أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوّامة النهر الكبير 4















المزيد.....

دوّامة النهر الكبير 4


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 6648 - 2020 / 8 / 16 - 15:02
المحور: الادب والفن
    


وهكذا… فلو أن كاتباً عرض له أن يصوغ حكايتي مع (لميا) في قالب روائي، فإنه حينئذٍ لن يقترف – في مذهبي واعتقادي - أمراً منافياً للمنطق أو لطبيعة الأشياء، إذا ما تخيَّلني بعد هجرها إياي مدنفاً، متهالكاً، قد رقّده جهدُ مكابدة الهجر على فراش من الشوك والقضض؛ إذ ما من قلب لا يدنِّفه هجر الحبيب كيفما يكن هجرُه.
ولن يكون صنيع هذا الكاتب، وهو يصوِّر لقارئه ما تخيَّله من شأني، وأنا متلبّس بتلك الحال، إلا شبيهاً بصنيعه وهو يصف له كيف أنَّ حجراً إذا سقط في ماءٍ راكد؛ فلا بدَّ لهذا الماء الراكد عند وقوع ذا الحدث من أن يضطرب بتأثير سقوط الحجر فيه... من أن يهتزَّ، من أن يموجَ سطحُه موجاناً بعد أن كان هادئاً مستوياً كسطح المرآة.
ولا جرم فهذه طبيعة الماء الراكد؛ طبيعتُه التي لا يكون الماء الراكد هو هو إلا بها. إنها طبيعتُه التي تقسره قسراً ما له عنه من مذهب، على أن يضطرب ويهتز ويموجَ كلما وقع فيه حجر، أو شيءٌ ما آخرُ يماثل الحجر في ثقله وصلابته.
إن حال المحبِّ، وقد سكن منه القلب إلى حبِّه واطمأنَّ، لشبيهٌ بحال الماء الراكد. فإن سقط الهجر على قلب المحب الساكن المطمئن إلى حبِّه، كان الهجر منه بمنزلة الحجر من الماء الراكد، وكانت آثارُ هذا الحجر في الماء الراكد، جملةَ الآلام الفظيعة التي يحدثها الهجرُ عادة في نفس المحب الهجير، حتى أن الهجير، وقد اشتدت عليه آلام الهجر، ربما لقي حتفه من جرائها. ولا أدلّ على ذلك من مثال الفتى فيرتر عاشق شارلوتِه التي تزوجت رجلاً آخر غيره، ومثال المجنون مجنونِ ليلى العامرية التي تزوجت مثل شارلوته برجل آخر غير عشيقها قيس. فإنهما – وهذا من القصص المسموع به حتى من القاصي - لم يحتملا آلام الهجران، لا من فرط حساسيتهما وحسب، بل من ثقلها المرهق الَّلايطاق أيضاً، فانتحرا: الأول بغدَّارة، والثاني بالجنون، أو بالهيام على وجهه كالمجنون في الفيافي والديار، على نحو ما ورد في سيرته من الأخبار.
وقد يلقى الهجير الملوَّع المدنف حتفَه، إن لم يسرع إليه الأطباء بالعلاج الفوري، في حالة غريبة نادرة يسميها الأطباء المتخصصون متلازمةَ القلب المكسور. وقد عُني هؤلاء الأطباء بها في السنوات التي خلت، واهتموا بنشر أبحاث طبية مبسطة ذات صبغة علمية عنها، وعن كيفية معالجتها في مجلة (الطب الميسر للجميع) باللغة الفرنسية. وكنت اطلعت على ما بحثوه من أمرها قبل أن تهجرني لميا. بيد أن المصاب بداء متلازمة القلب المكسور، بحسب ما أكده أولئك الأطباء في حديثهم المنشور عنه في تلك المجلة الفرنسية الرصينة، قابلٌ للعلاج وللشفاء التام، تماماً مثلما هي قابلة للمعالجة والشفاء، أمراضُ القلب والشرايين التاجية.
وما أعجبُ إلا من هؤلاء المولعين بالمقارنات بين آداب العرب وآداب الأمم الغربية؛ إذ أراهم قد غفلوا عن هذا التشابه بين حكايتي الفتى فيرتر ومجنون ليلى، متسائلاً في دهشة وريبة: كيف غفلوا عن هذا التشابه، وهو يصلح - لو كانوا نظروه - لأن يكون لهم دليلاً لا يخترقه الماء على تأثر يوهان فولجانج جوته أديبِ الأمة الألمانية بحكاية قيس بن الملوح وليلاه العامرية؛ بنحو ما تأثر دانتي أليجيري الإيطالي في كوميدياه الإلهية برسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وذلك بحسب رأيهم الذي يوشك أن يكون قاطعاً لديهم بالرغم من أن سفر أخنوخ، كان بلا شك بين يدي دانتي وقتما كان دانتي ينشئ كوميدياه، بل وقتما فكر دانتي فهمَّ بإنشائها. وسفر أخنوخ – لمن يجهل أمره وفحواه- سفر قديم.. سفر أقدم من رسالة الغفران للمعري، وأقدم أيضاً من كل ما أشبه رسالةَ الغفران من الآثار المتخيلة في ثقافتهم !؟
فلو قد صحّ أن دانتي في كوميدياه الإلهية تأثر كاتباً ما أو عملاًسابقاً لكوميدياه من أعمال سواه؛ لكان تأثّرُه بسفر أخنوخ أولى من تأثره برسالة الغفران للمعري. ولكنتُ أجزم، وأنا جالس هنا على هذه الصخرة في هذا المكان الذي كأنه مسحور قد سحره ساحر شرير، وفي هذه اللحظة التي ما فارق عقربها بعدُ موضعَه، بأن رسالة الغفران ما استلهمت مادتها الأولى، ولا استعارت إطارها الفني العام إلا من سفر أخنوخ، لولا أنني على دراية وثقة غير منقوصة، بأن البشر كلَّ البشر يتمتعون بميزة خاصة بهم، قلّ نظيرها لدى غيرهم من الكائنات الحية، وهي ميزة يمكن أن يُصطلح على تعريفها لفظاً بوحدة العقل والشعور.
وليس يشقُّ عليَّ أن أوضح حقيقة هذا المصطلح (وحدة العقل والشعور) إن شكا أحد من غموضه. فقد أقول في توضيحه متمثّلاً: إن عقلي وشعوري، وعقلَ وشعور إنسان آخر يعيش في صحراء مترامية الأطراف حمراءَ من قارة استراليا، أو يعيش في أدغال أفريقيا، أو في غابات الأمازون الممطرة، هما شيء واحدٌ، وإن تباين الاثنان في بعض التفاصيل التي يتباين بها عادة هذا البشر أو ذاك عني بمقتضى بيئته ونشأته ودرجة ثقافته، كمثل أن تتباين يَدُ الاسترالي الأصلي ويدي. فإن يدي ويده - وإن تباينتا عن بعضهما في شكل تكوينهما وصورتهما الخارجية - لشيء واحد، كالحب الذي هو شيء واحد في قلبه، وفي قلبي.
وقد أضيف إلى تلك الوحدة الإنسانية (وحدةَ المفجوعين) التي تخطر على بالي الآن ومثالها القريب أنا وأصحابي... فأنا وأصحابي، توحدنا الآن فاجعة الغرق المريعة المزعزعة حتى أنني لأحس إحساساً غير خامل بأننا جميعاً شخص واحد تجول في خاطره فكرة واحدة؛ أو بأننا شخص واحد يفكر بموضوع واحد ذي بعد واتجاه واحد، ويعاني حالة نفسية واحدة، وله مظهر واحد يجسد هذه الفكرة، وتلك الحالة النفسية. ولا أحسب أنني سأكون أحدس قولاً على عواهنه إن أنا زدت على ذلك فقلت: إن كلّ واحد من أصحابي الغارقين مثلي في يمّ فاجعتنا، ليحسُّ ما أحسُّه أنا، وليشعر بما أشعر به أنا، بل لعله يفكر بما أفكر به أيضاً!
ولأنَّ هذه الوحدة - وحدة البشر - حقيقةٌ تترجمها الأحوال النفسية للبشر، فلا محالة أن تستدعي السؤال التالي: من أين تنبع هذه الحقيقة؟ ما هو مصدرها على وجه التحقيق؟ أهو الأصلُ الواحد يا هل ترى، أو هو التكوين البيولوجي الفيزيولوجي الواحد بتعبير آخر؟
في نظري أن المرء - وقد طُرح عليه السؤال - لن يجد جواباً عليه أصدق من جوابه: إنَّه …
وإنه لجواب صادق بلا مراء!
وإنه ليستمد صدقه من قدرته على تفسير مسألة غاية في الأهمية تفسيراً علمياً: لماذا البشر، على تنوع أعراقهم وألوانهم وتباعد أوطانهم واختلاف أزمنتهم، يشتركون في إنتاج عقائد وأساطير متشابهة كل التشابه أو بعض التشابه: من نحو اشتراكهم في الاعتقاد بوجود خالق للكون، ومن نحو اشتراكهم في الاعتقاد بنهاية العالم، ومن نحو اعتقادهم بأن كائنات عاقلة عجيبة أو آلهة هبطت عليهم من كوكب ما يقطن بعيداً بعيداً في أعماق الكون الرحيب، أو جاءتهم من باطن الأرض من العالم السفلي، وفجّرت وعيهم كما فجرت من الصخر نبعاً عصا النبي موسى، ومن نحو اشتراكهم في العمران، وبناء الأبراج الشاهقة، والأهرامات الشامخة.
كما يستمد صدقه أيضاً من قدرته على تفسير بعض الظواهر الأدبية المعروفة كظاهرة وقوع أديبين من أمثال أبي العلاء المعري ودانتي - وقد نوَّه ذهني بهما في تداعياته قبل قليل - على معنى واحد، ولفظ واحد، وإطار فني واحد، وعلى صورة فنية خيالية واحدة، تفسيراً أكثر إقناعاً من تفسير الظاهرة بتهمة الإغارة والّسَّرَق.
وقد لا يكون الأديبان - وقد وقعا على هذا الذي اشتركا فيه - سبق لهما أن التقيا: لا في المكان، ولا في الزمان، ولا في اللسان. فأما إن كانا التقيا في الزمان والمكان واللسان، فلن يكون ذلك مع ذلك دليلاً لا يُطعن فيه، على أن أحدهما قد سطا على عمل الآخر وعلى جهده، وأخذهما منه غنيمة.
ولكم آسف على أنّ أكثر هؤلاء المولعين بالمقارنات من الباحثين العرب المستعربة، لا يستفزُّهم إلى البحث في هذا المضمار شغفُ المعرفة لذاتها، ولا حبُّ الحقيقة المجردة عن المنفعة الخاصة، وإنما الفخر بأن أسلافهم، كانوا هم الذين سبقوا إلى كل معنى واختراع. والعرب المستعربة إذ يفخرون، فإنهم يغالون في فخرهم مغالاة ممقوتة حتى ليصدق فيهم قولُ شانئهم: قومٌ لا يستهويهم شيءٌ قدر ما يستهويهم أن يثبتوا لذواتهم – وقد يكون هذا لنقص معنوي فيهم - قبل أن يثبتوا للآخرين بمنهجٍ غالباً ما يتعسف الأمورَ على ما يتوافق مع أهوائهم القومية المتصلبة والزائفة معاً؛ أنَّ الأمم الغربية مدينةٌ لهم بالفضل، والشكر، والامتنان.
ألا ما أسخف اعتقادهم بفكرة أن أمم الغرب، ما رقيت كلَّ هذا الرقيّ إلا من بعد أن أخذت علمها عن أسلافهم الذين هم في وهمهم خير أسلاف البشر كافة، وإلا من بعد أن استلهمت هذه الأمم الحكمةَ والفلسفة منهم أي من أسلافهم هؤلاء الذين قد أنعم الله عليهم برسالة خالدة مخلدة وضنَّ بها على سائر خلقه، وإلا من بعد أن جَنَت أمم الغرب كلها من رياض آدابهم ما جنته من مجاني آدابها اليانعة.
ولكنْ من هم أسلاف هؤلاء المستعربة؟
... الأقباطِ في مصر؟
... الآشوريين والكلدانيين في العراق؟
من هم أسلاف الموارنة السريان، ومن بقي من الروم في بلاد الشام خاصة؟
من هم أسلاف هؤلاء الذين دخلوا في دين العرب بالأمس البعيد من ساكني هذه الأمصار؟ من هم هؤلاء الذين دخلوا فيه بالأمس القريب منهم؟
لا يمارى في أنَّ المستعربة لا يفخرون بأرومتهم، بأثْلَتهم، بأصلهم، وإنما بأصلٍ لا يخجلون من الادعاء إليه. ومن أبى منهم إلا أن يطعن على صحة رأيي هذا بغية إفساده؛ فليُشهدِ التاريخَ والجغرافيا على فساده، أو فليجرِ فحصاً في المختبرات لجيناته، إن أراد أن يستوثق من صحة انتمائه إلى السلف المفتخر به من قبله. إنَّ فحص الجينات، أحسن وآكد وأشدّ وَثاقةً من التاريخ وأقوى؛ لأنَّ التاريخ سجل مكتوب بأيدٍ… سجل يضم وقائع لا تسلم من أن تُنتَحل، ومن أن تعبث بها أهواءُ المؤرخين.
من حسن حظي، أنْ لا أحد من هؤلاء المستعربة المتحزبين ذوي الأصل المختلَق المزيف يملك القدرة على أن يقرأ ما يحوم في ذهني من أفكار؛ وإلا كنت أمسيتُ - وأنا المستضعف الذي تحت رحمتهم - في خبر كان، كما أمسى في خبرها كلُّ مَن جاهر بمعارضته لآرائهم، وكلُّ من حاول أن يدفع عن نفسه أضاليلَهم بعناد الأشداء ذوي الشكيمة، وكلُّ من أبت كرامته أن يهجر أصوله على رغم أنفه، أو يهجرها على إطماعٍ بمغنم.
ويا لحكمة الطبيعة! إن جاز وصف الطبيعة بالحكمة، فلولا أنها حالت دون أن يتمكن البشر من قراءة ما يجول من أفكار صامتة خرساء في أرؤس غيرهم من البشر؛ لأهلك البشر بعضهم بعضاً !
ثم ما عسى أن يكون جواب هؤلاء المستعربة، إنْ قيل لهم: لماذا، وأنتم أبناؤهم وأحفادهم وورثتهم الشرعيون على ما تزعمون، تأخرتم عن أمم الغرب في الأخذ عن أسلافكم مداميكَ الحضارة الحديثة، ما دام الرقيُّ في مرقاة الحضارة الحديثة منوطٌ لديكم بالأخذ عن أسلافكم؟
هل لهم يا هل ترى أن يجيبوا عن السؤال بصراحة وأمانة ودقة من غير أن يراوغوا، وأن يخدعوا سامعيهم بألفاظهم الملتوية؟
من ذا الذي سيملك منهم أن يجيب عنه بجواب متروٍ ترتضيه عقول العقلاء؟
لا أخال أحداً منهم يملك أو سيملك أن يجيب عليه جواباً صادقاً. ولست أستثني منهم أحداً حتى صديقي ميخا! صديقي ميخا – مع الأسف – هو واحد من هؤلاء المستعربة! هو مثلهم لا يملك غير أن يراوغ حين يجيب عن سؤالي المحرج الفاضح هذا.
فماذا كان جوابه عندما ألقيت عليه بسؤالي؟
لقد اختلق ميخا للسؤال جواباً مضحكاً. هذا ما كان منه! زعم ميخا أنَّ افتقار بلدان المستعربة إلى مصادر مياه ثرَّة، هو السبب في تأخرهم.
من دأب ميخا أن يتصدى لكل سؤال محرج يدفقه عقلي على دماغه، ويغترضُ أن يفضح حقيقة المستعربين مثلما يفضح الصبح بُهمة ليل بلا قمر. ولكنه أبداً ما استطاع بعقله المبرمج على النطق بترهات حزبه، أن يأتي بجواب منطقي سليم، ملزم للعاقل، مفحم للمعترض المغترض.
ولكن الذي بين صاحبي ميخا (ميخائيل كْفَرْزي) وبيني، رغم اختلافنا في كثير من الرأي، صداقة جميلة قد أحكمت الأيام علائقها، حتى سمت فوق ولائه الأعمى لحزبه الموحى إليه بالرسالة الخالدة. وأنا إنما من نعمة هذه الصداقة الصادقة النبيلة الفريدة، سأستمد الجرأة على مكاشفته بآرائي المضادة لآرائه، ولسياسة حزبه الحاكم القاهر. وإني، وأنا في أثناء مكاشفتي إياه بآرائي، لآمنٌ لا أخشى على كياني خطراً من جانبه أيَّ خطر. أنا الذي كانت حلية الجرأة انتُزعت منه قهراً مذ كان غلاماً فتياً يلهو في حضن اليفاعة، حضنِ الصبا.. وأنا الذي ما زال جأشه خاوياً منها إلى اليوم خواءً يخز مشاعره بالتبكيت والذل والعار والمهانة، قد كان موافقاً لطبيعتي المكتسبة؛ بل كان موافقاً لقبح جبني المُزدرَى بلفظٍ أصدق، ألا تتحقق مكاشفتي إياه بآرائي المضادة لآرائه، إلا في أوقات يجمعنا فيها ركنٌ منزوٍ، وليس بالقرب منا مَنْ له أذنان كأذني الخرتيت للسمع مرهفتان.
ميخا هذا الذي أراه ما برح إلى اللحظة يشطأ واجماً مهموماً حائراً على حافة النهر ذهاباً وإياباً في انتظار أن يلفظ النهر جثةَ صديقنا الغريق آرام، هو مدرس مادة التربية القومية، وهو إداري موجِّه للتلاميذ في مدرستنا (ثانوية العروبة) أضخم مدارس مدينة القامشلي، بل أضخمِ مدارس محافظة الحسكة.
والقامشلي - لمن لا يعرفها - مدينة صغيرة نائية ولكنها الأكبر بين مدن محافظة الحسكة. تبعد عن حلب مسافة طويلة لا يقطعها القطار بأقلَّ من خمس ساعات. إنها المدينة التي إليها وجب أن أنتقل من مكان إقامتي الدائم في حلب بعد ثلاثة أسابيع من صدور قرار تعييني مدرساً للغة الفرنسية في مدارسها. وكنت قبل ذلك أدّيت واجبي في خدمة العلم، ونجحت في مسابقة انتقاء المدرسين التي أجرتها وزارة التربية في صيف عام1989 أي بعد مضيّ سنة وتسعة أشهر على تسريحي من الخدمة الإلزامية.
مما استقر في ذاكرتي، ويعودني كلما حضرت مناسبة تحرضه على أن يعودني، نتفٌ من حديث لي مع ميخا في إحدى جلساتنا المنزوية. كان ذلك في ليلة ذات قَرّ من ليالي القامشلي وقد هيمن الشتاء الفظيع على كل عراصها. هاتفتني شاميرام زوجة ميخا قبل حلول الظلمة في ساعة من ذلك اليوم كنت فيها منهمكاً بتصحيح اختبار لتلاميذ الصف العاشر. ألحت شاميرام في دعوتي إلى العشاء، لجّت في الإلحاح كثيراً حتى لم تدع لي حجة واحدة تمكنني من التملص من دعوتها. شاميرام التي ما إن مضى أشهر على تعارفنا حتى صارت لي أختاً لم تلدها أمي، والتي ستصير إشبينة لزوجتي فيما بعد؛ باتت شبه عادة لديها أن تدعوني للعشاء، كلما صنعت وجبة ثقيلة من الوجبات التي تظن أن عازباً وحيداً مثلي بلا أهل، ليس في وسعه أن يطهو مثلها.
بدأت المناقشة بيني وبين ميخا ونحن لم نبرح بعد مائدةَ العشاء في المطبخ. أذكر أنني اندفعت في النقاش - وأنا مؤجَّجٌ من حميَّا الخمر – فجعلت أسخر بمرارة من نزعته القومية المستحدثة، ولم تك تلك هي المرة الأولى التي أسخر فيها من نزعته بمرارة، قلت :
- ألعله، مثلاً، من قوة شعور أهل حمص بكرامتهم، أنهم سمّوا مدينتهم باسم قاهر لها أوقع في أهلها أشنع الوقائع؟ ألعله من قوة شعورهم بالغلبة وفرحتهم بها، أنهم حفروا اسمه منغَّماً بالصنج موقعاً بالتمجيد والحماسة في نشيدنا الوطني؟ ما الدافع الذي يدفع في رأيك مغلوباً انتُهكَت كرامتُه بالغلبة إلى تمجيد غالبه، وارتداء زيّه، ثم الادعاء إليه؟
فرأيت ميخا عقب أن أنهيت قولي ينحني بصدره على المائدة العامرة التي كانت تفصل بيننا كأنما من وطأة السؤال، لا من رغبة منه في رفع شيء من الطعام إلى فمه، ويشرع في دحض قولي:
- لكل إنسان الحق في أن يختار قوميته.. لكل إنسان الحق في أن يتسمَّى إلى من أحب من الأقوام. القومية ليست دماً، القومية ليست عرقاً. القومية يا عزيزي ثقافة يختارها الإنسان لنفسه بمحض إرادته. فلماذا إذاً يكون الانتساب إليها ممّا يشين؟
فأرد عليه بشيء من الانفعال:
- إن كنتم ترون أنه من حق الإنسان أن يختار قوميته، فلماذا تضطهدون من اختار ألَّا يختار قوميتكم المختارة؟ أما كنتم تنددون بسياسة التتريك؟ أما ثرتم على الأتراك وساندتم الانجليز لأنهم حاولوا أن يجعلوكم أتراكاً؟ ولكنكم بعد أن تحررتم، صرتم تنهجون نهج الأتراك المستبدين، فترغمون السوريين من غير العرب بأساليبكم المعروفة على أن يتعرَّبوا.
بلهجة زانها الوقار رد ميخا وهو يترع كأسه الذي لم يكن فرغ بعد من الشراب، لاحظت حركة ذراعه وهي تمتد لتملأ الكأس.. كانت حركة بطيئة فاترة وكأني به أمل أن تمنحه تلك الحركةُ البطيئة في الزمان وقتاً كافياً لتخير رد متأن يكون مفحماً لي:
- لخير الوطن أن ينتمي جميع المواطنين إلى ثقافة واحدة أعني إلى قومية واحدة؛ كيلا يصطرعوا...
فأعاند رأيه مقاطعاً: لا يصطرع مواطنو دولة واحدة عندما تسوسهم العدالة بلا تمييز...
ثم أتابع بلهجتي الساخنة بعد كلام كثير سمح لي بالتلفظ به دون مقاطعة، سائلاً إياه:
- الوطن أم المواطن؟ لخير أي منهما يجب أن يكون كل شيء؟
فيجيب بتلقائية كأنما صنعتها له آلة: كل شيء للوطن.
وأنفجر ضاحكاً من تلقائيته، ثم أقول في استنكار:
- وما الوطن بلا مواطن؟
وإذا به يرد متحدياً: بل ما المواطن بلا وطن!
وفي لمح البصر أسترجع جدلية الوطن والمواطن. كم من مرة عالج كلانا جدلية الوطن والمواطن؟ كم مرة اشتبكنا حولها؟ وماذا كانت النتيجة؟ لا نتيجة! وأحسم أمري معه. أقول له بجدية مفرطة:
- إنه لخير الوطن أن تتنوع فيه الثقافات والانتماءات، وأن يزول منه الإكراه والاستبداد والقمع.
فيقهر وجهَه على الابتسام، وهو يضع كأسه أمامه على المائدة وقد رشف منه جلَّه:
- لك رأيك يا عزيزي، ولكنه ليس بالتأكيد الرأي الصائب.
أفاجئه بسؤالي:
- وما هو معيار الرأي الصائب؟
يرد ميخا ضاحكاً بعد ابتسام مموهاً بالضحك عجزه:
- هو أن تكون عضواً عاملاً فعّالاً في حزبنا.
وسمعتْ شاميرام جملة زوجها الأخيرة، وهي تدخل المطبخ حاملة بين ذراعيها رضيعتها (ساندرا) التي كانت أطلقت صرخاتها الجائعة فاضطرتها إلى الذهاب إليها في غرفة النوم لإرضاعها، فعلقت عليها بمرحها المعهود:
- إلا الانتساب إلى حزبكم! فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟
……….



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الواجب الوجود بغيره
- فذلكة فلسفية لأطروحة ماركس الحادية عشرة
- دوّامةُ النهر الكبير (3)
- دوَّامةُ النهر الكبير (2)
- دوّامةُ النهر الكبير
- الرسالات السماوية
- صيغة التنزيه، برهان الطعن في المنزَّه
- نحن لا نخلق المعنى
- في حقيقة أن الأشياء تتغير ولا تتغير
- محاورة النرجسي
- وقول النصارى إله يضام
- الردُّ على ابن حزم في مسألة تحريف الكتاب المقدس
- مأزق العلمانية
- ما بين الدين والأفيون من ضروب التشابه
- حقيقة ما جرى في قرية الفردوس
- مشكلة المعرفة لدى ايدن حسين. (دحض المثالية)
- ياء ميم، ياء ميم الست مريم وصاحبها كريم
- خالق الموجودات
- مارس وفينوس
- حَدُّ المادة وأصلها


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوّامة النهر الكبير 4