أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 5















المزيد.....



دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 5


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 6727 - 2020 / 11 / 8 - 16:49
المحور: الادب والفن
    


غير أنَّ هذا الذي قد كان رفّ في ذهني من مَثَل الماء الراكد والحجر، في ما تقضَّى من لحيظاتي، ليس كلَّ شيء. ليس هو كالتخم الذي ينتهي لدى بلوغه المسارُ، ولا هو كالغاية التي إذا تحققت لصاحبها بعد سعي إليها منه ملحاح؛ جلس واستراح. ثمة شيء آخر في المثل، ثمة معنى – إن شئت الدقة – معنى ثان، معنى لا يحسبه ذهني الذي لا يرتاح ولا يريح، إلا جديراً بالتلميح، بالرغم من أنه معنى طافٍ على السطح، ظاهرٌ كالصُوّةِ المرفوعة على طريق دولي بأحرف كبيرة نصع خطُّها كما نصع لونها، حتى بات من رابع المستحيلات أن تخطئها عينُ سائق، ولو عمشت.
منذا الذي يجهل أن كل شيء مما له بداية، سيمضي - لامحالة - إلى النهاية، إلا الأطفال الصغار الذين ما نبتت أسنانهم بعد؟
لا أحد!
إذن فإن علمنا بحقيقة أنَّ كلّ شيء مما له بداية سيمضي إلى النهاية، لا يجعل هذه الحقيقةَ غيرَ جديرة بالتلميح، أو غير جديرة بأن يستحضر المرءُ ذكرها عند الاقتضاء بحجة أنها حقيقة بيّنة بديهية تافهة كالهباءة.
قد يروق لمن اعتاد عقله على فلسفة كل ما يجبَهُهُ من شؤون الحياة والإنسان، ومن أحوال الطبيعة، وظواهرها المتعددة، أن يلحظ في هذا المعنى الواضح، الطافي على سطح المثل، مدلولاً رزيناً يصلح لأن يكون – في معاييره الخاصة - بمثابة البرهان على صحة رأيه الزاعم إن المحسوس (الماء والحجر) واللا محسوس (الحب وآلام الهجر) متماثلان في أصل تكوينهما، لا يتميز أحدهما عن الآخر بطبيعة وجوده - ولا عبرة هنا في تميز أحدهما عن الآخر بصورته أو شكله - حتى لكأن الاثنين على اثنينيتهما واختلاف صورتهما، شيءٌ واحد ينتهج خطَّ سير واحد أيضاً من بدايته إلى نهايته. ولا أدلَّ على ذلك عنده من أنَّ كليهما؛ أي المحسوس واللا محسوس، الذاتَ والمعنى المجرَّدَ، يتخلَّقان كما يتخلَّق الجنين داخل الرحم من تفاعل مواد كوننا بعضها مع بعضها الآخر. فلمّا كان الحب - وهو لامحسوس - يتخلَّق من تفاعلات كيميائية لعناصر مادية كالهرمونات وما شاكلها داخل جسد المحب بنحو ما يتخلّق الماء والحجر داخل رحم الطبيعة من تفاعلات تجري فيها بين عناصر مادية كالهيدروجين والهيليوم والكربون وغيرها مما له خواصُّ التآلف؛ والقدرة على الامتزاج، فالتخليق والتكوين، ولمَّا كانت – زد على ذلك - كلُّ هذه العناصر المادية التي يتخلق منها الاثنان، ناتجةً عن انفجار نجم هائل يدعونه السوبرنوفا، فكيف لا يكون الاثنان – في منطقه - متماثلين إذاً؟
أما أنا، أنا الذي عمد ذهنُه في هذا اليوم الناحس الأيْوَمِ، وفي هذا المكان المحفوف بالرهبة، والأوجاع الناتئة الصارخة، إلى المشابهة فعقدها بين الماء الراكد والحجر من جهة، وبين القلب الذي سكن شغافَه حبُّ الحبيب الهاجر من جهة ثانية، فلا يروق لي أن ألحظ فيه مثلَ هذا المعنى الفلسفيَّ الرصين الرزين الغائر بعيداً كالماء في باطن الأرض؛ بل لا أملك - وقد أنهك ذهني النحسُ - أن أكون مؤهلاً لأن ألحظ فيه أيَّ معنى من المعاني، ما خلا المعنى الظاهر الطفيفَ، المتبادر إلى الذهن والنظر بلا جهد ولا تفكير، والذي يشفُّ عنه وجهُ الشبه بين تموّجات الماء التي أحدثها الحجر، وبين آلام الحب التي أحدثها الهجر، كما يشفُّ الماء النقيُّ عن الحصى.
وأيّ معنى في المثل له أن يشفَّ عنه وجهُ الشبه بين المشبه والمشبه به بأصفى، وأوضح، وأنقى من معنى التلاشي، معنى الزوال، معنى الاضمحلال؟
فإن الماء الراكد، حين يسقط فيه الحجر، يضطرب.. يتموَّج. لكن تموّجَه لا يبقى حبيساً داخل الإطار الدائري الضيق المحدود للنقطة التي سقط فيها الحجر؛ بل يجاوز محيط تلك النقطة التي سقط فيها الحجر فيمتد، فينبسط، فينداح. ولا يعتم عن الانبساط، والامتداد، والاندياح حتى يتلاشى. فيركد الماء من جديد، إذ يتلاشى، كما كان راكداً قبل إلقاء الحجر فيه.
كذا آلامُ المحب المهجور! إنها كمثل هذا الموج الناشئ عن سقوط الحجر، لن تلبث أن تمتدَّ، وتنداح حتى تصل إلى نهايتها المحتومة المرسومة؛ أي إلى التلاشي، إلى الاضمحلال، إلى الزوال من بعد أن كانت تلك الآلام، اصطخبت اصطخاباً عنيفاً كحريق غابة جافة في قَرارة المحب الهجير... في سويداء مهجته حيث سقط حجر الهجران.
وأن تنداح آلامُ المحب المهجور كما تنداح دوائر الماء المتموجة شيئاً فشيئاً حتى تبلغ تلك الآلام حدّها الأقصى الأخير فتخمد عنده وتتلاشى؛ لا محالةَ حاصلٌ، حتى لو رقد عليها الزمان، وطال رَقْدُه عليها. إنَّ ذا قدر آلام الهجر – إن جاز التعبير - ومصيرُها المحتوم، ما لم يتحطَّم الهجير المثقل قلبُه بحملها قبل اندياحها، كما تحطم مجنون ليلى في حكايات العرب، وكما تحطم الفتى فِرتر في قصة يوهان فولفجانج جوته.
فأمَّا ما يرويه الرواة والقصاصون عن محبين لم تبرح آلامُهم تموج، وحسبُ، في حيث سقط الحجر: فلا هي تنتدح، ولا هي تنبسط، ولا هي تتبدد ما عاشوا، بالرغم من أن الهجر كان أسقط حجرَه في مائهم الراكد الهادئ المطمئن، فما ذلك - في عرفي - إلا محضَ اختلاق، ولهو سمرٍ، ومبالغةً مشوقة تترجَّى جذب انتباه السامع إليها، كما يترجى التاجر المحنك الخبير جذب انتباه المستهلك إلى بضاعته بالإعلان عنها بأسلوب جذاب خلاب، وصور موشَّاة بخدع مسلية مؤثرة مثل خدع السينما. أو هو كالتوابل ذوات الفَوْح يطرحها الطاهي في الطعام ليطيّب نكهته، ويحسّن مذاقه.
………...
أتعجب!
وإنما أتعجب ممن لا يزال يؤمن بأن شيئاً مادياً، محسوساً كان هذا الشيء أو لامحسوساً.. شيئاً أيَّ شيء في دنيانا، ولو كان سرعةَ الضوء، يثبت على حاله، لا يتغير! ويفور عجبي منه بمقدار ما يفور غضبي من الغباء، عندما أراه يتنفَّج في خيلاء الديك الرومي وقت سفاده متوهماً أنه من الذين يحسبهم العقلاءُ من العقلاء الدُّنُج.
واللهِ ما أدري!
كيف يكون معدوداً من العقلاء، مَنْ ينكر وجود الزمان ربِّ كل الموجودات المتغيرة المتحولة؟ كيف يكون عاقلاً من ينكر البعد الرابع، وقد أثبتت وجودَه بالبرهان العلمي الذي لا يدحض، نظريةُ آينشتاين النسبية؟! بل كيف يكون عاقلاً من لا يدري أن وجود الزمان، حقيقةٌ جلية لا ينكرها إلا مَنْ ضَعُف عقلُه وأهتر؟
ألا يخزي هذا المتعجَّبَ منه صاحبَ الإيمان، أنه حين يؤمن بثبات الأشياء المادية وغير المادية على حالها، فإنه إنما يؤمن بحصول المحال في الواقع؟
ألا يخزيه بعد ذلك أنَّ مَثَلَه، إذ هو يؤمن بتحقق المحال في الواقع، مَثَلُ الذي يؤمن بأن العطشان منا، في مستطاعه أن يحسو ماءَ المحيط الأُجاج وينتجفَه حتى القاع، حتى آخر قطرة منه؟
ألا يخزيه أنه في هذا، مثْل الذي يؤمن بإمكان أن يقبض أحدُنا بيده من الأرض على نجمٍ معلَّق في السماء، ويخفيه في جيبه؟
ألا يخزيه أنه في هذا، مثلُ الذي يؤمن بإمكان أن يتحقق شروق الشمس في منتصف ليلة من ليالينا النائمة تحت غطاء أسودَ كحَنَك الغراب؟
ألا يخزيه أن يختار السكونَ فلسفةً، والسكونُ محال؟
ألا يخزيه كلُّ هذا الذي يخزي؟!
ربما ظُنَّ بي الجور عليه، ربما اتُهمت بالجور عليه. لكنني في الحقيقة لا أجور عليه ولا بمقدار أصغر جزء من أجزاء الذرَّة. أعترف أنني أنفعل في أحايين، أتحمس لرأيي حماسة المراهق، حماسةً متأججة قد تبلغ بي حد التهور، حدَّ الجور على الرأي المضاد لرأيي، بيد أنني في هذه المرة لا أجور على أحد.
فإني إذ أبيح لنفسي أن تُلدِّد بفلسفته.. بفلسفة السكون والجمود بأسلوب التعجب؛ فلأن فلسفته تفضي، على المدى القريب أو البعيد، إلى نتائج خطيرة، مروعة، سلبية، مدمرة، إذا ما نشبت في العقول الساذجة الضعيفة، وإذا ما تمّ تطبيقها عنوة بإرادة سلطة مسلحة غاشمة مرهوبة، في حياتنا الاجتماعية، والسياسية، والعلمية، والفكرية، والأخلاقية.
كيف لأحدنا أن يعتقد – مثلاً - بأن شريعة حمورابي حقُّ ساكن متعالٍ على الزمان منعتقٌ من سطوة المكان؟ كيف له أن يعتقد بأن شريعة حمورابي في الحقّ المحتاج إليه في تدبير أمور معاشنا، بناءٌ مشيد لا تُحيل صبغةَ أركانه يدُ الزمان؟!
وأنا إذ أصدِّر كلامي ههنا على هذا (الأحدِنا) باسم الاستفهام كَيْفَ، لا أرمي إلى المعنى الظاهر من الاستفهام بكيف؛ أي إلى (نهي، منع) الأحدنا من أن يعتقد بما يشاء، وإلا كنت - أنا الذي يندد في سريرته بالقمع - قامعاً، وإلا كنت كمن ينهى عن الشيء ويأتي مثله. هذا ليس منهجي، ولا هذا مقصدي. إن الأحدَنا حرٌّ في مذهبي. إن شاء أن يعتقد بسكون شريعة حمورابي، فله أن يشاء الاعتقادَ بها. لن يضرَّ الناسَ اعتقادُه بسكون شريعة حمورابي. لكنه لن يكون حراً في مذهبي، إن هو جاهد الناسَ بالسيف الصارم ليلزم الناس غصباً عنهم بالخضوع لشريعته الرثة المتأكّلة الصدئة - وهو أمر قد نهض إليه بالفعل، ويا للأسف! جماعةٌ من المتطرفين قد امتهنوا الجريمةَ والإرهاب في أيامنا السوداء هذه، وأوغلوا في حلكتهما… جماعةٌ ستظل الجبال ما بقيت، تجيب صدى جريمتهم الوحشية المروعة في ضباط مدرسة المدفعية في ضاحية حلب (الراموسة) إلى آخر الزمان - فلا بد حينئذ من تدارك خطر المتطرفين بالتي هي أنجع.
صديقي، صديقنا، اسفيندار جَجُّو مدرس مادة الموسيقى في ثانوية العروبة بالقامشلي، يعضدني بحماسة في كل مرة يهيج فيها نزاع فكري فلسفي في أوقات الفراغ حول هذه القضية القديمة المتجددة، بين بعض الخصيم من زملائنا المدرسين من الذين ما زالوا - لضيق أفقهم - يؤمنون بفكرة السكون بالمعنى الذي سبق له أن توضَّح، وبيني.
وإني إذ أخص بالذكر منهم زميلَنا مدرس اللغة العربية عبد الرحمن مَعْزول؛ فلأنه كان أكثر هؤلاء الخصيم لي مجادلةً، وأشدهم تصلباً، وافتخاراً برأيه. عبد الرحمن في الثامنة والعشرين، يوم عرفته، بلحية قصيرة بلا خضاب، ولسان معدني حاد، وملمح صارم، وتركيب بدني أتقنته العناية المفرطة به، حتى ليبدو لناظره من قريب أو بعيد شبيهاً بالعجل المسمَّن. كرديُّ القومية من أبناء القامشلي لا من أبناء حلب أو حماة، ومع ذلك سيُقبض عليه بتهمة التطرف الديني وهو التطرف الذي اجتاح كالوباء منذ أعوام ثلاثة مدينة حماة، واستشرى استشراء في حلب.
أما ميخا الذي يطيب له كثيراً أن يخاطبه الجميع بلقبه الحزبي (الرفيق) فأكد لنا غير مرة من مصادره الحزبية - وهي ليست في أكثر الأحيان موثوقة - أن عبد الرحمن لم يكن متطرفاً في آرائه الدينية وحسب، بل كان عضواً نشطاً في حزب محظور - وأيُّ الأحزاب في سوريانا لا يشكو من الحظر؟ - يخوض الجهاد المسلح ضد السلطة الحاكمة (بإرادتها لا بإرادة الشعب). ما بين قوسين هو قولي أنا في السلطة، لا قول ميخا. ولأن قولي خطير مهلك، أصونه في صدري، لا أجهر به أمام مَن له أذنان مرهفتان للسمع.
لقد تملكتني الدهشة حين علمت سببَ اعتقال زميلنا المدرس عبد الرحمن معزول، قبل أن يتملكني الخوف المرعد للمفاصل من أن أعتقل أنا أيضاً، ويزجَّ بي كما زُجَّ به في بؤرة الأهوال حيث يجب أن آكل ما لا أشتهي أن آكله، وأصنع ما لا أحب أن أصنعه، وأساكن من أكره أن أساكنه... حيث أنقاد بالرسن لجلواز بصمجيّ حقير، جلوازٍ وضيع ينتزع بالقوة والإكراه من عنقي قلادة أجمل رمز من رموز كرامتي: (حريتي) ويطأ بحافره المنعَّل بالحديد إنسانيتي كما يطأ حشرة ضارة. في بؤرة الأهوال حيث الجبروت يتلف بالقهر والهوان، بالكبت والضجر، بالأشواق الظامئة والأحلام الموءودة كياني برمته قطعة قطعة، وأنا بعد حيٌّ أراه كيف يتفتت كالخبز الناشف بين أصابعه المصنوعة من الفولاذ، وأسمع بأذني شخيب تفتته وعويله قبيل أن يتلف سمعي.
ويغدو قلب أمي من مصابي حطباً بالياً، دماً جافاً، حقلاً من جليد!
أدهشني أن يكون عبد الرحمن - وهو الكردي - بين المتطرفين الدينيين. كنت حتى يوم اعتقاله، أظن التطرف الديني في سوريا، جملةً اعتراضية محصورة بين شَرْطتين، بين وصلتين: أولاهما المستعربة، وثانيتهما العرب. وأظن أن الأكراد، ليس بينهم من يلتفت لغير قضاياه القومية، أو قضايا اليسار والماركسية.
فكان لي من ذلك منفعة فكرية، منطقية، على الرأي الذي أحسن المتنبي صياغته في شعره: "مصائب قوم عند قوم فؤائد“ نفعني أن أتيقن بمثال حي من صحة فكرة أنَّ التطرف الديني لا قومية له؛ لأنه يوجد في كل قوم.
إلا أن حماسة اسفيندار لفكرة التغير، أو للحركة المضادة للسكون، للجمود، ليست عنده وليدةَ رؤية فلسفية متعمقة، أو رؤية علمية شاملة مدروسة. فاسفيندار أزهدنا تفكيراً بقضايا الفلسفة، وبشؤون السياسة. وهو أقلنا اهتماماً بعلوم الطبيعة، ونظريات الكوزمولوجيا الغامضة المعقدة. وإنما مبعثُها لديه - بحسب استنتاجي أنا - اضطرابُ علاقته بزوجته (مديحة) المتسبَّبُ عن إسرافها في غَيرتها عليه إسرافاً تجاوز - وفق منطقه هو - الحدَّ المقبول المعقول من حدود الغيرة.
مديحة زوج صديقنا اسفيندار، امرأةٌ قروية المنشأ، تجمعها بوالدة اسفيندار قرابة دانية، ابنة فلاح متوسط الحال ممتدِّ الجذور في قرية تل شامو التابعة لناحية القحطانية – على فكرة، القحطانية اسم جديد لهذه البلدة، أطلقه المستعربة عليها لعله يمنحها، يمنح سكانها، هويةً جديدة بدلاً من هويتها الأصلية القديمة الحقيقية. مما يصح معه أن يقال حتى أسماء الأماكن لا معدى لها عن أن ينفذ التغيُّرُ إلى صميمها. أما اسمها الحقيقي القديم، فبالسريانية قَبْرِه حِيوُورِه، وبالكردية تربا سبيا، وبعربية سكان المنطقة القبور البيض - وهي؛ أي مديحة على قسط ضحل من التعليم، والثقافة، والاختلاط الاجتماعي. فلا غرو - بلغة ميخا لا بلغتي - إن هي، مع أنّها امرأة لا تنقصها الملاحة ذكية بالفطرة، لم تركن بثقتها إلى زوج مثل اسفيندار جمع في شخصيته أبعاداً فنية جميلة، ومزايا جسدية ونفسية حسنة محبوبة أخصُّها الرشاقة، وخفة الروح والظل.
من الطريف أن ميخا لم يَحِدْ قيد سِمْسِمةٍ عن رأيه في أن شخصية سفيندار بما تتحلى به من صفات جميلة، هي السبب الحقيقي في غيرة مديحة دون سواه من العلل والأسباب، على الرغم من أنه عجز أكثر من مرة عن تفنيد رأيي المناوئ لرأيه.. رأيي المتمنطق بحجة كنت وقت دوران الحديث حول موضوع الغَيرة، أقذفه بها في صيغة استفهام يطلب التفسير، ذي محتوى معكوس، بلهجة أتكلف لها الكياسة وأبتعد بها عن الانفعالات الرخيصة المبتذلة: "فكيف لنا، لو صحت هذه الأسباب، أن نفسر غيرة رجل مثقف، كثيرِ الاختلاط بكل الفئات الاجتماعية، ثريّ ميسور الحال، على زوجته، وزوجته ليس عليها شيءٌ مما يستحبه الرجال في النساء، غيرةً ليس أُوارها، بأرقَّ من أوار غيرة مديحة على اسفيندار؟".
كان اسفيندار يشكو إلينا أنها لا تدع سانحة تمرُّ، إلا وطاردته فيها بشكوكها مطاردة المخابرات السياسية لكل فكرة تعارض النظام، أو مطاردة الشرطي لمجرم هارب في أحد الأفلام البوليسية... يشكو إلينا أن غيرتها قد استفحلت إلى درجة أنها باتت تتوهم أنَّ له علاقة غراميةً بكل فتاة معجبة بصوته تراها في ساحة الرقص تتمشَّى بقامتها الغضة مع أنغام وإيقاعات ما يؤديه من أغنيات راقصة مناسبة لجو حفلات الأعراس الصاخبة - يدهشني من اسفيندار أنه يؤدي أغنياته بالكردية وبالعربية وبالسريانية وبالأرمنية وربما بالتركية، مع أنه لا يلم من هذه اللغات بغير العربية والكردية - من دون أن تأخذ مديحة في حسبانها أنه متزوج، وأنه أب لطفل في الثانية، ولطفلة في الرابعة. ولا يفتأ اسفيندار عن وصفها بالعناد وتحجر الدماغ، ووصفها بأنها لا تشاء أن تلين فتوافقه على أنَّ كونه متزوجاً وأباً، سببٌ كافٍ لردع الفتيات المعجبات بفنه، الراقصاتِ على إيقاع أغانيه عن التفكير في إنشاء علاقة مريبة به.
مما يؤسف له حقاً، أنَّ جميع محاولاتنا لتحرير مديحة من عبودية الشك، وهجمات الوساوس السخيفة، خابت خيبة موجعة، بل امتد شكّها إلينا !
ففي سهرة جمعتنا في بيتهما، اتهمت مديحة ثلاثتنا بلا استثناء: ميخا كفرزي، وجوزيف أوديشو، وأنا، أما آرام فلم يكن موجوداً حينها. قالت عنا بلهجة صريحة لا تحفُّظ فيها ولا احتراز مما يفرضه عادة الذوقُ الاجتماعي المهذب المتحضر على المرء، إننا نحاول أن نتستَّر عن أخطاء صاحبنا اسفيندار، ومغامراته النسائية. فأكدنا لها مراراً، أننا لا نكذب لانقاذ صديقنا من ورطة لم يقع فيها، مستدلين على صدق شهادتنا فيه بدليلِ أنه لو كان لزوجها نزوات وقفزات جانبية، ما كانت هذه خفيت عن أنظار المولعين بالفضائح المستقبحة، وبحفلات التشهير المجونية من أبناء القامشلي المدينة الصغيرة النائية.
أما الحادثة الثانية، فلا أحب أن أرويها لأحد، بل إني لأكره أن أحتفظ بها في ذاكرتي، وأتمنى أن يمحوها الزمن منها محواً تاماً لا يدع منها نقطة واحدة سوداء؛ لما بيننا من صداقة ومودة:
كنت أنهيت دوامي، واتخذت سمتي إلى البيت غير عابئ بهامل المطر الواني، حاملاً دفتر تحضير الدروس، ومقرَّر اللغة الفرنسية لطلاب البكالوريا. عند منعطف روضة الأطفال في شارع الشهيد شيخموس، صادفت مديحة تجرّ خلفها (لاريَّا) ابنتها الصغيرة، وهي في طريقها من روضة الأطفال إلى البيت.
تحت سقيفة دار حديثة البناء وقفنا محتمين من البلل. تبادلنا عبارات التحية. انحنيت على الصغيرة لاريا، وجعلت أداعبها كعادتي بألفاظ ولُكنة تلائم سنها، وأمسد براحتي شعرها اللامع من بلل خفيف. ثم هممت بوداع مديحة، ومواصلة السير باتجاه مسكني، إلا أنها سبقتني بأن سألتني:
- ألم ينهِ اسفيندار دوامه؟
فاضطرت عندئذ أن أكبح عزمي إلى أن أفرغ من الرد على سؤالها. وأنا أعاين ما طرأ على سحنتها من تبدل سريع، أخبرتها أني التقيت باسفيندار قبل نهاية الحصة الأخيرة، وأنه كان يستعد للذهاب إلى إعدادية المالكي حيث لا تزال لديه من دوامه اليوم، ثلاثُ ساعات إضافية، ثم ختمت بكل ثقة:
- لا بد أن يكون الآن في إعدادية المالكي.
أشاحت مديحة بوجها عني لترد تحيةَ إحدى الأمهات من معارفها، مرّت بجانبنا هرولة باتجاه روضة الأطفال. حين التفتت إلي ثانية، خاطبتها بجرأة ماكرة:
- لكنك تعلمين أن له ثلاث ساعات إضافية في المالكي يوم الثلاثاء، فلماذا تسألين؟ أنسيت؟
أجابت:
- لا، لم أنس. ولكن أتظن أنه ذهب ليلقي دروسه الإضافية في المالكي؟
متعجباً سألتها:
- أين يكون ذهب، إن لم يكن ذهب إلى مدرسة المالكي، ألديه اليوم عرس؟
- لا، أفي يوم الثلاثاء أعراس؟
- إذاً؟
مدّت مديحة نظرها إلى البعيد. إذ ذاك ومضت في ذهني ذكرى ما كان يوماً بين أمي وأبي، فعاجلتها بتكرار قولي:
- أنا متأكد مئة بالمئة من وجوده الآن في المدرسة!
ردَّت وهي تشدُّ لاريّا إليها حتى التصقت الصغيرة بها:
- أستاذ جورج، اسفيندار يحبك أكثر مما يحب الآخرين، ويمحضك كلّ ثقته. وأنا باسم هذه المحبة والثقة، أطلب منك طلباً واحداً أرجو ألا يخيب لديك...
بلا تفكير، هتفت:
- لن يخيب طلبك.
شكرتني، ثم سألتني:
- أتعرف سيلفا؟
- سيلفا؟
- سيلفا هاروتنيان، تعرفها أغلب الظن، المعلمة في مدرسة الأرمن الابتدائية الخاصة، ألا تعرفها؟
- عازفة الفلوت؟
- أجل.
- ما لها؟
- لا شيء. أحب فقط، أعني… عفواً لا تؤاخذني أستاذ جورج، إن كنت سأتعبك بطلبي، هل لك أن تذهب إليها لتستوثق من وجوده لديها؟! لا بد أن تجده عندها. وأنا سأنتظر منك أن تخبرني بما رأيتَ بمكالمة هاتفية، هل أرجو منك هذا؟!
ما توقعت من مديحة أن تطلب مني هذا الطلب. لقد فاجأني طلبها. ما توقعته منها بتاتاً. ولولا أني تمكنت بجهد خارق من أن أضبط انفعالي، من أن أداري غيظي وشعوري بالإهانة، لكنت أدرت لها ظهري، وابتعدت عنها مقطباً معبراً لها بإدارة ظهري لها وبذاك التقطيب عن رفضي القاطع لطلبها، وليكن ذلك بقسوة وخشونة.
فبأيّ حق جاز لها أن تدفع رجلاً مثلي إلى التجسس على صديق له قد استرسل به وإليه كأحسن ما يكون الاسترسال؟
إلا أني سرعان ما استطعت أن أغالب انفعالي فأغلبه قاشعاً سحابة الغيظ المتلبدة، حين خاطبت نفسي بأقصى السرعة: يا للحماقة، إنها مديحة يا أبله! أوَيغتاظ المرء من مديحة، وهي تفصح عن غيرتها حتى لو كان إفصاحها عنها بمثل هذا الأسلوب المغيظ الخالي من اللباقة واللياقة؟!
وقدمت لمديحة موافقتي على طلبها، أظهرت لها أنني موافق على تنفيذه بطيبة خاطر، بأن سألتها:
- أتعرفين أين يقع بيت سيلفا، في أي شارع؟
أجابت وقد صفا وجهها من القلق، وإن لم يصف من كدر الغيرة، وشعور الخيانة:
- بجانب طاحونة مانوكيان غير بعيد من هنا. سأنتظر مكالمتك فلا تتأخر.
بعد أن وعدتها وودعتها، لم أف بكل وعدي لها. لم أشخص إلى بيت سيلفا. ما كان لي أن أشخص إلى بيتها في مهمة سخيفة لا معنى لها؟ كنت واثقاً كل الثقة من وجود اسفيندار في إعدادية المالكي، فكيف أذهب إلى بيت سيلفا في مهمة البحث عنه؟ غير أن ثقتي المطلقة بوجوده في المدرسة، لم تحل دون أن أتوجه إلى المدرسة، وأنا تعب جائع. ولو سئلت في ذلك اليوم، وفي هذا اليوم العسير أيضاً: ما الذي كان حدا بي إلى أن أذهب إلى المدرسة للتحقق من وجود اسفيندار فيها، ما دام يقيني بوجوده فيها لم يفارقني؛ لأبلمتُ، أو رجوت سائلي أن يبحث عن الجواب في كتب الفلسفة وعلم النفس.
وإذ وجدت اسفيندار في المدرسة، قفلت راجعاً. من هاتف في دكان بائع البن المجاور للمدرسة، كلَّمتُ مديحة، أخبرتها أنني ذهبت إلى بيت سيلفا، فوجدت فيه سيلفا، ولم أجد فيه اسفيندار. ولم أستح إلى اليوم من كذبتي.
سامح الله مديحة على غيرتها! ماذا لو يعلم اسفيندار بما فعلته بي؟ أقطع بأنه لو علم بذلك، لصارت شقة منه في الأرض وشقة في السماء من شدة الغضب. لكنه لن يعلم أبداً لا مني ولا من مديحة فليست مديحة غبية لتخبره بما فعلته بي.
المهم: ماذا كانت النتيجة بتأثير ما طرأ على علاقتهما الزوجية من شكوك مديحة، ومن ردود الأفعال النفسية على شكوكها من جانب اسفيندار؟
كانت النتيجة أن تغير حبُّ مديحة، وقد طعنها (وَهْمُ) الخيانة في كرامتها طعنة نازفة أليمة نجلاء، كما تغير حبُّ اسفيندار، وقد أثخنت فيه غيرتُها إثخان العدو بعدوه، لقد كان حبهما في بداية أمرهما عارماً غزيراً يجرف الثقيل من كل ما كان ينغص عليهما عيشهما المشترك. لكنه بعد طروء ما طرأ عليه، أمسى ذابل العرامة عاجزاً حتى عن جرف شيء في وزن ريشة من منغصات عيشهم الموحد.
بيد أن التغير - وإن كان أفتر حبَّهما، وأنقص عرامته إلى أدنى مستوياتها - ما استطاع بالرغم من شدة عتوِّه، أن يهدم رابطتهما الزوجية بطلاق، ولا بفرقة إلى يومنا. وهو حدث على غرابته لم يدهشنا؛ لأننا كنا نعلم من أمرهما أن كليهما لديه الاستعداد للتضحية بكل شيء يخصهما، مهما يكن محبوباً مشغوفاً به أثيراً مفضلاً لديهما من أجل طفليهما، حتى لكأن استعدادهما للتضحية إنما كان بالفطرة القاهرة لا بالاكتساب من بيئتهما الاجتماعية المهيمنة.
أكاد الآن أسمع تعليق اسفيندار على ما قد سبق لي أن قلته فيمن يرى أن الكون هو كما هو لا يمسُّه تغيرٌ، وأكاد أبصر الحماسة تلفحه بحمرتها كما تلفح أذنيه عندما يغني في الأعراس، أو في احتفالات المدينة الهازجة بالمناسبات الوطنية:
„ واللهِ! لو كنتُ أنا، هو... لو كنت أنا هذا المتعجَّبَ منه، هذا المختالَ بزعمه الفارغ، لو كنت في مكانه واقفاً أو قاعداً؛ لَأَخْزاني إيماني بحصول المحال، بتحققه في الواقع، ولأسرعت فعدلت عنه، كما عدلت عن إيماني بأفكار كنت أحسبها فيما مضى صادقة يقينية“.
بمثل هذه الحرارة والتدفق، يصادق اسفيندار عادة على رأيي. مصادقته تمنحني الثقةَ بعقلي كما تمنحني شعوراً بالبهجة. إن أكثر ما يعجبُه مني هو إدماني على قراءة الكتب باللغتين الفرنسية والعربية، فيخالني جهبذاً متضلعاً لا يقدر أحد على لَيّ عنقه في الجدال. وأنا كلما امتدح امرؤ على مسمعي قراءةَ الكتب، وعدَّد أفضالها على قارئها، ترحَّمت على جدي.
نعم، إنه لساذج اعتقاد المرء في أيامنا بفكرة الثبات؛ ثباتِ ما في عالمنا نحن البشر من عقائد وأفكار وأخلاق ومواقف، واعتقاده بفكرة ثبات كوننا اللامحدود، وثبات أشيائه في حاضر أزلي أبدي لا غير. فلا ماض، ولا مستقبل (والماضي نشوء، والمستقبل تغير فارتقاء) على نحو ما كان الاعتقاد بذلك من قبل جماعة من فلاسفة الإغريق خاضوا طويلاً في عمق هذه المسألة حتى أوشكوا على الغرق في عمقها، وعلى نَحْو ما كان الاعتقاد بذلك أيضاً لدى عدد غير قليل من علماء الفيزياء الكونية قبل ظهور نظرية الانفجار، والتمدد، والأوتار، ونظرية (الكم) الإعجازية الغريبة الغامضة.
هَأنا وأصحابي – على وجه التمثيل – ما زلنا ونحن في يومنا الأيوم هذا، نتلوَّى من أوصاب الفاجعة! ولكن ألن أكون ساذجاً، إن مرَّ في خلدي، أننا لن يأتي علينا يومٌ نُلقي فيه عن أرواحنا أوصاب فاجعتنا المنهكة؟ ألن أكون ساذجاً إن أنا ظننت أننا لن يرقَّ حزننا فيه على صديقنا الغريق آرام، وذلك على التدريج، يوماً بعد يوم، حتى يستحيل حزننا عليه إلى ذكرى خاوية من كل تأثير ممضّ؟
ألن أكون ساذجاً أيضاً بل بليداً، إن قادني ظني إلى أن صديقنا اسفيندار جَجّو ذا الصوت العذب، والحنجرة الصافية، الجالسَ بقربي، عن شمالي، على صخرة كالصخرة التي أجلس عليها صمَّاء بلا نخاريب، لن يرفع بعد الفاجعة عقيرته متطرِّباً على عوده بالموال الشجي: „نار الحطب تنطفي، والحب نارو دوم" وقت أن ستجمعنا – لا محالة - لياليُّ أنس وسمر، سلاحُنا الأمضى في مقاومة الضجر والخواء وتجديد قوانا، في بيتي المستأجَر في حَيّ الوسطى، أو في بيت اسفيندار في حي الموظفين، أو في بيت ميخا في حي القصور، أو في بيت صديقنا جوزيف أوديشو مدرس الرياضيات في حي البشيرية، أو في مكان ما خارج بيوتنا، كما رفعها عندما كنا أمس جالسين جميعاً إلى مائدة اللهو والشراب في هذا المكان النائي عن بيوتنا قبيل نزول الفاجعة بنا؟
بلا ريب!
وإنَّا – على فكرة - لنطرب للموال حين نتلقفه بأسماعنا وأفئدتنا. بيد أنَّا، وإن طربنا له، لن يكون في وسعنا؛ أعني في وسع عقولنا، أن تؤيد الكلمةَ الواردة في الموَّال المرنَّم الشجي ( الحب نارو دوم ) لأن الحب في الواقع، لا تدوم ناره.
ربما عاش الحب طويلاً. أما نار الحب، فهل عسيت إن شبّت أن تدوم؟
إنَّا - ويسترسل ذهني بعيداً عما يشغل روحي، ويلوّعها - إذا كنا نطرب حين ينسكب في آذاننا صوتٌ في طيب الرُّخاء، حلوُ المخارج والترجيع كصوت صاحبنا اسفيندار جَجُّو متطرِّباً بذاك الموال الشجي؛ لا نطرب على الأغلب من وقع كلمة الموال (الحب نارو دوم) في أذهاننا من حيث إنها كلمة لها معنى دافئ الحسن صادق التعبير يطرب. وإنما نطرب من حلاوة صوت اسفيندار، ومن حسن تطريبه، ومن تأثير شجو النغمات، وروعة اللحن على أوتار مشاعرنا اللينة.
أوَلم نطرب مرة من أغنية صدحت في آذاننا، وكانت كلمات تلك الأغنية مما لا تدرك معانيها آذانُنا، ولا تحيط بها عقولنا فهماً؟ ألم نطرب في مرة، أو في مرات عدة لأغنية أجنبية، ونحن لا نفهم كلماتها، ولا نعي دلالاتها ومدلولاتها؟
كيف لا !؟
إنا لنطرب طرباً حتى لتهتز منا الرؤوس، وترتجحَ منا الخصور كما ترتجح رطابُ الغصون يهدهدها من الرَّوح منعشٌ لطيف، حتى لو كانت كلمات تلك الأغنية رديئة رخيصة بخسةَ المعاني، وكانت كلماتها من جنس تلك الكلمات التي يعوزها الصدق؛ صدقُ المعنى.
ولكن…
أ كنتُ وقت وقوع حدث الانفصال عن حبي الأول (لمياء بنت باسيل جرمانوس) كما أنا عليه الآن من اليقين بأن آلام الانفصال تتلاشى؛ كما يتلاشى موجان الماء الراكد إثر أن يسقط فيه الحجر؟ أكنت في ذلك الحين، أرى هذه الحقيقة بسيطة، عائمة على السطح، بديهيةً كما سأراها فيما بعد؟
إطلاقاً !
وما كان ذلك علامةً من علامات الغباء، كما يخيل إلي أحياناً، ولا كان علامة من علامات الجهل وانعدام الخبرة والتجربة؛ لأن المرء - وإن أضحى على علم بأن آلام الحب لا مناص لها من أن تخفت فتستكين فتتلاشى بالتدريج، بتعاقب الأيام والسنين - كثيراً ما لا يملك، وهو في غمرة الحدث المرهق الرهيب.. وهو منغرزٌ في سَفُّوده الحارق، إلا أن يعتقد أن آلامه لن تتلاشى أبداً.
… حالةٌ شعورية!
فلعل هذه الحالة الشعورية، أن تكون واحدةً من المفارقات الكثيرة التي لا تخلو منها النفس البشرية، والتي لا ينبغي أن تخلو منها لعلةٍ : هي أن النفس البشرية، متى خلت من مثل هذه المفارقات (المستكرهة) عند عامة الناس لبساطة تفكيرهم، أو خلت - بتعبير آخر – من هذه المتناقضات غير المرغوب بها لديهم، رقيت إلى مرتبة الكمال، فخرجت برقيِّها إليه من بشريتها؛ أي من وجودها الحقيقي المحسوس، إلى وجود لها متوهَّم بالذهن لا محسوس. فكانت فيه، في الذهن، كما هي فيه صورةُ الكائنات الميتافيزيكية الخرافية الوهمية الرافلة بكمال يُدَّعى أنه بلا نقص ولا عيب.
فإن قفز بعد هذا إلى شفتي المضمومتين سؤالي: „ أكانت الحركة التي اجترحتُها في لحظتي الأخيرة مع لميا، ذميمة؟ " فبماذا يجيب عقلي؟
هل سيكون له أن يجيب عليه بغير: قد، ربما ؟
لا أظن...!
لا أظن أن عقلي سيملك أن يجيب عنه بغير (قد، ربما) إلا إذا رام عقلي ألا يحافظ على اتزانه. ولن يروم عقلي ذلك! أنا أعرف عقلي معرفة جيدة. أعرف أنه سيحافظ على اتزانه بأن لا يجزم في إجابته كلَّ الجزم. فما قد كان صدر عني في لحيظتي الأخيرة، في آخرِ آخرِ لحظة لي من الزمان مع لمياء، له مسوغات مقبولة.. مقبولة لدي أنا على الأقل. ولأنَّ هذه المسوغات، مقبولةٌ لديّ، لن يكون من الرويَّة أن يبتَّ عقلي جوابَه على سؤالي بتاً جازماً بنعم أو بلا.
ولكن، ما الذي كان صدر عني في لحيظاتي الأخيرة مع لميا؟
لا شك في أنه من السهل عليّ أن استحضر بذاكرتي كل ما كان صدر عني في تلك اللحظة. إن استحضار كلّ ما كان صدر عني من أفعال وأقوال بالتذكر، ليس مما يصعب علي، فلكأن تلك الأفعال والأقوال وقعت مني في التوّ، أو قبل دقائق قليلة من الآن. أجل، إنه ليسير علي - وأكرر - أن أتذكرها بكل تفاصيلها الدقيقة؛ لأنها ما برحت ملازمة لذاكرتي ملازمة الظل لأشيائه، ولشخوصه المساهمة في تكوينه!
قد يأتي يوم يسرد فيه لساني ما ينضح به الآن وعاء ذاكرتي مما كان صدر عني في اللحظات الأخيرة من وجودي الفيزيائي مع لميا:
في اللحظة التي تمكن ذهني من أن يقوم من نشوة الغيبوبة؛ غيبوبةِ الالتحام الأخير بها، رفعت عن لميا جسدي العاري - وكان يغطيها - كما ترفع ملحفة تغطي فراشاً. كان رفعي جسدي عنها حدثاً جديداً فريداً لم يسبق له أن كان.. حدثاً يقع لأول مرة في تاريخ علاقتنا مذ بدأ شيطاننا في خلواتنا يلهمنا التمادي السافر في غوايات الجسد.
ما حدث قط أن بادرت أنا إلى رفع جسدي عنها. لميا هي التي كانت تدفعني دائماً، في كل مرة، إلى أن أرفعه عنها فأحرر صدرها من ثقل ضغطي عليه، إما بحركة من ذراعيها، أو من يديها، أو من ساقيها، أو من ركبتيها، وإما بلفظ مستحمّ بغُنَّة مسترخية، آمرٍ ولكن لذيذ بلا جفوة كثغرها الناضج. فكأنما لميا، هي التي كانت موكَّلة بأمر من غريزتها بأن ترخي ستارة النهاية على ما قد كان بيننا من شغف أحمر جنوني لا أنا، حين تدفعني عنها في كل مرة معلنة بالدفع، عن وجوب أن نبدأ نشاطاً جديداً عقب أن انطفأ لهبُ نشاطنا الأول، وبات حُراقةَ نار.
ثم بكثير من الخمول، من التواني، أخذت أجمع قطعَ ثيابي المتناثرة هنا وهناك، فأكسو بها جسدي العاري. بينما أنا في هذا، إذا بلميا تجتذب وسادة فتضعها تحت رأسها. وإذ ارتفع رأسها باستناده إلى تلك الوسادة، شرعت - وهي بعد منسطحة على ظهرها بعريها البضِّ حيث انهمكنا وانصهرنا - ترقبني باهتمام بالغ.. جعلت لميا، وهي تحت بصري، ترصدني بعينين منفرجتين، توقَّد فيهما معنى غامض لم يتكشَّف لي في الوهلة الأولى عن حقيقته. في الوهلة الأولى، حدست أنها تنكر عليَّ تصرفي، أنها تستهجن مسلكي. فلكأن مسلكي، كان أوحى لها أنني أتعجل مغادرتها زهداً بها بعد أن شبعت منها، وارتويت.
على أني حين سمعتها تقول لي بنبر زاجر وضعيف واهن: „ ما لك؟ أليس حريَّاً بك أن ترتدي ثيابك بعد أن تتدوّش؟ " استطعت أن ألمس حقيقة ذاك المعنى المتوقد في عينيها.. استطعت أن أدرك أنها لا تستهجن، استطعت أن أفهم أنها تستغرب أنني أرتدي ثيابي قبل أن أتدوش وإياها. كان (الاستغراب) هو المعنى المتوقد في عينيّ لميا لا الإنكار أو الاستهجان، كما قد كنت حدست فيه هذا خطأً في وهلتي الأولى.
كيف حدث ألا أدرك معنى الاستغراب المتوقد في عينيها في وهلتي الأولى، مع أنه كان أمراً طبيعياً متوقعاً بل لازماً أن يتوقد في عيني لميا معنى الاستغراب دون غيره من المعاني؛ وهي تراني أرتدي ثيابي قبل أن أتدوش، مثلما هو طبيعي متوقع لازم أن ترتفع في مدينتنا درجة الحرارة، إذا ما حلّ فيها شهر تموز؟
قد أدري السبب.
بل أدري السبب! ولكن ليس من المجدي الآن أن أتتبعه بكلام ربما أسقطته الغثاثة في زُبية اللامعنى. المجدي الآن أن أقرّ لميا على استغرابها، أن أقول إن لميا كانت على حق إذ استغربت أن أرتدي ثيابي قبل أن أتدوش وإياها.
أَفَما كانت هي المرة الأولى التي أخرق فيها عادةً كنا ألفنا مزاولتها معاً؛ وهي الاستحمام برشاش الماء البارد، أو الفاتر عقب كلّ انفصال يتكبَّده جسدانا المبتلَّان بقطر لم يتبخر بعد، من لذة كان لها بيننا قبيل دقائق، شغبٌ وحمحمة وصهيل؟
قد أقدّر أن لميا، لو كانت علمت بأنّ الذي سوَّل لي أن أخرق تلك العادة، هو ما جاش في نفسي من رغبة مجنونة خرقاء حمقاء في أن أستبقيها لقلبي وفي قلبي، لا شرودي عن عادة مستقرة بيننا وغفلتي عنها بتأثير ما عاودني من أوجاع قرارها المفاجئ لي على الفور عقب إسدالها ستارة نهايةِ الالتحام الأخير بها؛ لعرفت لي ذلك لميا، فحلّ في عينيها محل ذلك الاستغراب، عطفٌ طاغ عليّ، وحَنَانٌ حَنّانٌ كالوتر تداعبه أنامل موسيقي موهوب وهو في حال من حالات وجده العاطفي أو الفني.
كنت رغبت بجنون، وأنا بعد لم أرفع عنها كلكالي، أن أحتفظ بما لصق بجلدي منها في التحامنا الأخير، أطول مدة محتملة أقدر أن أحتفظ فيها بما لصق من لميا بجلدي.
كانت هذه رغبتي.
فهل من الحق أن أذمَّها؟
إن كان علي أن أفعل ذلك، أن أذمَّ رغبتي تلك، فكيف لي بعدئذ أن أسوغ رغبة كلّ حبيب تشمله شملةُ الحال التي كانت شملتني.. رغبةَ كل حبيب متجرد من أنانيته، صادقٍ في حبه، رغبة كل حبيب في أن يستبقي حبيبه المفارق لصق حواسه مدة بقاء حبّ حبيبه في قلبه، وذلك بأن يحتفظ لنفسه بشيء من لوازم حبيبه يهبه إحساساً زكياً مؤنساً بوجود حبيبه معه أو بالقرب منه.
ثم كيف لي أيضاً أن أسوغ رغبة زوج - وقد أحب زوجه حباً صادقاً نبيلاً - في أن يحتفظ بأشياء من زوجه، إذا غادره زوجه إلى مثواه الأخير؟
جدتي، مثلاً، كانت على غرار كثير من الأزواج الأوفياء، اتخذت قراراً عنيداً لم تنكص عنه أن تحتفظ بكل الأشياء التي تركها جدي إذ رحل، على الرغم من أن أمي عارضت قرارها، وحاولت جهدها بمؤازرة عمتي أنطونيا، أن تثنيها عنه.. أن تقنعها بأنه من الخير لنا، لأسرتنا، توزيع أشيائه ومخلفاته حتى الثمينة النفيسة منها على من أضوتهم الحاجة من أبناء حيّنا أو من أبناء الأحياء الأخرى.
فهل أذمّ رغبة جدتي؟ أيصح لي أن أحكم حكماً قاطعاً عليها أنها كانت رغبة فاسدة ما كان ينبغي لها أن تكون في نفس جدتي؟
لكنت اخترت أن أذمَّها بالقطع، راضخاً لرأي (سمر) ابنة خالتي فيوليت المدعوم بحجتها أن لميا خانت الميثاق.. أنَ لميا رحلت عني إلى غيري لا إلى مثواها الأخير، ولا ناب لميا من دهرها شرٌّ!
طال صمتي، حتى أعادت لميا عليّ سؤالها:
- سألتك: مالك؟ لماذا ترتدي ثيابك قبل أن تتدوش؟ هل أنت على ما يرام؟
إذ ذاك تمتمت:
- أنا على ما يرام.
- ولكنك ترتدي ثيابك…
- نعم، أرتدي ثيابي.
- قبل أن تتدوش؟! ما عدا مما بدا؟
- سأستحم الليلة في البيت.
- لا، أنت زعلان مني، لن تبارك لي إن تزوجت!
ثم هبت من ضجعتها إلى الحمام برشاقة رغم ما كان اعتراها مثلي من خمول، وهي تقول:
- لن أرغمك على شيء، انتظرني نخرج معاً إلى الشارع. على فكرة، هل ستحضر حفل زفافي؟
الشقة التي كنا نختلي فيها، كانت شقة عمها ميشيل المغترب في ولاية ميشيغان الأمريكية. تقع في شارع ضيق من حيّ النيّال في الطابق الثاني من بناية قديمة شيدت برمتها من الحجر الأبيض. كانت لميا أخذت على عاتقها مسؤولية تنظيفها والعناية بها بمساعدة (بشرى) مدبرة المنزل.
كنا كلما عزمت لميا على تنظيفها – مرة في الأسبوع وغالباً في يوم الجمعة – التقينا فيها ثم التحمنا بعد انصراف بشرى فوق الأريكة الكبيرة الواسعة في الصالون، لا في غرفة النوم حيث سرير عمها الوثير وزوجته دوللي اللذين ما انقطعا عن زيارة حلب من مغتربهما مرة من كل عام لمدة شهر قد ينقص أو يزيد.
أن نمارس حبنا فوق سرير عمها وزوجته دوللي، كان أمراً مشيناً من المحرمات في تصور لميا، وفي تصوري أيضاً.
طفقت أتجول في غرف الشقة، أجيل ببصري في محتوياتها مثل آلة التصوير، وكنت ألفتها وأحببتها. فلما عزمت على مغادرة الشقة لآخر مرة من غير أن أنتظر خروج لميا من الحمام، تضاعف حزني، وتفاقم يأسي حتى تخيلتني لويس السادس عشر لحظة أن فارق ماري أنطوانيت، وغادر قصره إلى المقصلة.
……….



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دوّامة النهر الكبير 4
- الواجب الوجود بغيره
- فذلكة فلسفية لأطروحة ماركس الحادية عشرة
- دوّامةُ النهر الكبير (3)
- دوَّامةُ النهر الكبير (2)
- دوّامةُ النهر الكبير
- الرسالات السماوية
- صيغة التنزيه، برهان الطعن في المنزَّه
- نحن لا نخلق المعنى
- في حقيقة أن الأشياء تتغير ولا تتغير
- محاورة النرجسي
- وقول النصارى إله يضام
- الردُّ على ابن حزم في مسألة تحريف الكتاب المقدس
- مأزق العلمانية
- ما بين الدين والأفيون من ضروب التشابه
- حقيقة ما جرى في قرية الفردوس
- مشكلة المعرفة لدى ايدن حسين. (دحض المثالية)
- ياء ميم، ياء ميم الست مريم وصاحبها كريم
- خالق الموجودات
- مارس وفينوس


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 5