أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 7















المزيد.....


دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 7


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 6948 - 2021 / 7 / 4 - 17:45
المحور: الادب والفن
    


تزوجت لميا (س) والسين علامة المجهول.
كان (سين) أوَّلَ رجل ناضج مهيَّأ للزواج يتقدم إليها طالباً يدها. ماذا كان اسمه؟ لست أدري! لم أسأل أحداً عن اسمه لأعلم ما اسمه. لميا لم تذكر لي اسمَه يوم حكمت عليَّ بفراقها المؤبَّد. وأنا؛ لأني كرهت أن أعرف اسمه كما كرهت أن أسمع لميا تتلفَّظ به، لم أسألها ما اسمه.
لميا كانت حدثتني عنه بعجالة في لقائنا الأخير: ذكرت لي أنه طبيب متخصص بمعالجة أمراض القلب، ذكرت لي أنه متخرج من إحدى جامعات لندن، ذكرت لي أنَّ له قرابةً بعيدة بأمِّها، ذكرت لي أنه شخصية تجمّلها صفاتٌ، أخلاق، شمائل. ولم يفتها وهي تعدد شمائله، أخلاقه، صفاته النفسية، أن تمتدحها بأناقة وإعجاب دون مراعاة منها لشعوري، وذكرت لي منبته، مسقط رأسه. وهي مذ ذكرت لي منبته، أنه مدينة الشام، بِتُّ أكره الشام المدينة. بتّ أكره التلفظ باسم هذه المدينة القبيحة. غدوت كلما ذكرت الشام على مسمع مني أحس في الحشا من ذكرها وخزاً موجعاً. وما زلت أتحاشى ذكر اسمها إلا اضطراراً، وما زلت أيضاً أتحاشى زيارة عمي إدمون فيها.
عمي إدمون، والشيء بالشيء يُذكَر، بعد تخرجه من كلية الصيدلة، وانتهاء خدمته العسكرية، فتح صيدلية في حي القَصَّاع في وسط هذه المدينة القبيحة التي كرهتها، دون أن يكترث بمعارضة والدي وعمتي أنطونيا، واقتنى داراً عتيقة آيلة إلى السقوط في حي باب توما القديم بقرب كنيسة حنانيا فأصلحها، ثم سكنها من بعد إصلاحها مع زوجته الشامية التي ستنجب له ابنين وابنتين لن تكون لي بهم صلة متينة حميمة كالتي لي بأبناء عمتي أنطونيا، وبأبناء خالي عازار، وخالتي فيوليت. بيد أنها مع كل هذا الذي كانت ذكرته لي… مع كل هذا الذي كانت حدثتني به عنه وامتدحته فيه، لم يجرِ اسمُه على لسانها.
وقد حسناً فعلت لميا حين لم تذكر لي اسمه. وإني إذ أستحسن فعلها أن أغفلت ذكر اسمه، لا يذهب بي الظن أبداً إلى أنها إنما عن (عمد) لم تذكر لي اسمه. إن ظناً كهذا الظن بفعلها لا يمكن أن يجول في ذهني أو في صدري ألبتة. إذ ما الذي كان له أن يرغم لميا على أن (تتعمّد) ألا تذكر لي اسمه؟ أوَكانت تدري أن ذكر اسمه سيوقد مرجل غِلّي – مثلاً- فآثرت الحيطة والحذر رفقاً بي؟
كلا، إن هذا لأبعد ما يمكن أن يكون سبباً لئلا تنطق باسمه. لميا لم تكن تدري بأنها لو تنطق باسمه فإن نطقها به سيوقد مرجل غلّي، وسيكون له في نفسي تأثير موجع كتأثير القرحة التي لا تندمل. وأنا أملك الدليل على ذلك. لست أفتقد الدليل على أنها لم تكن تدري بذلك. فلميا حين نوّهت لي ببعض شمائله وصفاته وأخلاقه، وراحت بلا مواربة توغل في مدحها على مسمع مني، لم تراع شعوري.
فلماذا لم تراع شعوري حين راحت تمتدح صفاته أمامي، إن كانت (تدري) أن امتداحها، يؤذيني ويوقد مرجل غلّي؟
ألكي تنتقم مني؟
ولكني ما كنتُ اقترفت ذنباً يسوّغ أن تنتقم مني..
ألكي تفجر بركان الغيرة في نفسي؟
ولكن المرأة لا تستهدف تفجير الغيرة في نفس رجل قد عزمت عزماً أكيداً على هجره إلى رجل آخر.
إذن، فما دام الانتقام، وما دام تفجير الغيرة، ليسا الباعثين اللذين دفعاها إلى أن تمتدح صفاته وشمائله، فأي باعث هو هذا الذي دفعها إلى ذلك؟ هل كان ثمة باعث آخر لديها غير أنها لم تكن (تدري) أن مديح صفاته يجرح مشاعري، ويوقد مرجل غلّي؟
لا أظن!
فإن ظننت بإمكان وجود باعث آخر لديها غير أنها لم تكن تدري، فإني لن أستطيع أن أعيّنه. وما لا أستطيع أن أعيّنه، هو عندي بحكم الشيء الذي لا وجود له. فينتج من ذلك أنَّ لميا لو كانت تدري بحق أن مديحها لشمائله وصفاته، سيجرح مشاعري.. سيجلب لي ثاقباً من ألم، فإنها ما كانت امتدحتها على مسمع مني؛ لأن ذكرها لصفاته وامتداحها لها كمثل ذكرَها لاسمه؛ أي هما متساويان عندي في درجة الإيلام؛ أي إن كليهما يؤلمني بدرجة واحدة أو بمقدار واحد.
فلو كانت لميا تعلم أنهمامتساويان عندي في درجة الإيلام.. لو كانت تعلم أن مديح صفاته عندي، مساوٍ لذكر اسمه في درجة الإيلام، فإنها بالتأكيد ما كانت (تعمَّدَت) أن تغفل ذكر اسمه بحجة الرفق بمشاعري، وتجنيبي الغلَّ والألم، في الوقت الذي لا تتورع فيه عن امتداح صفاته، وكأن امتداحها لصفاته لا يغلُّ صدري ولا يؤلمني. إن هذا لمما لا يفعله إلا البليد. ولميا منزهة عن البلادة، فكيف تفعله؟
لا شيء ينفع إلا ذكر الحقيقة. لميا باختصار (لم تتعمد) أن تتجاهل ذكر اسمه رفقاً منها بمشاعري. وإنما هي لم تذكر لي اسمه وبس. هذه هي الحقيقة. ذهن لميا ولسانها غفلا عن ذكر اسمه. وهذا كل شيء. هكذا جرى الأمر بالنسبة إليها، تماماً كما يجري الأمر حين يتهمَّك المرء أو ينهمك في سرد تفصيلات حدثٍ ما؛ لكنَّ ذهنه يغفل عن سرد واحد منها.. يختفي واحد من تفاصيل ذاك الحدث عن خاطر السارد، يسقط من مجال اهتمامه إبّان السرد، فلا يكون له بسبب سقوطه أن يجري على لسانه.
وأكاد أجزم أني لو كنت غالبت كرهي فسألتها عن اسمه، ما كانت لميا ترددت لحظة واحدة في ذكر اسمه. وأيُّ سبب كان سيجعل لميا تتردد في ذكر اسمه، وهي على ما تبين لي، ما كانت تدري أن ذكر اسمه - لو كان وقع منها بالفعل - سيغلّي مرجلَ غِلّي؟
لميا مالت بعقلها إلى (سين) آثرته بإعجابها واختيارها. ومن يمل إلى شخص بعقله أو بعاطفته ويؤثره بإعجابه واختياره، فمن غير المعقول أن يتردد لحظة واحدة في أن ينطق باسم هذا الذي قد مال إليه بعقله أو بعاطفته. إن النطق باسم من نميل إليه يعبر عن شعورنا الشهي الجميل نحوه. ولهذا السبب يكثر، كما هو معلوم، أن يكرر المحبُّ ذكر اسم محبوبه مرات ومرات في حديثه عنه، أو في مناجاته له.
سأكون أبله غبياً حين أظن أنها كانت – لو كنت سألتها عن اسمه - ستترد لحظة واحدة في ذكر اسمه. أنا إن كنت لا أطيق أن يذكر اسمه على مسمع مني؛ لأن ذكره يولّد في نفسي كلّ معنى بغيض، فإن لميا - بخلافي أنا - ما كان ذكر اسمه سيولّد في نفسها إلا كلَّ ما هو محبوب مشوق من المعاني والصور.. ما كان ذكر اسمه سيوقظ في حناياها إلا أرق المشاعر وأعذبها.
لميا وأنا لسنا في موقع واحد من الرجل الذي سيصير زوجها؛ ولأننا لسنا في موقع واحد منه لن يكون شعورها تجاهه إلا نقيض شعوري. هذه نتيجة لا تقرها الطبيعة وحسب، بل يقرها المنطق أيضاً.
أليس موقع لميا من الرجل مغايراً تمام المغايرة لموقعي منه؟
ثم أليس تغاير المواقع، يحتِّم تغاير المشاعر، مثلما يحتم أيضاً تغاير الرؤى والتصورات والمعتقدات؟
إذن، فكيف لا يكون كل منا مختلفاً عن الآخر في شعوره تجاه الرجل الذي صار زوجها؟
هذه هي المسألة.. هذه هي الحقيقة التي لا يجهلها أحد. فمنذا الذي يجهل أننا إذا كان لكل منا موقعه من شخص ما، أو شيء ما، أو فكرة ما، فإن ذلك يستوجب بالبداهة أن يكون لكل منا شعورٌ غير شعور الآخر تُجاه ذلك الشخص، أو ذلك الشيء، أو تلك الفكرة؟ من منا له أن يعاند هذه الحقيقة، أو يشاكسها؟
ولقد بقيت أمقتُ أن أعرف اسم الرجل الذي صار زوجها مقت السر للأذن.. بقيت أمقته حتى لمّا التقينا مصادفة على رمال الشاطئ الأزرق في اللاذقية صيف العام الثاني عشر من فراقها إياي واحتجابها عن نظري، ولا أقول عن قلبي. فهي في ذلك اللقاء أيضاً لم تتلفظ باسمه أمامي لا سهواً، ولا حرصاً منها على ألَّا تؤذي مشاعري، بل لأني ما تركت لها مُتَّسعاً أو سانحة لأن تتلفظ باسمه أمامي، مثلما لم أترك لها أن تعلم مقدار ما تجرعتُ من غصص وآلام عقب انفصالها عني.
لو أن صديقي اسفيندار القريب مني، أو شخصاً آخر سواه، التقطت أذنه ما قد أخبرتُ به الآن في ذهني من أني حجبت عن لميا أن تعلم مقدار ما ألمَّ بي من الأوجاع، فلن أتوقع أن يكون منه إلا أن يطرح عليّ هذا السؤال مستعلماً مستوضحاً: "وما الذي كان منعك من أن تفصح لها عما كان ألمَّ بك من الأوجاع؟"
فإن يتحقق ما أتوقعه منه.. إن يتحقق أن يسألني اسفيندار أو شخص آخر غير اسفيندار مستوضحاً، فلن يكون لي حينئذ، كي لا أقترف كذباً بليداً عليه وعلى نفسي، إلا أن أعترف له فوراً بأن الذي كان منعني من ذلك، هو خصلة الأنفة أو عزةُ النفس.
بلا احتراز سأعترف له بأن الأَنَفَةَ، هي التي كانت منعتني من أن أخبر لميا بما قاسيت عقب انفصالها عني. نعم، سأعترف له بذلك، سأعترف بأريحية وشجاعة.
وأيّ بأس عليَّ إن أنا أعترفت له بذلك؟ ثم أي بأس علي أيضاً إن أنا لم أحترز بعد ذلك من مصارحته بعين تلك الأريحية والشجاعة، أنَّ أنفتي كانت زائفة!
ألم تكن أنفتي زائفة؟
ألم تكن زائفة حقاً؟
فلم الاحتراز إذاً من أن أصارحه أنها كانت زائفة؟
لئن كنت تأخرت في استكشاف حقيقة ما كنت توهمت بعقلي الهش الضعيف آنذاك أنه أنفة، فإني رغم تأخري في استكشافها، قد رضيت عن نفسي، ولم أنهَلْ عليها بالتقريع كدأبي كلما أخطأت في التقدير، أو في الاستنتاج، أو في الحكم، أو في فهم الحقائق بالسرعة المقررة المطلوبة.
أن يستكشف المرء حقيقةً ما، ولو متأخراً، خير له ألف مرة من أن لا يستكشفها إطلاقاً. وإن هذا لشبيه بما جاء في المثل المشهور: أن تأتي إلى موعدك متأخراً، خير من أن لا تأتي إليه ألبتة. بهذه الحكمة إنما علَّلت نفسي، بهذه الحكمة هدهدت نفسي فأرضيتها.
فأما الذي كان مهّد لي السبيل إلى هذا الاستكشاف، فسؤالٌ انبثق فجأة على ذهني في خلوة من خلواتي بها. حدث هذا في وقت آخر، حدث بعد مرور أعوام على زواج لميا من (سين). ولا جرم أنّ السؤال يكون دائماً هو المحرِّض الأول على استكشاف الحقائق المكنونة، وعلى حل الألغاز المبهمة المجهولة تلك التي تكتنف مجالات الحياة، بل تكتنف مسارات كل ما في كوننا، وتنبثُّ في كل ثنية من ثنايا هذه المجالات، وتلك المسارات. انبثق السؤال عليَّ بصيغة من اللفظ أسهل من جريان الماء في الغدير - وكثيراً ما ينبثق مثل هذا السؤال المباغت السهل على ذهني، كلما واجه ذهني معضلة شائكة الحبكة – انبثق السؤال على ذهني بصيغة من اللفظ لم تقوَ الأيام بالرغم من بساطة رسمها على محوها بعد من ذكراتي. رسم تلك الصيغة على بساطته، لمَّا يزل محفوراً على جدار غير مرئي من جدرانها:
"ما الذي كنتَ ستخسره، لو كنت بُحْتَ للميا بما قاسيت؟ أوَكنتَ ببوحك لها بما قاسيت، ستجلب على نفسك العار؟".
إن هذا السؤال الذي قد يبدو لغيري تافهاً غير جدير بالاحتفال، ليس كذلك عندي؛ لأنه على بساطته المقاربة للتفاهة، كان استكشافاً… كان المفتاح لما كان استغلق عليّ من حقيقة الأنفة، كان المركب الذي أبحر بي إلى حقيقتها. أتذكر بوضوح، بصفاء العين أن ذهني لم يقف إزاء هذا السؤال المحرض حائراً متبلداً، بل نهض، إذ حرضه السؤال المنبثق عليه بغتة، ليعكف على هذه الأنفة ساعة أو نحو ساعة باحثاً عن كنهها، عن حقيقتها. لم يفتر ذهني عن البحث عن حقيقة الأنفة في غضون تلك الساعة من تلك الخلوة مع الذات.. ما انفك ذهني يبحث ويبحث حتى أدرك أن تلك الأنفة التي كانت أنفتي، لم تكن أنفة صادقة. أجل، لم تكن صادقة؛ لأنها لم تكن تجسد المعنى الحقيقيَّ الأصلي الذي وُضِعت له الأنفةُ الصادقة.
لم تكن أنفتي ترفُّعاً عمَّا يجلب الخزي والعار - والترفع عما يجلب الخزي والعار، هو المعنى الحقيقي الصادق للأنفة – بل كانت في حقيقتها (خوفاً) من أن أبدو في عين لميا، كما في عين سمر ابنة خالتي فيوليت، ضعيفاً مثلوم الرجولة.
عن سمر أيضاً، مع أنها أمينة لأسراري، كتمت حقيقة مشاعري تحت تأثير تلك الأنفة الزائفة...
كانت سمر في ذلك اليوم بكّرت بالعودة إلى البيت من الجامعة.
أن تعود سمر من الجامعة إلى البيت قبل أوان عودتها، حدث نادر يستدعي السؤال. لكني ما كنت في حال ترغّبني بأن أعرف سبب عودتها في غير أوان عودتها. سمعتها تحادث أمي في الصالون قبل دخولها حجرة نومنا حيث كنت أستلقي في سريري. وإذ دخلَتْها عقب محادثة أمي، رأتني ممدداً في سريري تحت اللحاف أرتجف وقد طبختني الحمى. كانت أسارير وجهها منكمشة، كانت أساريرها مثل ثوب خرج للتو من الغسالة.
تقدمت إليّ سمر بخطوات وئيدة حتى وقفت على رأسي. وحين شرعت تتحسس براحتها الباردة جبيني الملتهب. توقعت أن تنطلق من صدرها في تلك اللحظة صرخةٌ تعبر عن جزعها، عن شدة تأثرها بما أصابني كتلك الصرخة التي انطلقت من صدر أمي، وهي تتحسس جبيني الملتهب براحتها، لكن سمر خيّبت ظني، خيبت ما كنت توقعته منها. لم تجزع سمر كما كان ينبغي لها – في تقديري - أن تجزع.. لم تظهر علامة واحدة من علامات التأثر بما أصابني. والأنكى من ذلك أني سمعتها تقذفني من فوق رأسي بلفظة تكثف فيها لوم صارم كاد يكون تشفياً:
- الحق عليك!
- عليّ أنا؟!
- إي، عليك أنتَ، أم تظنه علي أنا؟
وأغراني جوابُها بمعابثتها رغم أني كنت في حال من البؤس لا يُستطاب فيها العبثُ. اتهمتها أنها صاحبة الذنب فيما حلّ بي، قلت لها ممازحاً بصوت خرج من حلقي متقطعاً واهناً مرتعداً:
- بل أظنه عليَّ أنا. فأنا الذي قد سمعتك وأطعتك إذ ظلمتني.. إذ زيّنتِ لي بالأمس أن أستحم قبل أن أنام. أما كان خيراً لي ألا أستحم في آخر الليل؟
قالت تدفع عنها تهمتي الباطلة بانفعال مصطنع:
- أيُّهذا المحتال، تحمّلني حقيبةَ تصرفاتك وذنوبك الثقيلة؟ طيييب ! لحظة – أضافتها سمر بوعيد - لا تقل شيئاً، لدي أنباء (ستسرك) انتظرني، سأعود حالاً...
في اللحظة التي خرجت فيها سمر من غرفة نومنا هرولة، من دون أن تفضي إلي بأنبائها التي وصفتها بالسارة، والتي تلهفت إلى سماعها، انتابني شعور ثقيل بالزمن. أحسست بالثواني والدقائق تتابع عليَّ ببطء، بتراخ يرهق الأعصاب. بطءُ الثواني والدقائق بعث فيّ الكثير من الضجر. خمس عشرة دقيقة وأكثر توالت على خروج سمر من غرفة النوم حتى خلتها شغلت عني بمساعدة أمي في المطبخ. بيد أن شعوري بالضيق والضجر من تباطؤ حركة الثواني والدقائق سرعان ما انقشع، سرعان ما توارى حين رأيتها تعود إلي ثانية بهيئة متغيرة. كانت سمر بدَّلت ثيابها، وارتدت مِبْذَلة، وكانت تحمل كرسياً. ولكأنها خشيت العدوى، فأنزلتِ الكرسيّ قريباً من نهاية السرير عند قدمي. لكني حين تهيأت للكلام، لم أدع لها أن تتكلم، بدرتها إليه لشدة تشوقي إلى سماعي أنبائها السارة، قلت في همس:
- أيقظتِ فضولي.
فقالت مستفهمة وهي تحكم نظارتها فوق أنفها:
- بمَ؟
تساءلتُ، وقد أدهشني تجاهلها:
- بم؟!
- إي، بم؟
كررت، فأجبت:
- بأنبائك السارة.
- آاا.. كدت أنسى. لكن أنبائي السارة ستسرك بلا ريب.
قالتها بتهكم تجلى في نبرها وفي وجهها. إن (ستسرك أنبائي … ) في لهجة سمر المتهكمة كما هو ظاهر لا تعني أن الأنباء ستسرني حقاً، بل تعني أنها نقيض ذلك أي (لن تسرك أنبائي...) وأضافت:
- خالتي تظن أنك مصاب بنزلةٍ، وهي تفكر باستدعاء الحكيم ليعالج نزلتك، إن لم تنهض من فراشك بعد الغداء. أتفهم؟ أما أنا فما حاولت أن أثنيها عن التفكير باستدعاء الطبيب، مع أن ما بك ليس نزلة.
- ليس نزلة؟! فما هذا الذي بي؟
- شيء آخر.
- ما هذا الشيء الآخر؟
- هو شيء آخر، وليس نزلة، لكأنك لا تريد أن تفهم. في الأمسِ نجحتَ في إخفاء سرِّك عني، وأنت اليوم تحاول أن تخفيه عني مرة ثانية بادعائك أنك مصاب بنزلة.
- أمس أصابتني نفحةٌ من هواء بارد، وأنا خارج من جو السينما الدافئ. النفحة هي سبب هذه الحمى اللعينة، وقد تلمَّستِ براحتك جبيني، فثبت لديك أني مصاب بالحمى، ألست مصاباً بها؟ فكيف تزعمين بعد هذا أني أدَّعي ادعاءً أني مصاب بالحمى؟
- ليلة الأمس لم تكن باردة!
- فمن أين جاءتني الحمى إذاً؟
- من السر الذي أعلم أنك تستره عني.
أظهرتُ التعجب:
- أستره عنك؟! متى كان لدي سر وسترته عنك؟
- أمس واليوم.
- تفترين علي؟
- لا أفتري، أحاول أن أحثّك على الإفضاء إليَّ بسرك.
- ألا يجب أولاً أن يكون لدي سر، كي يكون لي أن أفضي به إليك؟
- ترواغ؟
- بل أؤكد لك أني لا أملك سراً. وما دمت لا أملك سراً، فكيف يصح أن تطلبي مني أن أفضي إليك بسر لست أملكه؟
- لن تنفعك السفسطة. سفسطتك لن تجعل ادعاءك حقيقة. قد ذاب الثلج، وبان المرج. هيا اعترف، وأرح نفسك من عبء السر.
كدت أضحك من كنايتها.
- ولكن لم يسقط ثلج ليذوب.
ردت بتجهم:
- … عنيد! لن تعترف، ستمضي في المكابرة والعناد، أعلم ذلك، ولكن أين المفر؟ سأرغمك على الاعتراف إرغاماً بفضل الوقائع التي بين يدي، والتي لن تستطيع أن تدحضها أبداً، ولو أوتيت دهاء أدهى الدهاة. الوقائع لا تدحض يا أفندينا. أتدري من صادفت في طريق عودتي من الجامعة؟
- من؟
- نيللي، نيللي أخت لميا.
- ما لها؟
- لها أنها كذَّبت ادعاءك.
- لم أفهم. أيُّ شأن لنيللي بارتفاع حرارتي؟
- شأنها أنها أزاحت لي الغطاء عن سرّك.
- نيللي؟ ومتى كانت نيللي مستودعاً لأسراري؟
- يللا، استمر في أخذي بالرَّوغ والخداع ! كأني أجهل أن لميا تركتك، واختارت عليك رجلاً آخر.
- أهي نيللي التي أخبرتك بذلك؟
- وأخبرتني أن أختها ستتكلّل يوم الأحد القادم.
- الأحد القادم؟!
حشرجتُ… وقع النبأ عليَّ وقع لطمة شديدة تلقيتها على حين غفلة! كاد النبأ يزلزلني رغم أنه لم يكن يكشف عن سر مفاجئ محتجب عني، فلميا كانت من قبل قد أعلنت لي أنها ستتزوجه.
ولقد كان علي أن أبذل جهداً خارقاً، كي أدرأ التهافت عن أعصابي. لم يكن محتملاً أن أحسَّ بآخر أمل لي يتحطم، يتقوض، ينهار بضربة واحدة قاسية فظة لا تعرف الرحمة. فأنا بالرغم من حالة اليأس التي كنت هويت إليها، ما كنت فقدت الأمل بعد في أن يرفض هذا (السين) الاقتران بها حين تصارحه لميا أنها خاضت التجربة الشريرة، تجربة حواء مع آدم، بمشاركة شاب سبقه إليها، مع أني كنت علمت من لميا أنه درس الطب في إحدى جامعات لندن، ولكن ما أكثر الذين يدرسون الطب وغير الطب في جامعات أوروبا ثم يرجعون إلى ديارهم وهم أوفياء كل الوفاء لما زرعته ديارُهم فيهم من القيم والأعراف والتقاليد والمعتقدات والأفكار! ولست مخطئاً حين أضيف إلى ذلك، أن عدداً منهم وقد صدمته – كما يقال - قيمُ الغرب، لا يستنكف من أن يغالي في تمسكه بقيمه الخاصة الموروثة، حتى ليبلغ في تمسكه بها حدَّ التطرف والعنف.
تُرى هل أحجمت لميا عن مصارحته؟
أتراها كذبت علي حين قالت لي إنها ستصارحه بذلك الأمر الذي كان بيننا؟
لكن لميا لا تكذب. لميا لا تكذب أبداً! ثقتي بها أنها صادقة، محالٌ أن تزعزعها ريبة مني عارضة. حين تقول لي لميا، إنها ستصارحه قبل الاقتران به، فستصارحه بذلك من كل بد. القول من لميا مقرون دائماً بالفعل.
وأشحت بذهني في لمح البرق عن هذا الخاطر السخيف اللامعقول، وجعلت أهيل الذنبَ على حظي العاثر، حظي التاعس الخائب.
بتهالك وإعياء تمتمت:
- أبهذه السرعة؟! مبروك، بالرفاء...
- تبارك الخيانة؟!
- سمر، أرجوك! لميا لم تخني.
- أن تختار عليك هذه اللميا رجلاً آخر، أليس خيانة؟ أنا، أنا أول ما رأيت هذه المخلوقة بصحبتك في جنازة الخال عازار في زيدل، تكوَّن لدي في الحال انطباع عنها أنها ليست من طينتك... أنها لا تليق بك. لقد حاولت بلا جدوى أن أهضم سلوكها وتصرفاتها كرمى لك، ولكن...
- أرجوكِ، لميا فتاة حرة عاقلة، اختارت ولم تخن.
- لا فائدة. ستبرِّئها بالرغم من كل شيء! لا أستغرب ذلك منك، ألم يقل الشاعر: " وعينُ الحبِّ لا تجدُ العيوبا "؟
- هي بريئة بالفعل. والشعراء يقولون كلّ شيء، ولا يقولون شيئاً. يحومون فوق كل معنى، ولا يقعون على معنى.
- فما سر ارتفاع درجة حرارتك إذاً، ما دمت تدعي أنها بريئة؟ ما سر تهالكك في سريرك، ما دمت تدعي أنها ليست السبب؟ قل لي: لماذا لم تنهض اليوم إلى واجبك، إن لم تكن خيانتها لك هي التي حالت دون أن تنهض إليه؟
- سبب ارتفاع حرارتي، إصابتي بالزكام، إصابتي بالأنفلونزا. إصابتي بالزكام أو بها رفعت درجة حرارتي، وحرارتي أوهنت قوتي، ووهن قوتي حال دون قيامي. ألا ترينني مصاباً بالزكام حقاً أو بالأنفلونزا؟ وبعدُ، إنك إن كنت ترين أن لميا لا تليق بي، فلماذا أنت واجدةٌ عليها إذ اختارت شخصاً آخر سواي؟
- لست واجدة عليها، بل أنا مبسوطة لأنها اختارت رجلاً آخر سواك، وابتعدت عنك. أن تبتعد عنك مخلوقة ليست من طينتك.. ليست من طينة ابن خالتي، لهو مما يسرني جداً. ولكني زعلانة عليك أنت؛ لأنك تحبها. إن حبك لها هو السبب في ارتفاع حرارتك، وسيكون سبباً في انقطاعك عن الدرس، وعن واجباتك الأخرى. هذه هي الحقيقة، فلا تحاول أيها المكّار أن تقنعني بعكس ذلك.
كان شقَّ عليَّ وقتئذ بسبب أنفتي الزائفة تلك أن ألقي عن كاهلي عبء السر، عبء سري.. أن أعترف لسمر التي كان تشخيصها لحالتي تشخيصاً صائباً سليماًب مئة بالمئة، أنَّ جالبَ الحمى، ليس نفحة البرد. وإنما هو قلبي الذي كَلَمه صدُّ لميا أبلغ الكَلْم. ولأن الاعتراف بذلك كان شاقاً عليّ، لجأت إلى الحيلة إلى المكر عسى أن أحيد بسمر عن حقيقة ما كان بي، عسى أن أشغلها عن ذاك الذي كان بي بأمر آخر يلهيها عني، قلت لها:
- أنت لم تجربي الحب وشجونه، فمن أين لك أن الحب في مثل حالتي يكون سبباً في ارتفاع حرارة البدن؟
غير أنها تساءلت، وقد تكشفت لها تفاهةُ قولي:
- أبخوض التجربة وحسب، يعلم المرء ذلك؟ ألا توجد مصادر أخرى للمعرفة؟
وإذ لم يكن في وسعي أن أجيب عن تساؤلها إجابة منطقية تنقض محتواه وتفرغه من الفائدة، عمدتُ إلى حيلة عملية مادية توسلت بها أن تنقذني من ضغط قبضتها عليّ، كما كنت أفعل ذلك مع لميا في مواقف مشابهة لهذا الموقف.. كان عليّ أن أعثر بأي ثمن، بأية طريقة، ولو بالخداع والغش، على منفذ للهروب من الاعتراف لها بالحقيقة.
تناولتُ الكيس المجمّد الذي كانت أمي أحضرته لي - ولم يكن فقد برودته بعد - لأضعه على جبيني الملتهب. وأنا أعالج وضع الكيس على جبيني بجهدٍ وتحامل، سمحت لأنّةٍ ضعيفة أن تخرج من لهاتي إلى أذنيها، فإذا بسمر وقد سمعت أنَّتي، تهبُّ - كما أمّلتُ - من مكانها لتساعدني في وضع الكيس على جبيني على النحو الذي ينبغي له بتقديرها وخبرتها أن يوضع.
فتنفَّستُ الصعداء! لقد نجحت حيلتي، وها قلبها يرق لي من بعد أن قسا، ولا بد لها الآن من أن تخفف ضغط قبضتها عليّ.
أحكمت سمر وضع كيس الجليد على جبيني، ثم ابتعدت عني فجأة. اتجهت نحو الباب بلهوجة المغيث فاجأه انهيار المغاث الذي كان قبل انهياره بين يديه على شيء من التماسك. ولكني إذ تحقق لي العثورُ على منفذ للنجاة، لم أغمض عيني وأتنهد ارتياحاً أنْ عثرتُ على منفذ للنجاة، للهروب من الاعتراف لها بحقيقة مشاعري، كما كان يتعين علي أن أفعل في هذا الموقف الذي يفرض علي ذلك بمنطقه فرضاً، بل رحت أرصد حركاتها بعين يقظى، ووعي مشرق ما استطاعت الحمى رغم اتقادها أن تذهب إشراقَه، من غير أن أعلم السبب الدافع إلى مثل هذا الرصد.
رأيت سمر تمدّ ذراعها إلى أكرة الباب، تضع قبضتها عليها، لكنها قبل أن تدير الأكرة، وتفتح الباب لتندفع منه في هيئة المقتحم، تلتفت إليَّ بوجهٍ قد شعّ بمعان مسحت آخر ما تبقى على وجهها من آثار قسوتها، لتخاطبني بصوت رخّمته الشفقة:
- انتظر، لا عليك! سآتيك بكيس جديد، وبكأس من عصير الليمون. سأعصر لك الليمون. الليمون في مثل حالتك أحسن الدواء.



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإلحاد والتطرف
- إفسادُ منطق الإمكان
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 6
- أخطأ الرئيسُ ماكرون
- دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 5
- دوّامة النهر الكبير 4
- الواجب الوجود بغيره
- فذلكة فلسفية لأطروحة ماركس الحادية عشرة
- دوّامةُ النهر الكبير (3)
- دوَّامةُ النهر الكبير (2)
- دوّامةُ النهر الكبير
- الرسالات السماوية
- صيغة التنزيه، برهان الطعن في المنزَّه
- نحن لا نخلق المعنى
- في حقيقة أن الأشياء تتغير ولا تتغير
- محاورة النرجسي
- وقول النصارى إله يضام
- الردُّ على ابن حزم في مسألة تحريف الكتاب المقدس
- مأزق العلمانية
- ما بين الدين والأفيون من ضروب التشابه


المزيد.....




- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 7