً بحيث يغدو وكأنه من إنتاج المجتمع لا الطبيعة.
هل يقال – مثلاً - إن الصدق أو نقيضه الكذب، لا ينبع كل منهما من نفس الإنسان كلِّ إنسان مذ كان الإنسان؟ أو أن الصدق والكذب، عرضان زائلان؟ أو أن المجتمع إذا انتقل من طور إلى طور، انتقل معه الصدق والكذب بالضرورة إلى طور جديد من أطوار لهما متخيلة؟ فإن جاز هذا، فما هو أثر الطبيعة في الإنسان؟
إن فويرباخ – في زعم إنجلز - ينظر في الأخلاق من حيث هي أخلاق لها وجود في نفس كل إنسان بغض النظر عن وضعه الاجتماعي وعلاقاته مع الآخرين.. ينظر إليها وكأنها مُثُل أو صور افلاطونية، مع أن فويرباخ لم ينظر فيها إلا وهي داخل دائرة الأنا والأنت باعتراف إنجلز نفسه: " … وتجدها الآن مباشرة في الحب بين أنا وأنت. وهكذا يصبح الحب الجنسي في النهاية عند فويرباخ أحد الأشكال الرفيعة إذا لم يكن أرفعها لاعتناق دينه الجديد " ودائرة الأنا والأنت ذات صبغة اجتماعية كما لا يخفى على النابه. لكن هذه الدائرة بالنسبة لإنجلز الذي يرى أن الأخلاق لا يجوز بحال من الأحوال أن يتأملها المتأمل باستقلال عن المجتمع عن الواقع بتناقضاته الحادة، ضيقةٌ هيّنة إلى حد السخف، فلا ينبغي أن يحتفل بها المتأمل فيعالجها، بل عليه أن يغفلها وينشغل بدراسة العلاقات الاجتماعية التي تنشأ منها الأخلاق. هذا ما يراه إنجلز بالرغم من أنه يصادق على أن الأخلاق مشاعر قلبية.
فإذا سئل عن هذا المجتمع الذي تنشأ – في زعمه - منه الأخلاق: أي مجتمع هو؟
أجاب: إنه المجتمع الذي تصطرع فيه الطبقات: „ منذ ظهور التناقض بين الطبقات، غدت نزوات الناس الشريرة: الطمع والتعطش إلى السلطة، روافع التطور التاريخي. والبرهان المتواصل لذلك هو، مثلاً، تاريخ الإقطاعية والبرجوازية. غير أن فويرباخ لا تخطر حتى في باله دراسة الدور التاريخي للشر الأخلاقي. فالميدان التاريخي بالنسبة له غير لائق ولا مريح على وجه العموم. وحتى قوله: حين خرج الإنسان من أحشاء الطبيعة، لم يكن إلا كائناً طبيعياً صرفاً، لا إنساناً. فالإنسان إنما هو نتاج الإنسان والثقافة والتاريخ، حتى هذا القول يبقى عنده عقيماً للغاية".
ولعمر الزمان كيف لإنجلز أن يجيب عن هذا السؤال إذا ما ألقي عليه: ألا تتحقق الأخلاق الإنسانية خارج العلاقات الإنسانية أيضاً؟ ألا تتحقق في عالم الحيوان والنبات؟ أليس الإنسان يحب الحيوان والنبات أيضاً؟ فلماذا يحبهما إذا كانت الأخلاق في تصوره ليس لها إلا هذا التعلق التام بعالم الإنسان.. بعلاقاته الاجتماعية المتشابكة وصراعاته الطبقية؟ ألا يدل هذا المجال الواسع للأخلاق أنها قلبية؟ فإن لم يكن هذا دليلاً، فعلام يدل حبّ الإنسان للحيوان والنبات؟
وبم عساه يجيب لو سئل، وهو الذي يصرّ على فكرة أن الأخلاق مناطها ما يحدث بين الطبقات من تصادم وصراع: هل ستوجد أخلاق إنسانية إذا ما خلا عالم الإنسان من الطبقات المتصارعة؟ هل ستوجد أخلاق في الشيوعية؛ المرحلةِ الاجتماعية المتخيلة التي لن يكون فيها تناقض أو صراع طبقي حسبما يتصور إنجلز؟ هل سيزول منها الحب أو البغض؟ الصفح أو الانتقام؟ الصدق أو الكذب ؟
إنه لمما يثير التعجب هنا أن إنجلز لم يكن مطلعاً على نظرية التطور وحسب، بل كان من أشد المتحمسين لها حتى ليخيل للمرء وهو يشهد منه هذه الحماسة أن نظرية التطور جزء من الماركسية؛ ومع ذلك فإنه لم يستطع أن يدرك علاقة الأخلاق بقانون حفظ النوع، أو إنه – بتعبير قد يكون أصدق - لم يشأ أن يتبين هذه العلاقة.
لكن التعجب سرعان ما يتبخر، حالما يقف المتعجب على حقيقة النظرية الماركسية التي ساهم إنجلز في إنشائها مساهمة واسعة. إن النظرية الماركسية في حقيقتها إيديولوجياأي إنها نظرية ثورية لا تكتفي بتفسير العالم وفهمه ثم إصلاحه، بل تسعى إلى أبعد من ذلك.. تسعى إلى تغيير العالم بالعنف والقوة (6) وحكمه وتدبيره وفق قوانينها الخاصة. ولذلك فهي لا تشاء هنا – في مجال الأخلاق - أن تميّز بين الأخلاق وبين حقوق الإنسان؛ لأن الأخلاق مخيّبة لتطلعاتها الثورية. وقد تجلى هذا بوضوح في هذا المقطع من قول إنجلز في فلسفة فويرباخ الأخلاقية:
„ إن فويرباخ لا يرى في هذه العلاقات (العلاقات بين الناس) غير جانب واحد: الأخلاق. وهنا يذهلنا من جديد فقر فويرباخ المدهش بالمقارنة مع هيغل. إن علم الأخلاق عند هيغل أو نظريته الأخلاقية، هي فلسفة الحقوق وهي تحتوي على: 1- الحقوق المجردة. 2- السلوك الأخلاقي. 3- ميدان الأخلاق الذي يشمل بدوره: العائلة، المجتمع المدني، الدولة. ..“.
باختصار، إنها إيدولوجيا تعتمد في تحقيقها على الثورة لا على الأخلاق، ولا على الإصلاح. وغني عن القول أن الكراهية والعنف والتدمير وسفك الدماء وقهر الخصوم بأساليب وحشية، وقودُ الثورة.
فمن هنا كان من الطبيعي المنطقي بالنسبة لإنجلز الثوري، أن تُنعت أخلاقُ فويرباخ المشيدة على مبدأ المحبة المسيحي (7) بأشنع النعوت، كما في قوله:
"إن قواعد الأخلاق الأساسية عند فويرباخ التي تنجم عنها جميع القواعد الأخرى هي التضييق العقلاني بالنسبة لأنفسنا والحب لأنفسنا والحب – الحب دائماً - في العلاقات مع الآخرين. ولا نستطيع إخفاء حقارة وتفاهة هاتين الموضوعتين...“
وقوله:
„ إن أجمل مقاطع مؤلفاته التي تمجد الدين الجديد، دين الحب، تستحيل اليوم حتى قراءتها…“.
وقوله:
„ وحين سعى فويرباخ إلى إقامة الدين الحقيقي على أساس مفهوم عن الطبيعة مادي في جذوره، فهذا أشبه بالذي اعتبر الكيمياء الحديثة إنما هي الكيمياء الحقيقية. وإذا كان الدين يستطيع أن يستغني عن إله، فإن الكيمياء تستطيع أن تتخلى عن الحجر الفلسفي… إن الحجر الفلسفي ينطوي على كثرة من الخصائص تشبه خصائص الإله“.
وقوله:
„ومفهوم بعد كل ما سبق أن ما يقوله لنا فويرباخ عن الأخلاق شيء هزيل جداً ".
وقوله:
„ وبنفس القدر يبدو لنا فويرباخ سطحياً بالمقارنة مع هيغل فيما يتعلق بمعالجة التضاد بين الخير والشر ".
وهكذا فإن الأخلاق التي أحلها فويرباخ محلّ الدين، أو التي أبقى عليها ولم يستأصلها حين استأصل إله المسيحية بنقده، لن تحظى برضى إنجلز، سينقم عليها إنجلز نقمة شديدة، حتى لو كانت ضرورية لحفظ النوع، حتى لو كانت تضفي الجمال بمعناه العميق والهادئ على العلاقات بين أفراد المجتمع، حتى لو أنها عمرت القلوبُ منها بالسعادة، حتى لو أنها ساهمت في تطوير المجتمع وتنظيمه؛ لأنه إن رضي بها، خان نظريته الثورية، وارتمى في أحضان الإصلاح والديمقراطية وهما أمران حاربهما مع ماركس في نقدهما اللاذع الساخر للهيغليين اليساريين في مؤلفهما (العائلة المقدسة) ولا سيما برونو بَوَر من هؤلاء وبرودون.
ولا بد من ذكر عامل ثالث سوّغ لإنجلز أن يزدري بأخلاق فويرباخ المسيحية، هو ادعاؤه بأن هذه الأخلاق لا يتقيد الناس بها، أي هي غير قابلة للتطبيق العملي. فإذاً، ما دام الناس في عرفه لا يستطيعون أن يقيدوا أنفسهم بها، فما الداعي إذاً إلى نشرها بين الناس؟ (8).
إن استحالة تطبيق المبادئ الأخلاقية حجة كافية عنده لازدراء الأخلاق. بيد أنها حجة لا يخطئ مَن يصفها بالسذاجة بالرغم من أن إنجلز صاحبها لم يكن ساذجاً. وذلك لأن المبادئ معايير تدعو إليها الضرورة، إذ كيف سيكون ممكناً بغيابها أن يُقوّم سلوك البشر؟
بهذه الحجة الواهية سوّغ إنجلز لنفسه الحكم على نظرية فويرباخ الأخلاقية بأنها غير مجدية في مجتمع منقسم إلى طبقات:
„ ولكنّ الحب! نعم الحب هو في كل مكان وزمان صانع المعجزات عند فويرباخ، وينبغي له أن يساعد في التغلب على جميع مصاعب الحياة العملية، وهذا في مجتمع مقسم إلى طبقات ذات مصالح متناقضة تماماً! وعليه، إن فلسفته تفقد آخر ما يبقى لها من طابعها الثوري، ولا تبقى منها غير اللازمة القديمة: أحبوا بعضكم بعضاً، وتعانقوا دون تمييز في الجنس… (9)".
وبتعبير آخر كيف لنظرية الأخلاق الفويرباخية ( المسيحية )المبنية على مبدأ المحبة، أن تكون مجدية نافعة في عالم تصطخب فيه المنازعات والمخاصمات والاستغلال والطلاق، وفيه تستعر الحروب؟:
"أما فيما يتعلق بالحب الذي يتوجب عليه أن يوحد كلّ شيء فهو يتجلى في الحروب والمنازعات والمخاصمات والخلافات البيتية والطلاق والحد الأقصى من استغلال بعضهم للآخرين…“
وعلى هذا فإن نظرية فويرباخ – في رأي إنجلز – عاجزة تمام العجز.. إنها ليست أكثر من مبدأ خيالي ليس له ما يسنده في الواقع، ليست أكثر من مبدأ يجول في ذهن فيلسوف متأمل منعزل لم تزل قدمه عالقة بطين المثالية اللازب.
وحجة إنجلز على عجز نظرية فويرباخ لا يؤيدها الواقع فقط، بل يؤيدها أيضاً المنطق، إنها في منطقه:
"... مفصلة لجميع الأزمنة، ولجميع الشعوب، ولجميع الأوضاع، ولهذا السبب بالضبط ليست صالحة للتطبيق في أي وقت وفي أي مكان، وتظل عاجزة إزاء العالم الواقعي مثل الحكم القاطع عند كانط.“
غير أن حجة إنجلز المنطقية هنا لا تتساوق مع جدليته؛ إنها تخرق مبدأ وحدة الأضداد. فإذا كان الناس يحتربون ويتنازعون ويطلقون وينتقمون ويستغلون بعضهم بعضاً ...الخ، فإن الأخلاق فيهم مع ذلك لا تموت، بل تظل مشعة حيّة قابلة للتطبيق ونافعة. أليست هي ضد الشر؟! بلى! فكيف للشر إذاً أن يوجد في عالم تنعدم فيه الأخلاق التي تمثل الخير؟ كيف للخير المتمثل في الأخلاق ألا يكون له وجود واقعي في حياة البشر، وهو ليس من صنع الطبيعة وحسب، بل هو أيضاً مبدأ تربطه علاقة جدلية حميمة لا تنفصم بالشر؟
فما لا يختلف عليه اثنان، أن الحروب والمنازعات والاستغلال والطلاق … الخ شرور، وأن المحبة وما يفيض عنها من قيم أخلاقية، خير. ولكن الخير والشر متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر. فحيثما وجد أحدهما، وجد الآخر.
فعلى هذا فإن قوله: „ ليست صالحة للتطبيق لأنها مفصلة لجميع الشعوب ولجميع الأوضاع…“ ساقط بيّن الخطأ. ليس ينطق به من كان في منزلة إنجلز. وإنما ينطق به مَنْ يجهل أن الأخلاق مشاعر إنسانية من إنتاج الطبيعة – على ما سبق أن تبين - وكذلك الذي يجهل أنها ليست حقوقاً وقوانين تسنُّها دولة، رغم دنوّها وشدة اقترابها من الحقوق والقوانين في الشكل والمحتوى.
هل كان إنجلز يجهل ذلك؟
يرتاب المرء في جهله. لكنها نظريته الثورية أملت عليه الجهلَ بذلك.
هل كان إنجلز يجهل أن الأخلاق مشاعر إنسانية؟ وأنها ليست من الدين – الدين يعزز الأخلاق ولا ينتجها - فلماذا إذاً أنكر أنها عامة في البشر لا يتمتع أو يشقى بها إنسان دون آخر، ولا شعب دون شعب، وأنها لا تكون لعصر دون عصر، ولا لوضع دون وضع؟
أليستِ الأخلاق مَثلُها مَثَلُ اليد التي تزوَّد بها الإنسان من الطبيعة – لإنجلز تقدير جم لليد، اعتراف بفضلها على الإنسان – فكيف يصحُّ أن يقال فيها، في اليد، بمنطق كهذا المنطق: إنه لا جدوى منها؛ لأن كل البشر مزودون بها؛ ولأنها صالحة لأن تمسك بكل الأشياء في كل الأوضاع، في كل المجالات، في كل العصور؟
ألن يكون هذا القول إذ يقال مضحكاً؟
2- غاية الأخلاق:
قد تبيّن أن السعادة هي غاية الأخلاق لدى أشهر الفلاسفة ومنهم فويرباخ. فالذي يمارس الفضيلة يشعر بالسعادة بعكس الذي يمارس نقيضها، فإنه لا يشعر بالسعادة إلا إذا كان ميّت الضمير، أو كان ذا عاهة ذهنية. فتكون المحبة إذا أشرقت في القلب، ارتعش القلب منها رعشة السعادة اللذيذة، وتكون الكراهية إذا جحفلتِ المحبةَ في القلب، فأمسى القلب مرتعاً للشقاء ومرتعاً لكل مكروه بغيض هادم لأركان السعادة واللذة. وإنه لمعلوم أن ما يتحقق للفرد من سعادة ولذة بممارسة الفضيلة، يتحقق أيضاً للمجتمع. فالمجتمع الذي تنتشر فيه الأخلاق الجميلة، يغدو مجتمعاً سعيداً، والمجتمع الذي تنتشر فيه الأخلاق الشريرة يغدو مجتماً شريراً.
ولكن هؤلاء الفلاسفة وعلى رأسهم أرسطو، توقفوا عند هذه الغاية، لم يتجاوزوها إلى ما هو أبعد منها؛ اعتقاداً منهم أنها منتهى كل الغايات. ولو أنهم كانوا تقصّوها بنظر أحدَّ، لرأوا خلفها غاية أخيرة، هي منتهى الغايات جميعاً. ألا وهي حفظ النوع، أو حب البقاء.
لو كان السؤال: ما الغاية من السعادة ذاتها، طفر إلى أذهانهم، لتوصلوا بالإجابة عنه إلى أنها أيضاً وسيلة لبلوغ غاية هي أم الغايات جميعاً؛ لأن الإنسان لا يسعد لأجل السعادة، وإنما يسعد لأجل احتمال الحياة والبقاء فيها. إن الحياة صعبة شاقة مرهقة فيها من الرزايا والمحن ما لا يطاق ويحتمل إلا بواسطةٍ هي السعادة. فلولا السعادة التي يستشعرها الإنسان، وهو يتقلّب على سفّود الحياة، فهل كان استطاع أن يحتمل الإنسان حياته؟ أما كان زهد فيها وعافها فخرج منها غير آسف عليها؟
وهذا موضع لطرح السؤال: لماذا ينتحر الإنسان؟ أينتحر لأنه يستشعر السعادة، أم ينتحر لأنه فقد شعوره بالسعادة فقداناً تاماً؟
فأما إنجلز فلا يرى في الأخلاق خيراً ينتهي بالإنسان إلى السعادة، كما يرى ذلك لودفيغ فويرباخ وسواه. وذلك لأن إنجلز – على ما تبين - ثوري يتشوّق إلى : "تحرير البروليتاريا عن طريق التحويل الاقتصادي للإنتاج" بأساليب العنف، لا بالأخلاق وأساليب الإصلاح. في رأي إنجلز أن الأخلاق دين جديد يعوق مسيرة التحرير عن بلوغ أهدافها، مع أن الواقع والتجربة لا يؤيدان رأيه. فالمجتمعات التي تحررت فيها الطبقة العاملة وبلغت أهدافها بالعنف الثوري، لم تسعد، إنها لم تلبث أن انهارت. فأما المجتمعات التي انتهجت الإصلاح ولم تنبذ نواة الأخلاق، فأحرزت تقدماً في كل مجال.
ها هو إنجلز يحاول في هذا المكان أن ينقض فكرة الغاية من الأخلاق كما هي لدى فويرباخ بأسلوبه الساخر، قائلاً:
„ وأكثر من ذلك أن بورصة الأوراق المالية تبعاً لنظرية الأخلاق عند فويرباخ ، إنما هي معبد أسمى الأخلاق، شرط أن تقوم فيه المضاربة بشكل لبق ذكي. وإذا كان سعيي إلى السعادة يقودني إلى البورصة، وإذا كنت أعرف كيف أزن فيها جيداً نتائج أفعالي بحيث إنها لا تعود عليّ إلا بالملاذ ولا تتسبب لي بأي خسارة، أي إذا كنت أربح دوماً، عند ذلك تكون وصية فويرباخ قد تحققت. ولاحظوا أنني إذ ذاك لا أعيق قريبي أبداً في سعيه إلى السعادة. فقريبي مثله مثلي، قد جاء إلى البورصة بملء إرادته، وهو، إذ يجري معي صفقة مضاربة، يتبع، مثلما أفعل أنا، سعيه إلى السعادة. وإذا خسر نقوده فذلك يدل على لا أخلاقية أفعاله؛ لأنه أخطأ في وزن عواقبها. فإني أستطيع ، إذ أجعله أن يحمل الجزاء الذي يستحقه ، أن أقف بكل فخر موقف رادامانت في الأزمنة الحديثة... والحب يسود أيضاً في البورصة ، إذ إنه ليس بجملة عاطفية وحسب؛ إن كل فرد يرضي سعيه إلى السعادة بمساعدة الغير، وهذا بالضبط ما يجب أن يفعله الحب، وفي ذلك يتقوم تحقيقه العملي. فإذا حسبت بصورة جيدة عواقب عملياتي، أي إذا لعبت بنجاح، أكون قد تقيدت بكل دقة بكل متطلبات أخلاق فيورباخ، واغتنيت فضلاً عن ذلك. وبتعبير آخر، أياً كانت رغبات فويرباخ ونواياه، فإنه أخلاقه تبدو أنها فصّلت على قياس المجتمع الرأسمالي الحالي ".
فهل أصاب إنجلز إذ شبه المجال الذي تتحرك – تتحرك مجازاً - فيه أخلاقُ فويرباخ بالبورصة؟
نعم، في البورصة خسارة وربح، كما هو الشأن أيضاً في مجال الأخلاق. ففي مجال الأخلاق: من يمارس الفضيلة يربح - يربح السعادة - ومن يمارس الرذيلة يخسر فيشقى.
ولكن البورصة إذا كانت من مخترعات الرأسمالية التي جوهرها الاستغلال، فهل في الأخلاق الإنسانية أيضاً استغلال؟ أإذا أساء إنسان، فعفا عنه المُساء إليه، كان في سلوك المُساء إليه استغلال؟
3- الأخلاق ثابتة أم متغيرة؟
يرى إنجلز أن فويرباخ لم يسعَ إلى إلغاء الدين، كما يرى أنه لم يفصل الأخلاق عن الدين؛ ولأن الدين ثابت لا يتغير، فالنتيجة التي تنشأ من ذلك بالضرورة هي أن الأخلاق عند فويرباخ ثابتة لا تتغير، يقول:
" إن مثالية فويرباخ بالحقيقة تنكشف حالما ننتقل إلى فلسفته في الأخلاق والدين. إن فويرباخ لا يريد مطلقاً أن يلغي الدين؛ إنما يريد أن يحسّنه. والفلسفة ذاتها ينبغي أن تذوب في الدين".
ويقول:
„ إن مثالية فويرباخ تتلخص هنا في أنه لا يعتبر جميع علاقات الناس القائمة على الميل المتبادل أي الحب الجنسي والصداقة والشفقة ونكران الذات … كما هي بذاتها دون الذكريات المرتبطة بدين خاص يرجع، حسب رأيه أيضاً، إلى الماضي. فهو يدعي أن هذه العلاقات لا تبلغ كل قيمتها إلا بعد تقديسها بكلمة الدين. والشيء الرئيسي بالنسبة إليه ليس وجود هذه العلاقات الإنسانية البحتة بل نظرة الناس إليها نظرتهم إلى دين جديد حقيقي. وهو لا يوافق على أن يعترف بقيمتها الكاملة إلا حين تطبع بخاتم الدين".
وبناء على هذا وعلى ما سبق من آراء إنجلز، يمكن الاستنتاج بيسر وسهولة أن إنجلز ، معتقد بأن الأخلاق متغيرة، فلكل عصر أخلاقه، بخلاف فويرباخ الذي يتناول الأخلاق من وجهة نظر العقيدة التي تراها ثابتة لا تتغير ولا تحول في كل العصور.
بل إنّ إنجلز ليصرح بفكرة التغيُّر هذه قائلاً:
„ إن الفكرة الكبرى الأساسية القائلة إن العالم لا يتكون من أشياء جاهزة منجزة، بل يتكون من مجموعة تفاعلات، حيث الأشياء التي تبدو ثابتة، وكذلك صورها في الرأس أي المفاهيم تتغير على الدوام. تنشأ وتزول وحيث التطور التصاعدي، يشق في آخر المطاف طريقاً لنفسه رغم الصدف الظاهرة ورغم الخطوات المؤقتة إلى وراء. إن هذه الفكرة الكبرى الأساسية قد نفذت عميقاً، منذ هيغل، إلى الوعي العام، بحيث إنه يكاد لا يعمد أحد إلى دحضها في شكلها العام. ولكن الاعتراف بها قولاً شيء وتطبيقها في كل حال بمفردها وفي كل ميدان معين للبحث هو شيء آخر. إذا تمسكنا دائماً في البحث بوجهة النظر هذه، فإن طلب الحلول الحاسمة والحقائق الخالدة يفقد ، بالنسبة لنا، كل معنى إلى الأبد؛ ونحن لا ننسى أبداً أن كل معارفنا المكتسبة محدودة بالضرورة وتحدها الظروف التي نكتسبها فيها. ومع ذلك لم يبق الآن من الممكن أن تثير في نفوسنا الاحترام تلك المضادات المستعصية على الميتافيزياء القديمة التي لا تزال مع ذلك واسعة الانتشار حتى الآن، كالمضادات بين الحقيقة والخطأ، بين الخير والشر، بين التشابه والاختلاف، بين الضرورة والصدفة. ونحن نعلم أن لهذه المتضادات قيمة نسبية فقط: أي إن ما هو معترف به الآن كخطأ، له جانبه الحقيقي الذي بسببه كان من الممكن اعتباره سابقاً كحقيقة، وإن ما يدعى بالصدفة إنما هو الشكل الذي تستتر وراءه الضرورة، وهكذا دواليك“ .
ولأن إنجلز جدليّ في منهجه؛ أي إنه يدرس الظواهر في علاقاتها القائمة على الارتباط والتضاد. فالشيء موجود في الطبيعة أو الذهن ووجوده يشتمل على ضدين. فلا بد إذاً من دراسته على أنه اثنان في واحد. وعلى هذا، فإذا كانت الأخلاق تتغير فيجب أن يكون فيها شيء لا يتغير. أليست اثنين في واحد: التغير، الثبات؟
ولكنّ إنجلز ينفي الوجه الآخر للأخلاق وهو الثبات، ويأخذ على فويرياخ أنه يراها ثابتة، هادماً هنا أيضاً منهجه الجدلي.
ولماذا الأخلاق ثابتة لا تتغير ؟ ما هو الجواب؟ الجواب: لأنها من صنع الطبيعة لغاية البقاء.
ولكن كل شيء في الطبيعة يتغير. إن التغير حقيقة لا يستطيع أحد أن يتنكر لها. وإنما بهذا الحقيقة ينتهك المعترض حقيقة ثبات الأخلاق. فكيف الرد على المعترض؟
يرد عليه بالسؤال: ما الذي يتغير منها؟ هل هو الجوهر، أم هو العرض؟
لا شك في أن شيئاً من ظاهر الأخلاق يتغير، من مثل طريقة المحبين في التعبير عن حبهم. ففي القرن الثامن عشر مثلاً كان المحبون يعبرون عن حبهم بأسلوب يختلف عما هو متبع اليوم في القرن الواحد والعشرين من قبل المحبين . ولكن الحب ذاته لم يتغير. وقد يُظن أن إنجلز لم يطرح على عقله هذا السؤال، ولذلك لم يسدَّ رأيُه في نقده لنظرية الأخلاق عند فويرباخ.
لو كان سأل: هل يتغير الحب الإنساني في جوهره على امتداد العصور؟
هل كان الحب في المرحلة المشاعية – بحسب التقسيم الماركسي لمراحل التاريخ – غيرَ الحب الإنساني في المرحلة الرأسمالية؟
أفما كان عثر على مفتاح الحقيقة؛ حقيقةِ ثبات الأخلاق في جوهرها؟
-------------------------------------

(1) أرسطوطاليس. كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس. ترجمة اسحق بن حنين. تحقيق عبد الرحمن بدوي.
(2) لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية. تأليف فريدريش إنجلز. كل الشواهد في النص مأخوذة من هذا الكتاب.
(3) قول فويرباخ " ويجب أن تصبح السياسة ديناً " دعوة إلى العلمانية. وهي فصل الدين عن السياسة والحكم.
(4) عام الثورات في أوروبا.
(5) العائلة المقدسة. عمل مشترك. تأليف كارل ماركس وفريدريش إنجلز. وهو في نقد منهج الهيغليين اليساريين التأملي. والخطوة التي يتحدث عنها إنجلز هنا، هي تحرير الطبقة العاملة بالعنف والثورة، لا بالموادعة والإصلاح ولا بمعالجة التناقضات الاجتماعية بالتأمل فيها وتفسيرها، بل بالانخراط في الصراع ضد الطبقات المستغِلّة. فلا يكفي أن يفسر الفيلسوف القضايا مثل قضايا الحرية، والاستغلال، والحق، والأخلاق، والدين… الخ وهو جالس بعيداً عن المستغَلين خلف منضدته وقلمه بيده. على الفيلسوف الحقيقي في نظر ماركس وإنجلز أن يمارس النضال الطبقي إلى جانب البروليتاريا ممارسة عملية أيضاً. هذا الموقف الفلسفي – السياسي، قد عبَّر عنه ماركس بمقولته الشهيرة: „ لم يفعل الفلاسفة شيئاً سوى تفسير العالم بطرائق شتى لكن الأهم هو تغييره ". ولا يتحقق تغييره في رأيهما إلا بالعنف والثورة. وقد عرضت هذه المقولة بإيجاز شديد عرضاً نقدياً في مكان آخر.
(6) قدم الصديق الدكتور حسين علوان حسين ورقة في الأخلاق الماركسية نشرها في صحيفة الحوار المتمدن. ولكي يقنع القارئ بأن الماركسية تحتوي على نظرية أخلاقية – والحق أنها لا تحتوي على نظرية أخلاقية – عمد إلى تحريف الماركسية، إذ بتر منها ثوريتها، وجعلها إصلاحية كاشتراكية برودون الذي تلقى نقداً شديداً علىى نظريته الإصلاحية من ماركس وإنجلز. ولكأن الدكتور حسين أدرك أن القيم الثورية من كراهية ونقمة وعنف وسفك دماء، لا تصلح لبناء مجتمع سعيد. ثم عمد أيضاً إلى تحريف آخر، إلى تحريف الأخلاق، فأدعى أن تحرير الإنسانية من الاستغلال هو من الأخلاق. والحق أن هذا من الحقوق وليس من الأخلاق.
(7) يقول إنجلز: " والدين الوحيد الذي يدرسه فويرباخ دراسة معمقة إنما هو المسيحية ".
(8) ثار جدل طويل في الحوار المتمدن حول وصية المسيح الأخلاقية " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر " خمس وتسعون بالمئة تقريباً، رفضوا هذه الوصية بدعوى أنها يستحيل تطبيقها، وبأنها تشجع على قبول المذلة والخنوع والاستسلام، فلما طرح عليهم السؤال: هل يوصي أحدكم ابناً له إذا ضربه أخوه أن يرد عليه بالمثل؟ تجاهل أكثرهم السؤال. ومن أجاب منهم، أجاب: لا. ولكنه مع ذلك مضى يذم الوصية. هؤلاء قرأوا حروف الوصية ولم يقرأوا المعنى الأخلاقي المتضمن فيها. كما أنهم لم يلحظوا ما فيها من جدلية بين الضارب والمضروب. فإن من يرد بالضرب على الضارب، يمسي ضارباً. وقال فيها أديب إنها للاستهلاك؛ أي لا قيمة لها. ولكن هذا الأديب حين لطم نظامَ دولته، فلطمه نظامُ دولته رداً على لطمته، جعل الأديبُ – ولم يبرح - يستنكر أن ردَّ النظامُ عليه بالمثل. لماذا يستنكر الأديب أن يرد عليه النظام بالمثل، ما دام الأديب يرى أن الرد على اللاطم بالمثل، فضيلة ؟!
(9) ينتقد إنجلز فويرباخ؛ لأنه يحلُّ " تحرير الإنسانية بواسطة الحب محل تحرير البروليتاريا عن طريق التحويل الاقتصادي للإنتاج".



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دوَّامةُ النّهرِ الكبير 11
- منطقُ الجاحظ في ردِّه على النصارى
- مُشادّة على مائدة الحوار المتمدن
- دوَّامةُ النّهرِ الكبير 10
- الوعي والحياة بين هيغل وماركس
- مناظرة السيرافي والقُنَّائي
- دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 9
- البعد الفلسفي لفرضية الانفجار الأعظم
- محاورة ملحد الكريتي
- ثالوث الديالكتيك الماركسي
- الطعن على رأي الأستاذ منير كريم في الديالكتيك والمادية
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 8
- الزمان بعداً رابعاً
- سُلَّم الوجود
- مشكلة النسبية
- ميزتا التعليق والتصويت في صحيفة الحوار المتمدن
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 7
- الإلحاد والتطرف
- إفسادُ منطق الإمكان
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 6


المزيد.....




- أجهش بالبكاء على الهواء.. الدموع تغلب خبير استطلاعات بسبب خط ...
- رئيس قطر للسياحة لـCNN: التأشيرة الموحّدة ستروّج لدول الخليج ...
- الجيش الإسرائيلي: إصابات بين الجنود في انفجار بقاعدة عسكرية ...
- حرب غزة: قصف مستمر على القطاع وإصابة 9 جنود في تفجير بقاعدة ...
- إحياء الذكرى الخامسة والثلاثين لحملة تيانانمن في هونع كونغ
- مهندس سابق في Meta: طردت بسبب إصلاح الأخطاء التي أدت إلى -قم ...
- مكتب التحقيقات الفيدرالي: الولايات المتحدة قد تتعرض لهجوم عل ...
- -روس كوسموس- تكشف عن موعد الانتهاء من بناء المحطة القمرية ال ...
- اكتشاف دليل على أقدم أمطار الأرض
- أعداد قياسية من أسود البحر تغمر رصيف سان فرانسيسكو


المزيد.....

- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نعيم إيليا - الأخلاق بين فريدريش إنجلز ولودفيج فويرباخ