أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 8















المزيد.....



دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 8


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 7305 - 2022 / 7 / 10 - 14:47
المحور: الادب والفن
    


كنت استيقظت قبل تمام السادسة صباحاً. تفقدت حالي تحت غطائي السميك. وجدتني وكأن وعكة الأمس ما دهمتني، وحمَّىاه ما طبختني. أزحت عني اللحاف. ما تقلَّبت، ما تثاءبت، ما تمطيت وإنما بوثبة واحدة نهضت على قدمي خارج السرير. سبقتُ شقيقيَّ جان وريمون في الاستيقاظ والنهوض. أيقظتهما فاستيقظا. قبل أن ينهضا تململا، تبرَّما، بَرْبرا على جري عادتهما.
خلف زجاج النافذة كانت شابورة الصباح منسدلة. جذبتني إليها. أشرعت النافذة إلى الخارج ورحت هنيهة ألحظ نسج الشابورة كيف يتفتت على إيقاع الشروق.
أمي وسمر كانتا سبقتاني. سمر أمام المرآة تمشط شعرها، أمي منهمكة في المطبخ. حدثتني نفسي بوجوب الاعتراف بفضلهما بنطق صائت. الفضل لهما في أني استعدت يومها عافيتي المفقودة بتلك السرعة القياسية. لولا عنايتهما الفائقة بي، فهل كنت سأملك القدرة في صبيحة ذلك النهار على أن أثب خارج سريري واقفاً على قدمي؟ غير أني لم أطع ما أمرتني به نفسي. لم أشكرهما لفظاً. صبَّحتُهما مبتسماً، ثم شرعت بوعيٍ أقلع عنه التشوُّش أتهيَّأ للذهاب إلى الكلية.
وفيما كنت أتهيأ للذهاب، جعلت أتحرك بنشاط طليق. دافعٌ في أعماقي، لم يستتر عني، كان ينشّطني. كبريائي البليد ! كبريائي هو الذي كان يحرضني على إظهار نشاطي. كنت أروم أن أبرهن لسمر، أنها أخطأت حين اعتقدت أني ما توعكت، ما أصابتني الحمى إلا بسبب تأثري بقطيعة لميا. كما كنت أروم من ذلك أيضاً أن أبرهن لأمي أني أقوى من المرض وأن جزعها علي أمس ما كان له ما يسوغه، وأنَّ قلقها عليّ اليوم، إن تقلق، لن يكون له ما يسوغه.
أمي رغم انهماكها بإعداد مائدة الإفطار، ما انصرفت نظراتها المستبشرة عن اللحاق بي. كانت نظراتها ترتمي عليّ حيثما استطاعت الوصول إلي، حتى شعرت بالضيق منها. أن تصبَّ أمٌّ على ابن لها شابٍ يافع جاوز مرحلة الطفولة، كلَّ هذا الفيض من الاستبشار، فليس مما يُسِرُّ ابنَها اليافع.
لكنها أمي!
أمي مثل كل الأمهات يوجعها أن يمرض ابن من أبنائها. وهي بقدر ما يوجعها مرضه، يسعدها شفاؤه من مرضه. فلها ولكل الأمهات، العذرُ على كل حال !
بهذا عللت سلوك أمي. كان تعليلاً صائباً ما لبث أن أراحني، وأذهب عني شعوري بالضيق من ملاحقتها إياي بنظراتها المستبشرة.
عندما اجتمعنا في المطبخ لتناول الإفطار في عجل على عادتنا. قبل أن ينطلق كل منا إلى شأنه، وجهت إلي سؤالاً لم تألف أذني سماعه منها:
- ماذا تحب اليوم أن أطبخ (لك) ؟
وحين رأتني تشاغلت عنه، ألحت في طلب الجواب. أمي إذا سألتْ أحدَنا، فلا مندوحة له عن إسماعها الجواب. إن لم يفعل، فستظل تلاحقه بسؤالها حتى ترغمه على أن يجيب:
- ما لك؟ لم تقل لي، ما الطبق الذي تشتهي أن تتناوله اليوم؟
ولأن نفسي كانت خاوية من الرغبة في اختيار طبق بعينه، أحسست بعبء الاختيار. إحساسي بعبئه حضني على التخلص منه بأي لفظ من الألفاظ، أجبت:
- أشتهي كلّ الأطباق.
والدي لم يكن بينا. لم توقظه أمي؛ لأنه كان أنهكه السهر في مكتبه على إحدى قضاياه العويصة. لو كان حاضراً بيننا، فمن المؤكد أنه كان سيعلق بشيء على أن خصَّتني دونهم بطبق يكون على ذوقي الخاص. كان سيقرأ – أغلب الظن - في تخصيصها معنى التدليل. ولا شيء أبغض إلى والدنا من تدليل الأمهات أولادهن الذكور. على أن قَصْر اهتمامها عليّ لم يسلم من التعليق الفاكه. ريمون أغواه شيطانه أن يمثل دور أبينا، ولكنْ بظرافة، قال:
- العزُّ لابن الست، وماذا لأبناء الجارية؟
- طنجرة برغل.
ضاحكاً عقّب عليه جان.
ريمون كان ينفر من أكل البرغل إلى حدّ التهوّع. أما سمر فاقتنصت السانحة بدهاء:
- نسيتما مَثَل الابن الضال؟ لكأني أرى الابن الضال يعدل عن الضلال ويعود تائباً فيُنحر له العجل المسمّن. إياكما والحسد ! أسمعتما؟ إياكما أن تنفِسا على أخيكما طبقَ اليوم، كما نفِس الأخ الصالح على أخيه الضال أن يُنحر له العجل المسمن.
لم يفهم أحد سواي ما تضمنه قول سمر من تلميح وتعريض. في اعتقاد سمر أني كنت ضالاً في عشق لميا، وبالقطيعة أكون أُجبِرتُ على أن أسلك طريق الرشاد.
حين افترقتُ عن سمر في الطريق، انتبهتُ لأمر منها لم أنتبه له قبل افتراقي عنها. انتبهت لخلو نظراتها وكلامها من الاستبشار بانتصاري على الحمى. عناية سمر بي، لم تقلَّ عن عناية أمي بي، فلماذا لم تستبشر كما استبشرت أمي؟ أليس الذي يعتني بمريض، ثم يراه يبلُّ من مرضه بفضل عنايته به، يستبشر؟
لكني، فيما بعد، سأكتشف أمرها على حقيقته. سمر كانت ثاقبة النظر بعيدتُه. نظرها الثاقب البعيد المدى امتدّ إلى ما سيكون من حالي في أيامي المقبلة. بفطرة الأنثى هذا الكائن العجيب الذي يشبهنا ولا يشبهنا، إنما أدركت سمر إدراكاً رؤيوياً ما سيحل بي. قالت لي وهي تتفحص وجهي في نهاية الأيام الثلاثة التي أعقبت يوم انتصاري على الوعكة: حسن أن لا أثر لعقابيل الحمى على شفتيك. ولكنْ احذر فإن للعشق عقابيله أيضاً. احذر فقد يرمي عشقُك المجهض روحَك بعقبولة تمتصُّ طاقتها الإيجابية!
ومثلما تتحقق النبوءات الصادقة، تحقق ما حذرتني منه. ولم يكن بيدي حيلة!
فإني، وإن كنت استطعت أن أقهر وعكة الجسد وأن أدحر الحمَّى من غير أن تظهر على شفتي منها عقابيل، ما استطعت أن أدفع عني هجمات الاكتئاب. أخفقت إخفاقاً في دفعها عني. هجمات الاكتئاب توالت عليّ عقب إبلالي من وعكتي. ولأنها كانت شرسة صائلة شديدة الأخذ والضراوة، لم تنشب أن تمكَّنت مني، ورغَمَت أنفي على أن يستأسر لها بلا قيدٍ بلا شرط.
ولقد طال أسري في زنزانة الاكتئاب حيث الوساوس الوهمية تقرض سكينةَ الروحِ روحي، وحيث نوبات الاحتقار والدونية تتعاقب عليَّ فتلقمني غصباً عن إرادتي ضروباً شتى من الأذى النفسي الكالح، وحيث رياح العدمية تهبُّ عليّ كلما انتويت أن أسعى في طلب غاية ما ذات معنى فتحبط بهبوبها مسعاي بأن تجترف ما في تلك الغاية من معنى إلى خلاء غير ذي معنى كما تجترف عُصافة بلا وزن بلا قيمة، مدةَ الدورة الأولى من سنتي الدراسية الثانية في كلية الآداب بجامعة حلب، حتى كدت في بعض خلواتي بنفسي أوقن من البوار، من التلف.
والروح تتلف إذا انتقلت من عالم ترفرف فوقه راية الشاعر هوراس المضيئة بأنغامها المتفائلة " عش يومك، تمتع بلحظتك " إلى عالم نقيض ترفرف فوقه راية المعري الكئيبة السوداء " غيرُ مجدٍ في ملَّتي واعتقادي، نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادِ ".
ما كنت أجهل أنّ النفس إذا استأسرت لجحافل الاكتئاب، فسيحتِّم الأسرُ عليها أن تتعرقل في تأدية وظائفها. وما كنت أيضاً أجهل عواقبَ تعرقل النفس في تأدية وظائفها؛ أي في تأدية ما يجب عليها أن تؤديه من أفعال ضرورية كيلا يختلَّ توازنها فتنهار. لكنّ علمي المسبق بكل ذلك، لم يحل دون حصول تلك العواقب.
ومتى كان العلم المسبق بعواقب أمر من الأمور حائلاً دون وقوع ذاك الأمر؟
فإن المرءِ يستطيع، إذا علم أن إعصاراً سيعصف في الغد عصفاً عنيفاً مدمراً، أن يتفادى من شره المدمر العنيف. لكنَّ علْمَ المرء بأن الإعصار المدمر سيعصف في الغد، لن يحول دون عصف الإعصار.
وكذلك كان الأمر في حكاية يوسف بنِ راحيل زوجة يعقوب وابنة لابان الآرامي من حاران، فإنه كان علم بأن الغلاء في الأرض سوف يقع لا محالة قبل أن يقع. لكنه إذ استطاع بما كان ملك من سعة الفطنة، ومن حدة الذكاء، ومن حسن التدبير، أن يضع خطة رشيدة تنجّي فرعونَ مصر الحاكم آنذاك وشعبَه من الهلاك جوعاً، ما استطاع أن يحول دون وقوع الغلاء بالأرض.
ومن ذلك أيضاً أن يعلم المرء أنه إذا أصيب بداء عياء لا برء منه، وأن هذا الداء سيأتي عليه لا محالة، مهما يتجشم لبقائه حياً من أسباب الإطالة والاستمهال، فإذا أصابه الداء حقاً، فبماذا يكون علمُه ذاك نفعه؟
الجَدُّ يونان ديراني، جدّ أولاد عمتي أنطونيا، كان أمسى في آخر مرة رأيته فيها قابَ خطوة أو اثنتين من شدق هاويته الفاغر المرتقِب ! رأيته يتزحَّف على الأرض في باحة الكنيسة
بقدم ركيكة أنهكها طول الاستعمال، وناء بها ما تراكم فوقها من صدأ الأعوام، في ضحو ذلك النهار الذي كان – ويا للمفارقة ! - جميلاً جمال خميلة متوهّجة الضوع.
لم يكن فارداً منفرداً، وهو ينهج طريقه دَرْجاً باتجاه بوابة الحوش محنيَّ الظهر قابضاً بيمينه على عكازته المصنوعة من خشب الزَّان، تلك المألوفة من القربى والأباعد الملساءُ البنية التي بلا عُجَر، والتي راح طلاؤها يلمع تحت ضوء الشمس شمسِ أواخر شهر نيسان، فوق ساقيه اللتين كانتا دقّتا، وهشَّ عظمهما. ابنُ عمتي يونان، حفيده الأول، كان بلزقه يعضده في سيره المكبَّل بالإعياء والوهن. كان يونان يعضد جدَّه المريض المتهدّم من جانبه الأيسر بذراعه اليمنى حذر السقوط. يسير به بأناة، باتئاد، برفق كثير، خطوة خطوة. وما برح يسير به على ذلك النهج الوئيد من السير حتى بلغ به المكان الذي كانت سيارة والده العم توماس وقفت فيه منتظرة إياه كي تقلّه عائدة به إلى البيت.
وما كاد يونان يبلغ هدفه وينجز مهمَّته الأخيرة بمعاونة جده على الجلوس في المقعد الأمامي بجانب والده، حتى ارتدَّ عن السيارة قبل أن تتحرك عجلاتها إلى حيث كنت أقف، إلى حيث كنت اخترت أن أقف، بالزاوية اليمنى من بوابة الحوش إثر خروجي من الكنيسة فور انتهاء قداس الأحد؛ قصدَ أن أتيح لعينيّ مشاهدة كلّ ما كان يجري داخل الحوش وما كان يجري خارجه، فألهو بالمشاهدة عن الوقت الذي كان يضغط على صدري مريداً بالضغط أن يقهر تجالدي. وهو الوقت الذي كان عليّ أن أترقب فيه بصبر غير نافد خروج لميا من الكنيسة.
يومذاك أبطأت لميا في الخروج من الكنيسة على غير عادتها. ولعلّةٍ إنما كانت أبطأت في الخروج منها.
وهل لشيء أن يحدث إلا بعلة ولعلة؟
لا شيء يحدث إلا بعلة ولعلة، ما خلا الكون بما هو كلٌّ، فإنه الشيء الوحيد الذي لا يعلم أحد منا علةً لوجوده أو غاية. إن معرفة غاية شيء له وجود دائم... شيء هو الوجود بلا قبل بلا بعد، وحيدٍ ليس يوجد شيء سواه ألبتة، ليست ممكنة. ليس يمكن أن تُتصوَّر للكون غايةٌ، ما دام الكون هو الوجود الوحيد المجرد عن الزمان. كل غاية حركة تتجه من شيء إلى شيء. فلما لم يكن بإزاء الكون شيء تتجه إليه غايته، أو تأتي إليه منه غاية، انحصرت غايته في وجوده. إنّ وجودَه بهذا الاعتبار هو غايته، وغايته هي وجوده، ولا شيء آخر بعد هذا يمكن أن يقال في الغاية من وجود الكون.
ولست أبالي ههنا إن ضادَّ صديقي جوزيف كيفاركيس بأسلحة منطقه المعهودة رأييَ هذا، فإن لرأيي هذا ما يكفيه من الاستدلالات العقلية، ومن البراهين المادية العلمية التي تجعله حصيناً مستعصياً على الاختراق.
لكنّ لميا لم تغفل عن إطلاعي على علة إبطائها في الخروج من الكنيسة. بادرت قبل دخولنا إليها، فأطلعتني عليها.
للميا ذهن يقظ لا تدركه الغفلة!
ولقد حمدت لذهنها اليقظ أنه لم يغفل عن إطلاعي على علة تأخرها. حمدت ذهنها اليقظ وأنا مدرك كلَّ الإدراك أن يقظته صفةٌ ملازمة له لا تفارقه أبداً كحال كل صفة ذاتية ملازمة لجوهرها. حمدته وأنا مدرك أيضاً أن الحمد لا يزيد فيه ولا ينقّصه. وهل يزيد في القمر أو ينقّصه أن نحمد له أنه ينير عتمة ليالينا، والإنارة صفة لا تنفك عن القمر إذا طلع؟
وإنما هو شعوري كان نبع فانساب في مجرى الحمد وقتَ أن أحسست الخيرَ مسّني من فضل ذهنها اليقظ؛ الخيرَ الذي سييسِّر لي - فيما بعد - احتمالَ مشقة انتظارها دون تذمر، دون مكابدة مأبوهٍ بها، على بوابة حوش الكنيسة زمناً امتدَّ حتى أوشك أن يتجاوز الساعة.
التقيت بلميا صبيحة ذلك النهار الأنيق، في نقطة تقاطع خطِّ طريقها إلى الكنيسة بخط طريقي إليها، أمام دكان أبي كريم زاهر غَنُّوم بيّاع الحمص والفول في حارة الجب. فرحة اللقاء غمرتنا كلينا، غمرتنا مثلما كانت تغمرنا في كل مرة نلتقي فيها حيثما يكن اللقاء. لكنها لم تجعل نقطة لقائنا مربطاً لأقدامنا لأكثر من دقيقة واحدة. واصلنا السير بعدها. وفيما كنا نعبر شارع قسطاكي الحمصي، أمسكت لميا بيدي، ضغطتها. ضغطت راحةَ يدي برؤوس أناملها ضغطاً كادت منه أظافرها الطويلة الحادة تنغرس في لحم راحة يدي فتدميها. أن تمسك لميا بيدي وتضغط راحتها بذاك النحو من الضغط، حركةٌ منها تنطوي على معنى كنت قد عهدته منها وألفته حتى بتُّ لا أُعمِل فيه ذهني بتاتاً، بل أستجيب له، لذاك المعنى، استجابة آلية دون تفكير.
لميا كانت إذا أرادت أن تنبئني بنبأ لا يحتمل التأجيل لأهميته في تقديرها، أو لخطره في إحساساتها ومشاعرها، أمسكت بيدي وضغطتها كي تصرف كلَّ انتباهي إلى ما ستنبئني به.
جذبتها من ذراعها إلى رصيف الشارع بلين ولطافة. فعلت ذلك قبل أن ألتفت إليها معلناً بالتفاتي إليها عن استعدادي لتلقّي النبأ منها.
وتلك كانتِ اللحظة التي أنبأتني فيها بأنها ستتأخر في مغادرة الكنيسة، ولن تلحق بي فوراً على حسب الاتفاق الذي كان جرى بيننا قبل يومين من حلول ذلك النهار البديع.
سألتُها متعجباً، ما إن أنهت إلي بالنبأ: ما الذي حدث فجأة فأوجب عليك أن تتأخري؟! أجابت وهي تجيل بصرها فيما حولها: لا تقلق لن أتأخر. لكن جوابها كان شديد الاختصار ناقصاً، لم يتضمن بيانَ السبب في تأخرها. ولعل خلوَّه من بيان السبب هو الذي جعلني أصاب فجأة بانفعال خفيف سيدفعني على الفور إلى أن أستخدم لغة الإضراب وأنا أقرمط ما بين حاجبي قائلاً لها: بل سأقلق إن لم أعلم لأي شأن ستتأخرين.
ولميا لما رأت ذلك مني، وفهمت المراد من قولي، انتظرت - وهي تغطي أنفها براحة كفها وترأرئ بعينيها – حتى تشتَّتَ في الفضاء، وفي شرفات الأبنية المطلة على جانبي الشارع، زعيقُ سيارة عتيقة هرمة، عبرت شارع قسطاكي الحمصي الذي كنا اجتزناه نافثة خلفها دخاناً كثيفاً ذا رائحة كريهة كالسَّهك، فحرَّرتْ إذ ذاك يدي من أصابعها وضربت ساعدي مستحثة إياي على السير. وكمن يفضي بسر أفضت إلي بأنها قد عزمت على أن تعترف عقب انتهاء القداس أمام الكاهن، وهو يومذاك أبونا القس أفرام.
ولكأنها خافت، حين أفضت إلي بما كانت عزمت على فعله، أن أستنكر وقوع الفعل منها في وقت لم يكن مهيَّأ لوقوعه.. خافت من أن أعبس لائماً إياها على أن عقدت نيتها على الاعتراف في يوم عطلتنا الذي كنا قد خططنا قبل حلوله بيوم واحد لأن يكون لنا، لا بأجزاء وأوقاتٍ متقطعة منه بل بكلّه دون نقصان: بكلّ ثوانيه، بكل دقائقه، بكل سويعاته، بكل أنفاسه المتصاعدة من الأمكنة التي سينزل بها وننزل بها معه، فأسرعت ترجوني أن أنتظرها في باحة الكنيسة حتى تنتهي من الاعتراف أمام راعي كنيستنا الشيخ.
لا زلت أذكر رجاءها كيف كان.
رجاءُ لميا لم يكن في تلك اللحظة بارداً أو فاتراً... كان حاراً، لكنه مع حرارته لم يربأ إلا قليلاً عن صيغة ( افعل ) الآمرة.
في لغة لميا لا يستحيل الرجاء، مهما ترتفع درجة حرارته، إلى توسل أو ضراعة. في لغتها أيضاً، إن جاء الرجاء مشتملاً بصيغة الأمر، ملتفاً بها - وصيغة الأمر تتسم غالباً بالكزازة وبالغلظة أو بشيء يسير منهما - فإنه لا يكون إلا في ظاهره كزّاً كزازةَ ما في صيغة الأمر من تلك المعاني المشحونة بالاستصغار أو بالترفع أو بالاستعلاء أو بما شابهها من معان لا تروق ذائقةَ المخاطب الحساس.
أما أنا فلأني كنت تفهمت نيَّتها، تفهمت الدافعَ إلى ما انتوت، ما ملكت إلا أن أمتثل لرجائها الحار والآمر معاً دون أن أعترضَ أو أن أظهر استياء لا بلفظ ولا بحركة ( الآن، في لحظتي هذه، أرجح أنني كنت بطيبة خاطر سأمتثل لرجائها الآمر على كل حالٍ، حتى لو لم أكن تفهمت نيتها ودافعها إلى أن تعقد تلك النية في ذلك اليوم دون سواه) وأيضاً ما ملكت بعد ذلك - وأنا موثَّق بقيد انتظارها على بوابة حوش الكنيسة - سوى توطين النفس على التسليم والرضى بما كنت أمقته من مكاره الانتظار.
لميا كانت تعلم أني أكره الانتظار.
في تلك السنوات التي خلت من عمري، كان سقاء فتوتي مترعاً بخمرة التوثب، يفيض بالنشاط. كنت لا أطيق الانتظار. كان الانتظار يوتِّر أعصابي ويشقيني. فكيف كنت سأستطيع - وأنا تحت ضغط التوتر ومَسّ الضجر - أن أزدرد علقمة انتظارها على بوابة حوش كنيستنا؟ أكنت سأستطيع أن أفعل ذلك، لو لم أكن اطلعت منها على علة تأخرها؟ ولو لم أكن تفهمت السبب الذي جعلها تعزم على الاعتراف في نهار يوم ما كان يجمل بها أن تنفق ولو دقيقة واحدة منه على فعل شيء آخر فيه لم يرد له ذكر في الخطة التي كنا وضعناها لقضائه معاً ؟
ما الذي كان سيحجز بيني - وأنا الذي كان لا يطيق الانتظار - وبين أن أغادر موقع انتظاري فأمضي إلى حيث لا أعلم إلى أين أمضي، وتمضي بي قدمي التي كان النزق آنذاك يستبدُّ بها ويوجهها برعونته حيثما شاء، مضحياً بلذة صحبتها في عطلة ذلك اليوم الجميل الواعد بوفرةٍ من متع قلبية وأخرى حسية لا تفوّت؟
في أمسه، قبل حلوله، كنا رسمنا لأنفسنا في مكالمة هاتفية استغرقت وقتاً طويلاً، طالت حتى أغضبت سمرَ ابنة خالتي فيوليت، رسمنا أن نزجي شطراً منه في مطعم السعد العائلي المواجه لبوابة الحديقة العامة بعد خروجنا من الكنيسة على مائدة مما يلذُّ لها - لميا حلبية تتنوَّق في مأكلها، تتذوقه كما يتذوق المثقف فناً من الفنون الجميلة، ولا أبالغ إن ذهبت إلى أبعد من ذلك في تصوير هذه الخصلة التي فيها فقلت إنها تتحسس المآكل كما تتحسس تفاريع الحُبّ الصريح في خلواتنا – ومما يلذ لي أيضاً من طعام يندر أن تعده أمي في مطبخها.
ثم نزجي شطراً آخر من يوم عطلتنا في سير الهوينى بعد تناول الطعام على امتداد قُويق نهيرِنا الجاف (جففته تركيا، وسقفته بلدية حلب لئلا تنتشر منه الأوبئة ) يبتدئ السير من المطعم وينتهي عند مشارف حي الميدان. لا نعبأ بالوقت، لميا كانت استأذنت أمها في قضم سويعات النهار معي خارج البيت إلى حين الزوال فأذنت لها، ولا نستريح من سيرنا المتهادي حتى نصل إلى مشارف هذا الحي.
وأنى لعاشقين في عمرنا أن يستريحا من سير تهزج تفاعيله على وزن خلجاتهما، ورفيف أحلامهما الفتية؟!
لميا، لسوء حظي، كانت رفضت كلّ اقتراحاتي التي عرضتها عليها. رفضت اقتراحي الأول أن نقضي ما تبقى لنا من نهارنا في مشاهدة مباراة بكرة السلة كانت ستقام نهار ذلك اليوم في نادي الجلاء في حي العزيزية، ورفضت اقتراحي الثاني أن نقضيه في إحدى دور السينما، ورفضت أيضاً اقتراحي الثالث أن نقضيه في شقة عمها ميشيل في حي السليمانية حارة النيّال بحجة أنها لن تكون لديها قابليةٌ جسدية للخلوة ( لميا تفقد قابليتها حين تأتيها عادة النساء، فكنت أنا أيضاً أفقد قابليتي على الاختلاء بها على نية الافتراش ) واقترحتْ بديلاً للخلوة وللنادي وللسينما أن نعرج إذا صرنا على مشارف حي الميدان على صديقتها مادلين توما نزورها في بيت أهلها – لم تكن مادلين تزوجت بعد - زيارةً مفاجئة دون موعد مسبق. وقد قبلت اقتراحها على مضض أخفيته عنها. لميا كانت سعيدة باقتراحها فعزَّ علي أن أفسد عليها سعادتها. أذعنتُ لاقتراحها، لم أبدِ لها أيَّ شكل من أشكال الممانعة، أو الرفض، أو الامتعاض رغم أني كنت أخشى أن تجرني تلك الزيارة المقترحة من قبلها إلى أن ألتقي بأخي مادلين الأكبر (دوري) وجهاً لوجه.
ما كان أبغض دوري إليّ وقتذاك!
ما كان أثقل دمه في ميزاني، وأمرّه في قلبي!
كنت أتكدر كلما التقيت به. في صحائفه كنت أقرأ حسداً نافر الحروف على أنْ خصَّتني لميا بحبها. على أنّ هذا الحسد الذي كنت أقرأه في صحائفه، لم يكن في الحقيقة هو الذي يكدرني. كان الذي يكدرني حقيقةً هو الشك في أنه يتحرش بها.
إنني مذ تشككت في أمره أنه يتحرش بها، بلميا! حين تكون لميا في زيارة أخته مادلين بمفردها، أو حين يصادفها أو تصادفه في مكان آخر، ولا أكون أنا بصحبتها، باتت عيني تنفر من رؤيته، ونفسي تتكدر. وما فتئ هذا الشعور لدي بالنفور والكدر يطَّرد نموه مع الأيام ويضطرم، حتى استحال إلى كراهية صامتة صمتَ عُبوّة ناسفة في انتظار لحظة الإيعاز لها بالانفجار.
وما كان شكي في أمر تحرشه بها، قائماً عندي بلا دليل. كلا، كان لدي الدليل، كان الدليل بحوزتي. دليلي، وإن لم يكن حائزاً على صفة المباشرة، فإنه كان دليلاً مقنعاً بل قاطعاً، في نظري على الأقل. دليلي كان ازدراءُ لميا به. لميا كانت تزدري به، تزدريه كلما جاءت سيرته على ألسنتنا ازدراءً كثيراً مبالغاً فيه ربما جاوز حدَّ الاشمئزاز.
بقرفٍ كانت لميا تزدري به. بشراسةٍ كانت تنتقد تصرفاته وآراءه. بأسلوب الرسام الساخر، كانت تضخّم عيوبَه وزلاّتِه. لميا ما كانت تتحرج ألبتة من أن تظهر الوقيعة فيه. حسنُ شمائلها، ما كان يكفُّها عن الوقيعة فيه. من شمائل لميا التسامح والغفران. لكنَّ تسامحها كان مبدأ لا يسري على التحرش، لا ينطبق عليه أو يشمله ويحتويه. لميا كانت تبغض التحرش بها أو بغيرها من الفتيات أشد البغض، وتستنكره منددة بمن يمارسه دون تحفظ أو مراعاة منها لمبدأ التسامح والغفران. التحرش في عرف لميا رذيلة تنتهك كرامة المرأة. وهي مع خوفها الشديد من إظهار رأيها في أي شأن من شؤون السلطة ( إظهار الرأي، كيفما يكن، هو في حسبان لميا نشاط سياسي معارض لسياسة الحكومة عاقبته السجن، والسجن في خيالها إقامة قسرية مخيفة في زنزانة ضيقة قذرة تكثر فيها الجرذان المرعبة، والموت عند لميا أرحم من الإقامة مع الجرذان في زنزانة ضيقة قذرة) كانت تلمِّح تلميحاً إلى موقف السلطة اللا مبالي من هذا الاعتداء يشنُّه الذكور الزعران على النساء. فإذا مازحتها يوماً، كأن أقول لها: العدل غاية السلطة، فإن أصدرت السلطة قراراً بتجريم التحرش، أفلا تكون السلطة حينئذ بقرارها هذا ظلمت الذكور؟ نهضت لي قائلة بعصبية واستنكار: مثلك مثل من يبيح للفقراء أن يسرقوا مالاً ليس لهم بدلاً من أن يعمل على حل مشكلة الفقر. ثم متهكمةً تضيف بعد أن تتلفَّت حولها لتتأكد من أن أحداً لا يسمعها: هو العدل فعلاً أن تراعي السلطة (حق !) الزعران في الاعتداء على كرامة النساء. ما أعدل سلطتنا، ما أعدلها وهي تنحاز للذكور !
فهل كنت غبياً فلا أقدر بسبب غبائي أن أستنبط من ذلك كله أنه كان يتحرش بها، ما إن تسنح له الفرصة؟!
هل كنت غبياً عَيّيّاً فلا أقدر أن أتكلم متسائلاً: فعلام إذن كان ازدراؤها به، إن لم يكن حقاً أنه كان يتحرش بها؟
ولم يثنِني عن اعتقادي بأنه بالفعل لا بالظن والوهم كان يتحرش بها، أنني لم يكن في قبضتي من الواقع مستمسكٌ مادي على تحرشه بها... أنني لم يكن لي عليه شاهد عيان. أنا لم أرَ دوري بعيني يتحرش بها، لم أسمعه بأذني يتحرش بلميا يوماً، كما لم أسمع أحداً قط ادعى عليه أو همس بأنه يتحرش بها. ومع ذلك فقد جاوزتُ الظنَّ إلى اليقين. فتئتُ أعتقد أنه كان يتحرش بها حقاً. كنت مأخوذاً يومها، أو لعلّي...، بفكرة أن الكثير من الظن، لا يتمنّع أن يكون صادقاً، لا يتمنع أن يكون موضوعُه متحقَّقاً في الواقع، وإن لم يتلمسه المرء بحواسه.
أما لميا، فقد نفت عندما بحت لها بما كنت أشعر به حياله، وبالنتيجة التي كنت توصلت إليها بالاستنباط نفياً مطلقاً أن يكون دوري أخو صديقتها مادلين توما، جرؤ يوماً على التحرش بها. لكن نفيها القاطع أن يكون دوري جرؤ يوماً على التحرش بها، فشل في اقتلاع ما كان وقر في صدري من أمر تحرشه بها، كما فشل أيضاً في اقتلاع جذور ذلك الشعور المتعاظم بالنفور والبغض من أعماقي.
وهكذا أمسيت طيلة تلك المرحلة معبَّأً أتحيَّنُ الفرصة للانقضاض عليه.
لميا مدينةٌ أقمتُ فيها ملاوةً: فسيحةُ الأمداء، كثيرة المعالم، متشعِّبة المسالك، عميقة الأسرار، مأهولةٌ بمعانٍ مدرَكة وأخرى غيرِ مدرَكة. وكنت سبرت شيئاً من فسيح أمدائها، وعاينت الكثير مما شخص من معالمها، وجلت في بعض ما تشعَّب من مسالكها، وغصت على طائفة من أسرارها، وأحطت علماً بجملةٍ مما يجهل الآخرون من معانيها.
فهل بعد كل هذا الذي كان لي بها، والذي كان لي معها، يستتر عليّ من خلائقها أنها كانت تحترز من كل أمر يعقبه نكبةٌ وبلاء؟
لميا كانت تفكر بعواقب الأمور قبل حدوثها، ولعلها لم تزل إلى اليوم تفكر بعواقب الأمور قبل حدوثها. ولأني كنت اختبرت هذه السجية فيها، ما كان في مستطاعي أن أنحّي عني فكرة أنها ما كانت تنفي لي تحرشَ دوري بها، إلا خوفاً من عواقب جهرها بتحرشه بها.
من تعلَّم التفكير بعواقب الأمور قبل حدوثها، فمن شأنه – إن لم تصبه السهوة على حين فجأة – أن يخشى على من هو محبوب منه، مقرَّبٌ إليه من عاقبة التصريح على مسمع منه بأمر شنيع تترتب منه عليه (على المحبوب المقرَّب) نتائجُ وبيلة.
أوليست هذه حقيقةً مسلّماً بها؟
إذن فلا بد أن تكون لميا خافت من أن أحطم فكّه، أو أن يحطم هو فكي في عراك عنيف دامٍ لا مهرب من أن ينشب بيننا، إن هي صارحتني بأنه يتحرش بها.
وكان لهذه الحقيقة؛ حقيقةِ خوفها من نشوب عراك دام بيننا، مصداقٌ آخر لدي قد كنت استلهمته من رأي لها في جريمة كنا قرأنا معاً سرداً مسهباً مثيراً لتفاصيلها، ولحيثيات حكم القضاء على مرتكبها في صحيفة يومية لبنانية. أبوها الدكتور باسيل جرمانوس، كان مشتركاً فيها، و هو الذي كان تركها لنا في غرفتها على طاولة الدرس في أمسية من تلكم الأماسي التي كنت أزورها فيها كي أساعدها في حلّ وظائفها البيتية، وفي تقوية لغتها الفرنسية.
جاء في الصحيفة أن شاباً أقدم على طعن شاب آخر في مثل عمره بمدية جزار حتى الموت. كان هذا الشاب عشق فتاة طالبة في قسم البناء والتنفيذ من كلية الهندسة المعمارية. لكن الفتاة سرعان ما نبذت حبه، وانغمست في عشق شاب آخر كان زميلاً لها في الكلية. فلما نبّأته بذلك، تقوضت أركان روحه من صدمة النبأ بل جن جنونه، وطاش صوابه، حتى إنه ليهددها بالويل إن لم تعد إليه، لا يردعه عن تهديدها خوف من عقوبة التهديد، ولا احترامٌ لحقها في الانفصال عنه. والفتاة لاهية عنه، تصمّ أذنيها عن سماع تهديده، تستخف بوعيده، وتصر على رفضها أن ترجع إليه.
كانت تسكن شقة صغيرة في الطابق الثالث من بناية قريبة من الجامعة. وللبناية مدخل يواجهه مقهى على الجانب الآخر من الشارع الفاصل بينهما. في هذا المقهى لا في غيره إنما جلس العاشق المنبوذ عشقُه يدخن ويشرب في انتظار أوبتها من الجامعة.
لم يطل به الانتظار. بعد نحو ساعة من جلوسه في المقهى، آبت الفتاة إلى مسكنها من الجامعة. رآها من مرقبه. لم تكن الفتاة بمفردها. كان بصحبتها فتاها الجديد.
من غير تثاقل بخفة نهض العاشق الذي سيغدو قاتلاً بعد قليل من مقعده واتجه نحوهما، لكنه لم يتمكن من الوصول إليهما وهما في صحن البناية. كانا اجتازا المدخل قبل أن يصل إليهما وقطعا صحن البناية متخاصرين إلى المصعد الذي سرعان ما سيغيبهما عن ناظريه ويرتفع بهما إلى الطابق الثالث، إلى شقة الفتاة.
لم يملك الجاني أن ينتظر عودة المصعد، لم يكن في مقدوره أن ينتظر وهو في أوج رغبته الدموية في الانتقام؛ فيمَّم شطر درج البناية فارتقاه.
أما الفتاة فكانت خلال ارتقائه الدرج، فرغت من توديع صاحبها على باب المصعد، وكانت في اللحظة التي انغلق فيها الباب، وبدأ المصعد يهبط حاملاً معه صاحبها إلى أرض البناية، أولته ظهرها، وجعلت تسير بهدوء واطمئنان في الممر إلى شقتها.
وهي على بعد حوالي عشرة أمتار من باب شقتها، تناهى إلى سمعها وقعُ أقدام خلفها، فالتفتت فأبصرته، وأبصرت علامات الشرِّ تتطاير من كل قطعة لها اتصال بشبحه كما يتطاير شررٌ من حديدة مجمَّرة يطرقها حداد بمطرقة ثقيلة؛ فتولاها ذعر شديد. لكن الذعر لم يشلَّ ساقيها عن طيّ المسافة التي بقيت تفصلها عن باب شقتها.
إن للذعر وظيفةً أخرى. فلكم حرَّر الذعر ساقيَّ المذعور من كل قيد واهباً إياهما خفة كخفة ساقي عدَّاء مدرب على سباق المسافات القصيرة، فإذا المذعور بفضل ما أكسبه الذعرُ من خفة ساق، ينجو مما يدهمه من أخطار !
دفعتْ بابَ شقتها كما يدفعه المغير المهاجم، فتحته، صفقته خلفها بعنف، أحكمت غلقه وهي تلهث. ثم اندفعت نحو نافذتها المفتوحة المطلة على الشارع بفرائصها المرتعدة، فنادت الشاب صديقَها الجديد - ولم يكنِ الشاب ابتعد عن البناية بعد - واستغاثته. فإذا بالشاب، وقد سمع نداء استغاثتها ووعى مضمونه، يقفل راجعاً بل طائراً إليها بجناحين. وهل لحبيب أن ينكص عن نجدة حبيبته أو يتراخى فلا يتسارع إلى نجدتها بجناحيه؟ لكنه في اللحظة التي انقذف فيها من المصعد بقوة حميَّته، وقد بلغ به المصعد الطابق الثالث، انقضَّ عليه غريمه الذي كان تربَّص له في جانب من المصعد، فطعنه بلا رحمة طعنات متتالية مميتة بمدية الجزار، ثم لاذ بالفرار.
لكن الفرار والتخفي لم ينجياه من قبضة العدالة. قُبض عليه بعد أقل من ثلاثة أشهر، وجرى التحقيق معه، ثم تمت محاكمته. فكان الحبس المؤبد مع الأشغال الشاقة عقوبتَه المستحقة.
نتائج قصة حب مؤلمة!
همهمت فور أن فرغت من قراءتها الصامتة. انتشلت عينيَّ العالقتين بالصحيفة، ألقيتهما على وجه لميا. رأيت وجه لميا قد اربدَّ واكتسى بالشحوب. وأدهشني أن أرى وجهها مكتسياً بالشحوب! ما كنت أتوقع أن تتأثر لميا كلّ هذا التأثر من قراءة تفاصيل قصة جريمة واقعية نشرتها صحيفة يومية.
نعم، أنا أيضاً ما كنت تمرجلت عن مركبة التأثر تماماً، وهل لقلب فيه ولو قطرة من الضمير ألا يتأثر لمقتل شاب كزغب البراعم في الطراوة والبراءة؟ لكنّ وجهي بالرغم من ذلك ما كساه الشحوب. أغلب الظن أني كنت ألِفت هذه الجرائم لكثرة حدوثها هنا وهناك في كل نحو من أنحاء العالم؛ فأمسيت لهذا السبب قليل التأثر بها.
ما أكثر جرائم الحب، أعني جرائم المحبين! وهل كانت جريمة عادل بطمان إلا واحدة من هذه الجرائم الكثيرة؟ عادل هو الآخر كان عزم على ارتكاب جريمة فيمن أحبَّ.. عزم على أن يقتل حبيبته في ليلة زفافها. هذا العادل كان يعمل سائقاً لإحدى سيارات جدي على خط حلب – إدلب ونواحيها. أحبّ فتاة من قرية خضراء على شيء من الاتساع تتبع بلدة جسر الشغور تدعى الغسانية، وأحبته الفتاة، فتعاهدا على الزواج. لكن الفتاة نقضت العهد إذ فضلت للزواج رجلاً آخر عليه من أقربائها مغتربٍ يقيم في ولاية أوهايو الأمريكية.
تفجّر جرح عادل من طعنة الغدر. فلما عجز عن تضميده، بيَّت أن يغدر بحبيبته ناكثة العهد – في تصوره – غدراً ليس من جنس غدرها، غدراً أبشع بما لا يقاس من غدر حبيبته. واتخذ للغدر بها آلة مسدساً لا مدية. لكن مسدسه حين ضغط على زناده لم تنطلق منه ولا رصاصة. مسدسه كان فاسداً فلم تتأدَّ محاولته إلى جناية القتل، كما تأدت إليه محاولة المجرم بطل الجريمة المنشورة تفاصيلها في الصحيفة البيروتية. لكن ذلك في رأيي لا ينزع عن فعله صفة الجرم. عادل بطمان كان نوى وقرر أن يقتل. قرر ولم يعدل عن قراره في اللحظة الأخيرة؛ بل شرع في القتل. ولولا أن السلاح الذي حمله معه للقتل كان فاسداً، لكانت حبيبته ترقد رقدتها الأبدية في مقبرة القرية.
قلت في سعيٍ مني إلى التسرية عنها، وأنا أمسح بحنان على ظهر يدها البضة المستلقية إلى جانبي على سطح الطاولة:
- … عادي، فمن الحب ما قتل.
لكنها سحبت يدها ثم أرختها على فخذها العارية المدملجة وقالت بتجهم:
- هذا قول الشعراء ينشده المغنون. أما الحب الحقيقي فلا يقتل.
رفعت حاجبيّ تعجباً، سألتها:
- فما الذي يقتل؟
- الغَيرة !
أجابت بكلمة واحدة حاسمة.
- الغيرة؟ ولكن الغيرة من الحب.
انتفضت لميا وكأني لسعتها:
- كلا ! ليست الغيرة من الحب. الغيرة من الأثرة، من حب التملك. لو كان المجرم يحبها حقاً، لأحب لها أن تحيا لا أن تموت.
وفجأة عطفت عنقها نحوي، أومضت بجفنها، سألتني:
- أتقتلني إذا ابتعدتُ عنك، وملت إلى شاب آخر سواك؟
- أجل، سأقتل.
- تقتلني ؟!
- أقتل نفسي.
صرخت في وجهي:
- اسكت…!
ثم أسرعت فأضافت بلين وبصوت مثير قريب من الهمس:
- إن تقتل نفسك، فكأنك قتلتني.
تحفزت لأن أقول لها إن للحب مخاطره، إنه ليس ربيعاً دائماً، وإنه ليماثل الفكرة الواحدة يكون لها معنى واحد، فإذا تقلدها أشخاص لكل واحد منهم بيئة مختلفة عن بيئة الآخر ولكل شخص منهم طبعه وخلقه ومزاجه الخاص، فالغالب أن تتأثر بما لكل منهم من طبع وخلق ومزاج فتصير متشظية على معان متعددة تعدد هؤلاء الأشخاص المتباينين في النشأة والطبع والخلق والمزاج. لكنها لم تتح لي أن أقول الذي كنت تحفزت لقوله. قامت فجأة، وهي تسوي ثوبها القصير الملتف حول أعلى فخذيها، فغادرتني إلى المطبخ كالمغضبة وعادت وفي يدها صينية فوقها كأسان من عصير البرتقال المبرَّد. لم تكن سحنتها صفت بعد من الغبار الذي كان الكدر ذرَّه فوقها. وفيما هي تضع الصينية أمامي وتتأهب للجلوس على كرسي في مواجهتي قالت دون تمهيد:
- أتدري؟ أتدري أن الحكم على القاتل، كان ينبغي أن يتبعه حكم آخر بالسجن على الفتاة ولو أياماً؟
كدت أشرق بكأسي، هتفت بها:
- لميا، بأي ذنب؟
ردت وكأنها تمتحنني:
- أوتحسب أن صاحبها المقتول، كان سيُقتل لو أنها ما استغاثته؟
توسَّمتُها لعلّي أتأكد من أنها لا تمازحني، فإذا هي جادة كل الجد. أدرت رأسي يمنة ويسرة طفقت أحركه كالمتحسر، ثم سألتها:
- أمرادك أن الذنب ذنب الفتاة؟
- تأنَّ !
هتفت بي، ثمَّ:
- افهم كلامي قبل أن تسترسل... أنا لا أقصد أنها مذنبة بإرادتها. فالقاتل كان قد عزم على القتل بعد أن خطط له؛ أي أن القاتل كان سيرتكب الجريمة في كل الأحوال. أنا أقصد أن الفتاة لما استغاثت بفتاها، تسبَّبت استغاثتُها في مقتله. أفهمت الآن قصدي ؟
- …
- ألم تفهم بعد؟! ما بك؟ أرجوك كفَّ عن تحريك رأسك هكذا كالحردون، إنك تخيفني !
وإذ رأتني أبتسم من طرافة تشبيهها إياي بالحردون، ورأت رأسي كفّ عن تلك الحركة التي زعمت أنها أخافتها تابعتْ:
- لو كنت أنا في مكانها، لما استغثت به. لكنت فكرتُ في ما سينتج من الاستغاثة، قبل أن أستغيث به.
عارضتها:
- ألا يشفع لها أنها كانت في حال لا تسمح لها بأقلّ مهلة للتفكير في العواقب؟
فزمّت شفتيها احتجاجاً، وقالت بصرامة:
- أنت تبرر الخطأ.
- والمحكمة؟ هل بررت المحكمة خطأها أيضاً، ولذلك لم تحكم عليها بأنها مذنبة؟
- للمحكمة ألا تدينها. أما عقلها فسيدينها، وأما ضميرها فسينكِّل به العذاب.
هذه هي الحكاية. وهذا الذي قالته لي لميا في نهاية الحكاية بالحرف الواحد. فهل لعاقل إذا رويتها له ألا يجدها كما أجدها أنا مصداقاً لخوف لميا من عواقب التصريح بحقيقة أن دوري أخا مادلين، كان يتحرش بها؟
بيد أن حكاية اعترافها أمام الكاهن لم تكن من هذا القبيل. ما كان لهذه الحكاية أي حكاية اعترافها، آثارٌ جانبية. فأيُّ سوء يمكن أن يترتب من اعترافها ويضارعَ السوء الذي يمكن أن ينشأ عن تصريحها لي بتحرش دوري بها؟ اللهم إلا أن يترتب من اعترافها أن تتأخر عليَّ قليلاً، ويضطرني تأخرها إلى الانتظار.
وما التأخر والانتظار من جراء الاعتراف إذا قُورِنا بنتيجة المصارحة؟
لميا لم يسبق لها أن اعترفت أمام الكاهن. تلك كانت هي المرة الأولى التي تعزم فيها على الاعتراف أمامه عزماً لا رجعة عنه. قبل تلك المرة، لم أرَ لميا تُظهر - وقد ذكر لها طقسُ الاعتراف - إلا التردد في الإقدام عليه أو اللا مبالاة.
لميا لم تكن من اللواتي تعذبهن الخطايا، بل إنها لم تكن تحسب أنها من اللواتي يجترحن خطايا تستوجب الاستغفار والندم بالوقوف أمام الكاهن. فلماذا عزمت فجأة على أن تعترف؟
هه… ألقي على نفسي هذا السؤال، وكأني لا أدري لماذا عزمت لميا فجأة على الاعتراف!
لابأس. كنت أدري أن لميا ما كانت عزمت على الاعتراف إلا بغية التخلص من إلحاح صديقتها سوسن بنت فارس حسكور صانع الأعواد الموسيقية المشهور.
سوسن كانت تلحُّ على لميا بوجوب الاعتراف... تغريها به بأحسن ألوان الإغراء. أما لميا فكانت تضيق بهذا الإلحاح، كما كنت أنا أيضاً أضيق به كلما صدر من سوسن بمحضري. وإني لو لم أكن أودّ سوسن أحسن الود، لقلت في وصف إلحاحها على لميا بالاعتراف، إنه كان كإلحاح حذاء ضيق على أصابع القدم.
كلانا - لميا وأنا - لم يكن يتشوق إلى أن يحيا حياة الملائكة المطهرة من كل عيب، من كل خطيئة، كما كانت سوسن تتشوق إلى أن تحيا حياتها. شعور بالملل الطاغي.. شعورٌ بالضجر المتلزّج كالعجين، كان ينتاب لميا وينتابني كلما تخيلنا أننا نحيا أو سنحيا حياة الملائكة. حياة الملائكة في خيالاتنا، نحن الاثنين، لم يكن فيها على الإطلاق ما يغري بأن نحياها.
لكن لميا على ضيقها بإلحاح سوسن، لم تكشف يوماً لصديقتها أنها تضيق بإلحاحها. كانت تكبح شعورها بالضيق، تستره عن صديقتها؛ لأنها لم تكن تحب أن تبدو فظة جافية الطبع في نظرها، مع أن سوسن لم تكن صديقة مقربة كل التقريب منها مثل مادلين وابنة عمتي مارييت. فأما لماذا لم تقربها منها تقريبها لمادلين ولابنة عمتي مارييت، فسؤال لست أدري، ولا لميا تدري، كيف الجواب عليه. جميع الفتيات اللواتي كنت أعرفهن، كن يجدن سوسن جديرة بالمصادقة وبالتقريب. سوسن جميلة الأخلاق فعلاً، سيرتها بريئة من الشوائب، وهي ابنة فارس حسكور الذي يفخر الحلبيون بصناعته. يتباهون بأنه صانع أعواد أشهر الموسيقيين وعازفي العود، ما عدا أمي فإنها لم تكن تتباهى بإنجازات الحلبيين ولا بشيء أي شيء له صبغة حلبية تستأهل المباهاة. ذات يوم أخبرت أمي بأني سمعت من إذاعة حلب أن والد سوسن هو الذي صنع لفريد الأطرش عوده، فحدجتني ببصرها وقد تبخترت ابتسامة هازئة على طرفي شفتيها، وقالت: „ وأيّ شيء حسن في العالم كلّه، لم يصنعه الحلبيون؟".
أعرف سوسن. أعرفها مؤمنة إيماناً ثابتاً، عميقاً، متيناً لا تزعزعه عواصف الشك مهما تشتد، مستمسكةً بتقاليد الكنيسة وطقوسها، حريصة على مزاولة فعل الاعتراف بانتظام مرَّاتٍ في كل عام بخلاف لميا.
فلا ريب إذاً في أن تكون سوسن بدافع من هذا الإيمان الثابت العميق، جاشت رغبتها في إقناع لميا بأن تحذو حذوها في ذلك اليوم السعيد. وكيف لا ؟ كيف لا، وقد قرب عيد القيامة، وأوشك أن ينقضي الصومُ الكبير؟ هذا الصوم القاسي الذي لم أكن أنا أصومه، لا لأني لم أكن أطيقه، بل لأني كنت أرى صيامه خالياً من المعنى، في كل مرة يأتي فيها أسأل نفسي لماذا يجب علي أن أصومه؟ أما لميا فكانت تصوم أسبوعه الأول، وأسبوعه الأخير.
كما لا أرتاب أيضاً في أن سوسن كانت سخَّرت كلَّ طاقات عقلها وقلبها في إقناع لميا بأن تحذو حذوها. أنا على يقين من ذلك، لا ينتابني ولا وشل من الشك في أنها قد فعلت هذا. إن هذا أمر معهود ممن بلغ إيمانه هذه الدرجة من القوة والثبات. من شأن كل مَنْ عمُق في صدره الإيمان، أن يسخِّر طاقاته العقلية، ومشاعره العاطفية في إقناع من يتفرس فيه سمةَ الفتور، أو الانحراف عن جادة الإيمان. إنه لمن النادر ألا يكون هذا من شأن كل من عمق الإيمان في صدره.
سوسن لكثرة احتفالها بطقس الاعتراف، تكونت لديها فلسفة خاصة عنه. وكانت لا تني تحاول أن تقنعنا بجدواها. فلسفتها، فلسفةُ الاعتراف بالخطايا أمام الكاهن، ترى أن الاعتراف أجلُّ فائدة من الاسترخاء على كرسي طبيب النفس المعالج لأمراض الروح. وتراه، ترى الاعتراف ندماً صادقاً على ما قد اقُترف من الذنوب، وبوحاً صريحاً يُخرج الأدران من القلب فيطهر القلبُ، كما يُخرج الزفير أنفاسَ الغمّ الفاسدة من الرئتين فتطهُر الرئتان.
لكن محاولات سوسن، لم تنجح يوماً في أن تقنع لميا بوجوب أن تعترف مثلها بخطاياها كي تنال الغفران. وأحسب أنَّ فشل محاولات سوسن في إقناع لميا، هو السبب الذي حملني على الاعتقاد بأن لميا ما كانت عزمت على الاعترف يومذاك، كي تتطهر من خطاياها وتنال الغفران، وإنما فعلت ذلك كي تتخلص بأسلوبها المتحضر الكيّس المرن من إلحاح سوسن عليها. لميا من المستحيل أن تكون في نهار ذلك اليوم الجميل عزمت على الاعتراف لأمر آخر غير التخلُّص من إلحاح سوسن عليها.
وبمَ عسى أن تعترف لميا أمام القس أفرام، وهي التي ما كانت تعتقد أنها تجترح خطايا تستوجب الاعتراف؟ أكانت ستعترف – مثلاً - بأن بشرتها تضامّ بشرتي، كما تتضامُّ أبشار الأزواج على أسرّة المتعة، كلما خلونا خلوتنا في شقة عمها ميشيل جرمانوس؟!
إن هذا لمن المحال، بل هو المحال بذاته! فلا هي ولا أنا كنا نعد خلوتنا خطيئة تستوجب الغفران بالاعتراف، بعكس سوسن والتي لو كانت درت بما كان بيني وبين لميا، لاستفظعته، ولحكمت عليه بأنه خطيئة مقيتة... بأنه جحد لوصية الرب ( لا تزن ) . ولا إخال أنها كانت ستقتنع بأي حال من الأحوال برأينا، لو كنا عرضنا عليها رأينا في هذه الوصية فقلنا لها: إن الزنى لا يكون بين حبيبين لم يرتبطا بعد بالرباط المقدس، بل يكون بين اثنين قد ارتبطا به وخان أحدهما الآخر. ولا أغالي هنا إن أنا قلت إنها كانت ستقطع حبل صداقتنا، لو أننا كنا أبينا أن نرضى بحكمها على خلوتنا بأنها خطيئة مقيتة يجب أن نرتدع عنها ونتوب.
ولأني كنت من الوثوق باستحالة اعتراف لميا بما كان بيننا إلى أقصى درجات الوثوق؛ لم أسألها عما اعترفت به، وقت أن أنهت اعترافها أمام راعي كنيستنا الطاعن في السن، وخرجت إليَّ من الكنيسة لتفكَّ قيد انتظاري. كنت مطمئناً كل الاطمئنان إلى أنها لم تعترف إلا بما تَفِه من أخطائها التي لا تؤرق ضميرها من مثل كذبها على مدرس الرياضيات للتملص من معاتبته، إذا صادف يوماً أن أهملت وظيفتها البيتية مدعية أن صداعاً مفاجئاً ألمَّ بها فغال عقلَها عن حلّ تمارينها.
… كذب أبيض!
هكذا تنعت لميا ما يكون من الكذب على هذه الصورة... تصبغه بالبياض؛ لأنه في رأيها ينفع صاحبه، وربما نفع المكذوب عليه أيضاً. وقد سمعتها يوماً تتساءل: ما دام للكذب فوائد، فلماذا جاء تحريمه في الوصايا العشر بنهي مطلق؟
من غرائب الصدف أن القس أفرام خلَّى مكانه، تنيَّح في اليوم التالي من اعترافها أمامه. فاجأته نوبةٌ قلبية حادة، وهو على مائدة العشاء، حسبما روت زوجته الفاضلة الخورية أم الياس، وهي تشهق. لم يتفاجأ أحد بوفاته. وألا يتفاجأ أحد بوفاته، لم يكن أمراً مثيراً للاستغراب. فأن يتنيح أبونا أفرام حتى من دون نوبة قلبية مفاجئة تلم به، كان حدثاً متوقعاً حدوثه في القريب العاجل من كافة أبناء الطائفة ومن معارفه. لكننا مع ذلك حزنَّا لوفاته، بيد أن حزننا لوفاته، كان هادئاً ما استدرَّ قطرة من مآقينا.
أبونا أفرام كان جميلَ السَّمت، حسن السيرة. بيد أنه كان فقيراً إلى العلم الوضعي والثقافة العصرية. عقله لم يكن يحيط بحقائق الأمور المادية وعللها إحاطته بأمور الدين وشؤون الكنيسة والطائفة. في مواعظه وأحاديثه كثيراً ما كان يلجأ إلى الاستعانة بالخوارق هذه التي لن أدرك غايته من الاستعانة بها، إلا بعد أن أجتاز مرحلة الطفولة، ويأخذَ عقلي يرمّم ما انتقضته تلك الخوارق من بعض تركيبه، ويزيحُ العوائق التي كانت خوارقه المضادة للعقل وضعتها في مسار نموه.
كنا في صغرنا نتردد إلى مدرسة الأحد بعد الظهر عقب انصرافنا من المدرسة النظامية. نحفظ فيها الترانيم والألحان الكنسية القديمة تحت إشراف الراهبة العراقية الموصلية الأخت مقبولة. راهبتنا كان لها صوت منمق المخارج طروب عذب المناهل. وقد يكون الفضل في ترددنا إلى مدرسة الأحد دون شكوى عائداً إليه. الأخت مقبولة راهبة وديعة – أحببناها جماً - وكانت إذا كلمتنا بلهجتها الموصلية، احتجنا إلى مترجم يترجم لنا غير قليل من مفرداتها. وكانت بالإضافة إلى تحفيظنا الترانيم، تلقننا دروساً نظرية وأخرى عملية في الأخلاق المسيحية، وآداب السلوك العامة. أما الملفونو اسحق قره باشي فكان موكلاً بتعليمنا مبادئ اللغة السريانية الفصحى لغتنا، لغة السوريين التي ما زالت السلطات في بلادنا تحظر تعلّمَها في المدراس الرسمية، وكذلك في المدارس الخاصة، وقد أمَّمتها. حكومتنا لا تسمح بتعلمها – مع الأسف - إلا للمتخصصين في بعض فروع الجامعة.
في ليلة من ليالينا الساهرة في مدينة القامشلي، وقد جاء فيها ذكر اللغة السريانية وجرت المقارنة بينها وبين العربية، انبرى آرام، آرامنا هذا الذي ما زلنا ننتظر، ونحن في أسوأ حال، أن تلفظه من جوفها دوّامةُ النهر، دوامةُ الغدر التي على غرة منا نشِقته بحِبالتها فحرّقت قلوبنا، انبرى آرام ليلتها ليعبر عن استيائه من موقف الدولة الظالم منها، من غير أن يحتاط لنفسه من ميخائيل كفرزي ذي النزعة العروبية المحدثة. قال بصوت جهير لا ارتعاش فيه: "دولتنا في الوقت الذي تحظر فيه تعلم السريانية على السوريين أبنائها، لا تفتأ تندد ليل نهار بانتهاكات الأمريكيين البيض حقوقَ سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر ".
لكن ميخا لم يعقب على قوله بشيء، انزوى إلى الصمت!
بعد مرور أشهر على حديثنا، وعلى ما تذاكرناه في تلك الليلة الساهرة، سيتبين لي أن ميخا لا يؤاخذ مَنْ يظهر تعلقه بلغته السريانية؛ لأنه من الجحد – كما اعترف لي فيما بعد - أن ينسى أن لغة والديه هي السريانية، ومن الجحد أن ينسى أنهما توارثاها لا عن أجداده العرب الذين يدعي إليهم اليوم، بل عن أجداده السريان الذين كانوا يقطنون منذ البدء في منطقة طور عبدين (جبل العابدين) وهي منطقة مشرفة كانت جزءاً من أرض سوريا الطبيعية، وغدت فيما بعد من نصيب تركيا الحديثة بموجب اتفاقية سايكس – بيكو.
وها سؤالٌ ينضنضُ لسانَه الآن في ذهني: ماذا لو أن ميخا صديقي والذي صار لي اشبيناً، كان سمع مثل هذا الرفض المغلَّف بالاستياء والنكر لسياسة حكومتنا السورية التي تحظر أيضاً اللغة الكردية على أبنائها الأكراد، يصدر عن زميلنا سردار محمد أمين مدرس الفلسفة الماركسي الكردي الذي سيختفي قبل أن يتحول تعارفنا إلى صداقة بانضمامه - على ما نمى إليّ - إلى حركة الأنصار المقاتلة في شمال العراق؟
أتراه كان سيلزم جانب الصمت، كما لزمه عندما سمع آرام ينفث استياءه؟
قد ألقي السؤال على ميخا، قد أبقُّه يوماً أمام الآخرين من أصحابي رغم أني أعلم جوابه مسبقاً، أعلم أن ميخا ما كان سيلزم الصمت وهو يسمع زميلنا سردار محمد أمين يعبر عن استيائه من حظر الحكومة اللغةَ الكردية على أبنائها.
أما أبونا القس أفرام، فكان إذا زارنا في مدرسة الأحد – ولم تكن زياراته لنا نادرة - جعل يروي لنا حكاياتٍ عجيبة من سير القديسين الأوائل تقوّي، في ظنه وحسبانه، نزعة الإيمان فينا بأسلوبه المشوق الجذاب، وإيماءاته المعبرة ذات التأثير العظيم فينا.
من أغرب ما رواه أبونا من تلك الحكايات العجيبة على مسامعنا الغضة، حكايةُ القديس برصوم الكامل. والكامل لقب هذا القديس. قال لنا في تفسير معناه إنه لقبٌ للذي يبلغ من الرهبان المتبتلين الزهاد درجةَ الكمال في التعبد والإيمان وإماتة الشهوات.
وأنا ما تذكرت هذه الحكاية، إلا وابتلَّ قلبي من تذكارها بحنين إلى الطفولة الساذجة المغمضة القلب والعينين، حنينٍ مبهم إبهام الرِكْز يلامس الأذن ولكنه يستغلق عليها لخفائه فلا تعي الأذن شيئاً مما يحمله إليها من المعاني.
كان القديس الكامل برصوم - وبرصوم هو ابن الصوم بالسريانية أي الصَّوّام - منقطعاً عن العالم، معتكفاً في مغارة من مغاور جبل إيزلا المطل على مدينة نصيبين التاريخية، في عصر لم يكن العرب المسلمون فيه، ولا الأتراك العثمانيون ظهروا للتاريخ قوةً مسيطرة حاكمة على المدينة المغرقة في القدم. وكذلك الأكراد فإنهم في ذلك العصر، لم يكن لهم في المدينة من وجود.
في ذلك العصر، كانت مدينة نصيبين حاضرة من حواضر السريان، ذات إشعاع علمي وفلسفي وديني. كما جاء وصفها في كتب مؤرخينا الثقات. والمدينة يومئذ بيد الروم الذين كان الصراع بينهم وبين منافسيهم الفرس مستعراً، وقد ظل مستعراً بينهما لم يفتر حتى أنهكهما معاً.
حدث مرةً أن ضرب الفرس الحصارَ على نصيبين في إحدى حملاتهم المتكررة عليها. فلما طال أمد الحصار المضروب عليها، وفرغت أهراءُ المدينة من المؤمن المدَّخرة، تلعلع الناس من الجوع، وتضوّروا. والجوع فاتكٌ يبطش ولا يرحم. إنه شر فظيع، بل إنه لأفظع من كل الشرور التي يمكن أن تنزل بالإنسان. فأيُّ شر أفظع، وأفدح من الجوع يدمر وعي الجائع حتى ليأكل الجيف والقطط والكلاب.
( لم يرو لنا أبونا أفرام، ولعل ذلك من إشفاقه ورفقه ببراءة طفولتنا، عن الجوع أنه قد يضطر الجائع إلى أن يأكل لحم بشر من جنسه، لم يقل لنا إنه قد يضطره إلى أكل لحم طفل من صلبه. مؤرخو الغلاوات والمجاعات سيروون كلّ شيء عن الجوع، عن فظائعه، لن يشعروا بالحرج وهم يروون عنها. وهل من حرج في سرد أحداث التاريخ مهما تعظم وتفظُعْ على مسامع البالغين؟
من هؤلاء المؤرخين المقريزي الذي سأقرأ كتابه وأنا في الجيش أؤدي خدمتي الإلزامية. أعارني إياه رفيق لي في السلاح اسمه راسم أبو شقرا من صلخد. وصلخد بلدة تابعة لمحافظة السويداء.
كان راسم أبو شقرا، أعارني كتاباً آخر حوى بين دفتيه مناظرة الشيخ محمد عبده وفرح أنطون. في ليلة واحدة وأنا مستلق على سريري في الخيمة وعلى ضوء مصباح شحيح، قرأت الكتاب دفعة واحدة. فإذا برأيي السابق المكتسب من تاريخ العرب الحديث في حقيقة الشيخ من جهة إنه مصلح، يتصدع فينهدم.
يا لمصادفات دنيانا، ما أغربها ! بعد أعوام من ذلك التاريخ، وأنا في القامشلي مدرساً للغة الفرنسية، سأشهد مجادلة نارية حول الشيخ محمد عبده في غرفة المدرسين وقت تصحيحنا لأوراق امتحانات الفصل الأول، بين سردار محمد أمين، وزميلنا الآخر مدرس اللغة العربية عبد الرحمن معزول، وكلاهما كُرديٌّ، لكنهما كانا على طرفي نقيض في طريقة التفكير والسلوك، وكذلك في النظر في قضايا العصر، وفهم أحداث التاريخ. يومذاك عصفت بي الدهشة عصفاً، وأنا أسمع سردار يطرح بصيغة التحدي على عبد الرحمن الأسئلة نفسها التي كانت جالت في ذهني عقب أن فرغت من قراءة تلك المناظرة في الخيمة ليلاً على ضوء ذلك المصباح الشحيح، والتي كنت تداولتها بعد ذلك مع راسم أبو شقرا دون حذر؛ لأن راسماً لم يكن من الذين يوقرون الشيخ:
ما الذي أصلحه هذا الشيخ؟
فإن كان أصلح حسب زعمك فأين آثار إصلاحه؟
أهي في هذه الجرائم المنكرة التي يجترمها اليوم أخوانُ الشياطين؟
ثمّ تعال إلي، وقل لي: ألست تؤمن بأن دينك من صنع إلهك؟ إن كنت تؤمن حقاً بذلك، فأنى لك أن تصلح ما صنع إلهك؟ إن أصلحت فقد أصلحت خطأ. فهل أخطأ إلهك فاحتاج إليك فدعاك لتصلح ما أخطأ في صناعته؟
وزميلنا الأستاذ عبد الرحمن معزول يتميز غيظاً، ويرد بانفعال حاد أفقده الحجةَ والاتزان. ولولا تدخُّلٌ منا ثم من المدير فيما بينهما لتحولت المجادلة إلى مُشادَّة تسيل فيها الدماء ) .
ولأن الجوع فظيع مرعب وأوجاعه لا تطاق، ضجّ أهل مدينتنا منه بصياح لجب، واصطراخ منكر عظيم أمام مبنى قائد حامية المدينة حيث كانوا تجمهروا هناك كي يطالبوه بفتح أبواب المدينة للأعداء، بعد إذ أصاب الجوع عزيمتَهم على الصمود بالخور والإنكسار.
ولأنّ قائد حامية المدينة كان يئس من وصول المؤن والإمدادات العسكرية التي كان القيصر وعد بإرسالها من القسطنطينية، فإنه لم يجد بداً من الرضوخ لما يطلبه منه أهل المدينة. هكذا بات الإذعان لشروط الاستسلام المهينة، والرضى بالعبودية، أرحم من الهلاك جوعاً. فدعا القائد بخلصائه ومستشاريه من السريان واليونان ليرى ما عسى أن يكون الرأي عندهم. فلما اجتمعوا في مجلسه تشاوروا، وتجادلوا، وتبادلوا الرأي طويلاً حتى قرَّ قرارهم بالإجماع على أن يُستجاب لطلب الناس بفتح أبواب المدينة للعدو، وبإلقاء السلاح تحت قدميه.
لكن امرأة سريانية حكيمة من أهلها، كان لها رأي آخر يخالف إجماع أهل المدينة وحاميتها على إعلان الهزيمة، وتسليم مفاتيح المدينة للأعداء.
لم يكن المجلس انفضَّ بعد، حين دخل حارسٌ موكَّل بالباب فأبلغ القائدَ أن بالباب امرأة تستأذن في الدخول عليه. فأشار القائد إليه أن ائذن لها بالدخول. فلما مثُلت بين يديه، سألها عما جاء بها إليه. فأجابت بلغة يونانية فصيحة وجيزة بلا حشو ولا اضطراب قائلة: قد جئت إليك بأمر فيه إنقاذُ المدينة من شرّ الأعداء. ولكن القائد إذ سمع ذلك منها، تعجب من اجترائها على النطق أمامه بقول ليس فيه إلا المحال، كما تعجب كل من كان حاضراً في مجلسه مما سمعوه منها وعدّوه فاسداً لا يليق نطقه بمقام القائد ومستشاريه. وكاد القائد يأمر بطردها لولا بقية من الحلم أبت إلا أن يصغي إليها حتى يقف منها على جلية هذا الأمر المحال الذي ادَّعت أن فيه إنقاذَ المدينة. قال في نفسه: من يدري، فعسى بعضُ المحال أن يصير ممكناً ! ثم إنه بعد أن قال هذا في نفسه، سألها: وكيف ذلك أيتها الإمرأة؟ فردت الحكيمة بصوت انبعثت منه رنة حلوة من رنات الرجاء: قد رأيتُ خلاص المدينة على يد القديس برصوم الناسك فابعث أيها القائد في طلبه ليحضر فينقذها.
لكن القائد امتعض من ردها، تساءل وقد ارتسمت الخيبة على جبينه: وأنَّى لناسك قد استوحش عن الناس، أن يكون خلاص المدينة على يديه؟ فأسرعت المرأة الحكيمة فعقَّبت على تساؤله بمنتهى الثقة والجرأة: قد أودع الله في يديّ قديسنا الناسك سرَّ خلاص المدينة !
سألها القائد في غلظة: فلماذا لم يأتِ إذاً لينقذ المدينة، ما دام الله كما تزعمين قد أودع سرّ خلاص المدينة في يديه؟
سيأتي، أجابت الحكيمة، وقد أرسلني إليك لأبلغك أنه سيأتي إذا ما أرسلت أنت في طلبه.
هل كنتِ في زيارته؟ سألها القائد فجأة، فأجابت: لا، لم أكن في زيارته، ما زرته مذ بدأ الحصار، وإنما جاءني في الحلم.
من جديد لاح الضجر في وجه قائد حامية المدينة، لكنه تصبّر عليها، في هذه المرة أيضاً، قال لها بخشونة وبشيء من الهزء: وما الذي بيد هذا الناسك أن يفعله، غير أن يصلي ويرفع الدعاء إلى الله مثل كهنتنا وأهل مدينتنا الذين ما فتئوا منذ بدء الحصار إلى اليوم، يجأرون في الكنائس إلى الله أن ينقذ المدينة، والله غافل عما يجأرون؟
لكنّ المرأة الحكيمة لم يثبط عزمَها كلامُ القائد، ولا أثبطه ما لاح في وجهه من علامات الضجر ونفاد الصبر وفي صوته من الخشونة والهزء. ردت بإصرار امرأة تملك مقلاد اليقين: خلاص المدينة معجزة ستظهر على يد هذا الناسك القديس. فليتك تستدعيه أيها الشجاع الأمين على هذه المدينة فتستجليَ كراماته!
أطرق القائد هنيهة، ثبَّت بصره في نقطة من الأرض عند قدميه، وجعل يكلم نفسه في سره بصمت: "ولم لا؟ فلنختبر صدق كلام هذه المرأة. فلنستدعِ إلينا الناسك. فما الذي سنخسره إن نحن استدعيناه إلينا لنرى ما عسى أن يتحقق على يديه، قبل أن نبدأ بتنفيذ إجراءات قرار تسليم المدينة؟ إن تأخير تسليم المدينة ليوم واحد، لن يكون فيه هلاك أهل المدينة“.
ثم إنه رفع بصره بعد ذلك الكلام عن الأرض، وأخذ يجيله في الجلوس من مستشاريه وخاصته كي يجتذب كلّ انتباههم. فما إن استوثق من انتباههم، حتى سألهم القولَ فيما سمعوه من المرأة. فقالوا جميعاً بصوت واحد: هذه المرأة حكيمة وهي على رأي قويم. فمن الخير أن يُؤخذ برأيها.
وللوقت – وكان الظلام قد انسدلت سجفه على المدينة - بعث القائد في طلب القديس رجلاً دلّته عليه المرأةُ الحكيمة، كان خيرَ من يعرف من الرجال كيف يسلك إلى مغارة القديس برصوم تحت ستر الظلام فيجيء به؛ من غير أن ينكشف لأعين الحراس من جيش فارس.
في منتصف الليل رجع الرسول إلى المدينة وبصحبته القديس. فلما دخل به إلى مجلس قائد الحامية، ونظره القومُ الساهرون المجهدون، أنكروا سحنته، كما أنكروا سبَدَه الخلَق البالي وقد برزت منه عظامه القتماء، واسترابوا في أن تكون له كرامات. أما القديس الزاهد، فإذ علم بما خامر نفوسهم منه، فإنه أبدى السماحة وغضَّ الطرف عنهم، ثم عجل فطلب منهم أن يأتوه بملء صَوعٍ سمسماً. فنفذوا له طلبه، أتوه بصوع من السمسم بعد ما كدوا في البحث عنه؛ لأن السمسم كان عزَّ وجوده في المدينة، وندر ندرة سائر أنواع الحبوب. تناول القديس بيده اليسرى صواع السمسم وخرج فمضى إلى السور، فجعل يطوف به على أونٍ. وهو في طوافه يمد يده اليمنى إلى الصوع فيستخرج منه حباتٍ من السمسم بأنامله التي بدت وكأنها قد تسخمت بسواد قدرٍ. ثم يأخذ فينثر حبيبات السمسم خلف سور المدينة. وما زال يفعل ذلك حتى استكمل الطواف بالسور جميعاً. فلما استكمله، تهاوى على ركبتيه جاثياً على باب السور الشرقي، وشرع يصلي بصمت رزين. ظلَّ القديس الناسك مستغرقاً في صلاته الصامتة الخاشعة على باب ذلك السور حتى بزغ الفجر وأضاء. وفي اللحظة التي أضاء فيها، نظر قائد حامية المدينة والذين كانوا معه إلى أسفل سور المدينة حيث كان القديس نثر حبات السمسم، فأبصروا فوارس أشداء لا يحصى لهم عدد، مدججين بأحدث آلات الحرب وأشدها فتكاً، في صف ملتوٍ على مدار سور المدينة.
في البدء ظنوا الذي رأته أعينهم وهماً. خالوا الذي رأته كمثل الذي ييبتعثه الخيال حين يكون صاحبه بين اليقظة والمنام. وبينما هم في شبه غيبوبة كغيبوبة المسحورين، يفركون أعينهم، ويتحسسون بعضهم بعضاً، إذا بفرسان السور يتحركون فيكرون على جيش الفرس، وإذا بجيش الفرس يدبّ فيه الرعب، وتخونه الشجاعة فلا يقدم بل يدبر مخذولاً مهزوماً بلا انتظام تاركاً خلفه عتاده ومؤنه وخيمه بما حوت غنيمة لأهل المدينة.
رحم الله القس أفرام ! كان مؤمناً بقدرة القديس على خلق فرسان مدججين بالسلاح من حبات السمسم. ولأننا كنا مثله نؤمن بأن الرب قادر أن يصنع كل أعجوبة على يد القديسين، لم تختلج في عقولنا الصغيرة آنذاك ريبةٌ في معجزة القديس برصوم التي رواها لنا، ولم نستغرب شيئاً مما قاله لنا في موعظته تلك التي ألقاها علينا في نهاية الحكاية " أرأيتم ؟ أرأيتم كيف استجاب الرب لدعاء القديس برصوم الكامل مكافأة له على إيمانه فصارت كل حبة من حبات السمسم التي نثرها خلف سور المدينة فارساً شاكي السلاح يبث الرعب في معسكر جيش الأعداء؟ " ولا أنسى كيف كان يتجول في أثناء الوعظة بعينيه الوديعتين الغائرتين في وجوهنا المتقلصة المحمرة من شدة انفعالنا بالمعجزة، وهو يتخلل لحيته الرمادية الكثة الطويلة بأصابعه التي كان الزمن قد جففها وأبرز عروقها، وابتسامةُ الواثق من صحة ما رواه لنا تلتمع فيهما مثل التماع قطرات الندى على أوراق النبات.
وهل أنسى حضَّه إيانا على تعلم السريانية بإيهامنا أنها لغة الله، ولغة أهل الجنة؟
أبونا أفرام كان يسمعنا كلما زارنا عبارته المأثورة: " من ينطق بالسريانية، يتبوأ مكانه في أحسن جوقة إنشاد لمجد الرب في الجنة " وكنا نصدق ما يقوله لنا كما كنا نصدق المعجزات، كنا صغاراً !
كان القس أفرام غيوراً على الماضي ماضينا. كان يخاف أن ينقطع إصارنا به. وقد يشفع له هذا.
لكني لم أكن أُسرُّ بعبارته تلك حين أسمعها. كنت تعلمت كيف أقرأ حروف لغتنا، تعلمت بعض قواعدها، لكني لم أستطع أن أتكلمها كما كان ينبغي أن يتكلمها من سيتبوأ مكانه في أحسن جوقة إنشاد في الجنة. وهل كان في مقدوري أن أتعلمها فأتقنها وأنا ليس عندي حوافز مغرية لتعلمها والنطق بها، مثل تلك الحوافز التي كانت لي لتعلم الفرنسية والعربية؟
إن الحوافز هي التي تصنع الإنسان. ولم تكن لدي حوافز لتصنع مني منشداً في أحسن جوقة إنشاد في الجنة.
جدي الذي من انطاكية، كان يحب أن أتقن السريانية وأن أتعلم النطق بها، كان يتمنى أن يراني أترجم ما لم يترجم بعد من ذخائرها، مثلما كان يتمنى أن يراني قبل أن يموت أترجم عن الفرنسية. أمي الحمصية التي من زيدل كانت هي أيضاً تشجعني على أن أتعلمها. ولكنْ لا جَدّي ولا أمي كانا يتكلمانها. وكذلك أهل حلب، فإنهم أيضاً لا يتكلمونها، استبدلوا العربية بالسريانية بعد أن استتبت للعرب السيطرةُ على المدينة، ونسوا تاريخها. صار تاريخ حلب عندهم يبتدئ من غزو العرب لها، وكأنها قبل غزوهم الاستيطاني لها، لم يكن لها وجود. نسوا حتى معنى اسمها (حلب) فإذا ما شاء أحدهم أن يفسره، فسره على معنى اللفظ العربي. وقد سمعت يوماً مؤرخاً من مؤرخي حلب في محاضرة له في المركز الثقافي يقول في اسمها بكل ثقة إنه من الفعل (حَلَبَ) ثم سمعته يمضي فيفسر الفعل بأسطورة عجيبة. زعم أن ابراهيم الخليل لما حلّ بالمكان، وجاء وقت الحلب، حلب أغنامه فيه. فسمي المكان من ذلك الوقت حلب.
لا شك في أني لو كنت نشأت في بيئة يتكلم فيها الناس السريانية، لكنت أتقنتها. لم يكن الاستعداد الفطري لديّ لتعلم اللغات وإتقانها، ضعيفاً.
وأكاد الآن أبتسم! أكاد أبتسم في يوم نحس مرير، أبتسم في يوم قد استطار شؤمه في أضلعي، وفشت أوجاعه في دمي!
حدثٌ عابر يشق طريقه الآن في تضاعيف الذاكرة. حدث وقع لي في اليوم الثاني من وفاة القس أفرام. وأنا إنما من تذكُّر هذا الحدث أكاد أبتسم، لا من تفسير المؤرخ الحلبي لاسم مدينتنا.
كنت في زيارة لميا يومذاك. لميا كانت هاتفتني تطلب مني مساعدة عاجلة لحلّ وظيفة من وظائفها تعسَّر عليها حلها. ذهبت إليها سعيداً. حلُّ وظيفتها لم يأخذ منا وقتاً طويلاً. وبينما أنا أحتسي القهوة التي أعدتها لنا شقيقتها نيللي، خطر لي أن أداعبها بوجه من وجوه الدعابة المبطنة. قلت لها وأنا أصطنع جِدَّاً زائفاً:
- الجميع صدَّق أن القس أفرام مات بتأثير نوبة قلبية.
وسكتُّ، فسألتْ لميا:
- وأنت؟ ألا تصدق أنه مات بها؟
- لا أصدق.
- لا تصدق؟! فبم مات إذاً، إن لم يكن مات بها؟ ما سبب وفاته؟
- أنتِ...
قلتها وأنا أبذل جهداً غير قليل في المحافظة على ما كنت اصطنعته من جدٍّ زائف، لكن ذلك لم ينطلِ عليها، أدركت لميا في الحال أني أعابثها:
- ماذا كنتَ تقرأ قبل مجيئك إلينا؟ آغاثا كريستي مثلاً؟
تهكمت بي، لكني لم أظهر احتفالاً بتهكمها، تابعتُ على الوتيرة نفسها:
- إنها الحقيقة، أنتِ السبب في وفاته.
- أنا؟ وكيف ذلك يا حضرة المحقق؟ هاتِ أتحفنا
- ألن تغتاظي؟
- لن أغتاظ. علام سأغتاظ؟
- بالأمس القريب اعترفتِ بذنوبك، أليس كذلك؟
- أي، وماذا بعد؟
- رميتِ بخطاياك عليه، فكانت النتيجة أنِ انهدم المسكين من ثقلها !
وكدت أستغرب في الضحك حين سمعت ردها:
- واو، ما كنتُ أعلم أن لدي موهبةَ الإماتة، جميل منكَ أن نبَّهتَ علمي بها ! غداً قبل أن يأتي يوم العيد، سأذهب لاعترف أمام (دوري) بذنوبي وخطاياي.
لميا هي لميا، ما أسرع بديهتها! ثم فكرت حين استعدت المشهد في ذهني وأنا عائد في طريقي إلى البيت: لو أن لميا كانت حذفت اسم دوري ووضعت اسمي في موضعه، أفما كان ردُّها حينئذ أشبهَ ردَّ الكيد في نحر صاحبه؟
ترى هل كان القس أفرام يعلم أنه في تلك الليلة سيموت؟ لا أحد يعلم متى سيموت في أي ساعة إلا الذي يقدم على الانتحار. طبيعتنا تحجب عنا العلم بساعة موتنا لئلا تفقد الحياة فينا قدرتها على الاستمرار كما يجب أن تستمر. نحن نعلم أننا سنموت، ولكننا نحيا مع ذلك وكأننا لن نموت.
فلو فُرِض أن القس أفرام كان علم أنه في تلك الليلة سيموت، فما الذي كان سيفيده من علمه بموته في تلك الليلة؟ هل كان سيفيد من علمه به غير الذي أفاده منه الجد يونان ديراني؟
ابن عمتي يونان هو الذي أخبرني أن جده علم بقرب وفاته – لم يعلم ساعة وفاته - وقت أن جاء إلي حيث كنت أقف في ذلك اليوم الأنيق على باب الكنيسة أنتظر أن تنهي لميا اعترافها أمام القس أفرام وتخرج إلي.
يونان ابن عمتي عندما ارتد عن سيارة والده التي ستنقل جده المريض إلى البيت، ووقف إلى جانبي، لم تكن غايته من وقوفه إلى جانبي أن ينتظر فتاته كما كنت أنا أنتظر لميا. فتاته كانت تختلف مع والديها وأشقائها إلى كنيسة اللاتين في حي العزيزية أيام الآحاد. كانت غايته من ذلك شيئاً آخر. كانت في نفسه حاجة لأن يبثَّني حزنه وتحسّرَه على جده. تكشفت لي حاجته هذه فور أن زفر زفرته تلك كادت تنحبس في لهاته
: „... الموت ورضيناه، فعلام يا ربِّ بهدلة العجز والهرم ؟ „ .
زفرة يونان تلك كانت صادقة صدق حكمة منتزعة من التجارب الطويلة. لذا لم يسعني بإزائها غير أن أصادق عليها بهزة من رأسي حشوتها بمعان صامتة غامضة. ولأن يونان استرسل مفضياً إلي بكل ما كان احتشد في صدره، حالما رآني أهز رأسي بتلك الهزة الغامضة، قدرت أنه خالها مكتنزة بمعاني التراحم:
- شدّما يؤسفني أن أرى جدي وهو ينحدر نحو النهاية، لو تعلم! أمنية جدي كانت أن يعيش إلى اليوم الذي يراني فيه أدخل الجامعة. فعاش جدي حتى رآني دخلتُها. لكنه ما إن اطمئن قلبه بتحقق أمنيته تلك، حتى جدَّت في نفسه أمنيةٌ ثانية أن يطول به العمر كي يشهد حفل زفافي، وكي يشبعَ بعد ذلك عينيه الجائعتين إلى رؤية خلفتي.
فجعلت بلغة من يبث أملاً في قلب ملأه القنوط، أواسيه:
- سيعيش جدك حتى تقرَّ عيناه برؤية ذريتك. لا تخف! ما تمنى امرؤ شيئاً إلا وكان.
لكن تعزيتي، لم تحدث في نفس يونان الأثرَ الذي رجوت أن تحدثه فيها. رأيته يشيح بوجهه عني، يغرس بصره في الموضع الذي كانت سيارة والده وقفت فيه منتظرة جده لتقلَّه إلى البيت. وظلَّ بصره عالقاً بذاك الموضع، حتى سمعته يتمتم في أسى جشيش:
- كلا، في هذه المرة لن تتحقق أمنية جدي !
سألته بسذاجة:
- أتعني أنه مزمع على الرحيل ؟
فإذا بصوته يختنق وهو يجيب:
- بل هو مرغَم على الرحيل.
- متى؟
سألته متلهفاً على الجواب، لكنه لم يلفظ جواباً. قلب شفته السفلى إشارة منه إلى أنه لا يدري. وقد يكون أراد بها أنه يدري ولكنه لا يحب أن يخبر بما يدري.
- والطبيب؟
- تكهن له بشهر أو شهرين في أحسن الأحوال.
- أيعلم جدُّك بدنوّه؟
- جاهره الطبيب بالحقيقة.
- أما كان خيراً له ألا يعلم؟
- حبّذَ الطبيبُ أن يعلم.
- لماذا؟
- ربما أحبَّ له أن يستعد للرحيل.
- حتى في أرذل العمر، لا يحب الإنسان أن يرحل عن دنياه، إلا في حالات من اليأس القاتل! إنه ليجالدها إلى آخر كُريَّة بيضاء وحمراء تجري في عروقه، لعلَّ نفَساً في أجله يُزاد له. كيف استقبل جدك النبأ؟
تنهد يونان حتى انتفخ صدره ثم قال:
- أظهر اللا مبالاة، كأن الأمر لا يخصُّه. لكنه ما إن انصرف الحكيم، حتى طلب مني أن أجلب له الكتاب المقدس.
- على أيّ سفر فتحه؟
- لم يفتحه على سفر. وضعه في حضنه وأخذ يترنم بنجوى أيوب التي يحفظها عن ظهر قلب: „ عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود إلى هناك".
سألته بغلاظة:
- أهذا كلُّ ما انتفع به من علمه بدنوِّ الموت منه؟
تغير وجه يونان فجأة، ردَّ بامتعاض:
- وبم عسى أن ينتفع شيخ آيل إلى الزوال؟
إلا أني لم أبالِ بامتعاضه، مضيت أسأله:
- فإن كان المرغم على الرحيل يافعاً لا شيخاً آيلاً إلى الزوال، ففيم ينفعه علمه بقرب رحيله؟
رمقني بنظرة ساكنة. ولدهشتي لم يهمل الإجابة عن سؤالي. أجاب بنبر متوتر:
- اليافع قد يصبح علمه برحيله دافعاً له إلى إشباع حواسه من مباهجها.
استفزني قوله. اندفعت أرد عليه رغم أني كنت تلمست خيوط حزنه وكآبته بحواسي. كان اللائق بي أن أصمت، أو أن أعمد إلى استبدال الموضوع بموضوع آخر، لكن اللياقة خانتي في تلك اللحظة، قلت بسماجة:
- وقد يكون علمه بموته سبباً في تدمير طاقته الروحية وفي فقدانه الرجاء والأمل. ومن يفقد الرجاء والأمل، فهل تظن أنه سيجد نفسه في وضع يمكّنه من أن يغرف لحواسه من مباهجها؟ وفي كل الأحوال، هل يجدي العلم بالمصير نفعاً، والمصير محتَّم؟
تأفف يونان ضجراً. سألني وهو يهمَّ بالابتعاد عني:
- إلامَ تبغي الوصول بعد كل هذا القيل؟
أجبت متفكهاً، بنبر هامس، إذ إني في اللحظة نفسها لمحت لميا تطل علي من باب الكنيسة بفتنتها المترفة:
- أبغي الوصول إلى لميا. أإلى غير لميا أبغي الوصول؟
لم يرقّ له شعوري كما كان يجب أن يرق له. لكأني استهترت بحزنه على جده، وهو حزن كان يضارع في شدته حزني على جدي يوم ودّع جدي الدنيا. هل كنت فارغ القلب من الدم، أو كان قلبي مستكناً في علبة من حديد فلم ينفذ إليه ما كان يؤجُّ في وجدانه من انفعالات حارقة؟ حقيقة الأمر أني كنت متأثراً لحاله. لكن حزنه لم ينتقل إليّ، فيجعلَني مثله حزيناً إلى درجة يجف معها إحساسي بصخب الفتنة الصادرة عن لميا.
إن الحزن شعور. والشعور كالإحساس لا ينتقل من نفس إلى نفس كما تنتقل الأفكار من ذهن إلى ذهن. فإذا وخزتني شوكةٌ - مثلاً - فإن الألم الناجم عن وخزها، لن ينتقل إلى شخص آخر جالس إلى يميني، أو واقف بحذائي، حتى لو أحسّ الشخص أنها آلمتني إذ وخزتني.
أما الأفكار من مثل فكرة أن لا أحد يملك الشمس، أو فكرة أن المنحدر واحد في الصعود والهبوط، أو فكرة آرام أنَّ الدين والسياسة إذا ائتلفا، كان من ائتلافهما بلاء ومحنة، فما أيسر أن تنتقل هذه الأفكار وما شاكلها من ذهن شخص إلى ذهن شخص آخر دون عائق كما تنتقل شعلة النار من شمعة إلى شمعة.
إن استحالة انتقال الشعور وكذلك الإحساس من شخص إلى شخص، حقيقة بسيطة. لكنها مع بساطتها، كانت خافية علي. ولم تزل خافية علي حتى شاء لي الحظ أن أطلع عليها في كتاب لمؤلف فرنسي لا يحضرني اسمه. وكان ذلك بعد تخرجي من الجامعة.
يغيظني كثيراً أنني إلى اليوم، ما استطعت أن أتوصَّل بعقلي وبجهدي الخاص إلى اكتشاف فكرة واحدة تستحق أن يؤبه بها ! حتى الأفكار التي يخيل إلي أحياناً أني توصلت إليها بعقلي وبجهدي الخاص، سرعان ما يتكشف لي أن آخرين قد سبقوني إلى اجتنائها. وأنا كلما نخسني شعوري بأني عالة على الآخرين.. أقتات بجنى أغراسهم، لا أحتدُّ، لا أكره نفسي وحسب، بل أتضاءل حتى لأراني أضأل من خلية في جسم برغوث.
في أعوام خدمتي الإلزامية في الجيش، انطبعت في ذهني فكرة النهي عن ذم الحرب واعتقدت أنها من ابتداع ذهني. وهي فكرة كنت استخلصتها من مجريات حياتي العسكرية، من مشاهداتي عتاد الجيش، وآلياته، ومستلزماته المادية، وميادين خدماته. فثبت لدي من تلك المشاهدات أن الحرب حافز على الاختراع، وثبت لدي أن النهي عنها لا غناء فيه. فما دامت الحرب حافزاً على الاختراع، فلماذا النهي عنها؟
و كنت سعيداً باستخلاص هذه الفكرة بجهدي الخاص.
بيد أن سعادتي – ويا للأسف! - كانت قصيرة الأمد قصرَ أمد سعادة البنفسجة الطموح لجبران خليل جبران. فما هو إلا أن يمرّ عامٌ على استخلاصها، حتى أصدم بأنها فكرة قديمة قد تعاورها الكثيرون من قبلي بعقولهم المدببة المسنونة.
على أنَّ خيبتي التي نتجت عن علمي بأني لست مبدع فكرة النهي عن ذم الحرب، إن كانت محقت سعادتي، فإنها لم تمحق يقيني بجدوى فكرة النهي عن ذم الحرب.
حاول آرام عبثاً أن يوهن يقيني بجدوى الحرب بحججه التي لم تكن دائماً واهية. آرام لم يكن يرى في الحرب خيراً ألبتة. الحرب في رأيه، دمار وفواجع. الحرب في رأيه لا تنتج شيئاً آخر غير الدمار والفواجع. هي الشر مطلقاً، وآرم كان خصماً لكل شر.
أسرَّ إلي في سهرة من سهراتنا أنه كان آلى على نفسه يوم كان مجنداً في سلاح المشاة، ألا يقتل عدوه متى اندلعت الحرب فأرغمته على مواجهته بسلاحه. فقلت له: لكنك إن لم تقتل عدوك في الحرب قتلك. فرد علي رداً أدهشني: إن شاء عدوي أن يقتلني فليقتلني، أما أنا فلا أقتله. ولأجل أي شيء أقتله؟ أمن أجل حفنة من تراب؟ أمن أجل أرض لن أقيم فيها مدى الدهر، ولن يقيم هو أيضاً فيها مدى الدهر؟
قلت مداعباً: إن تدعه يقتلك، بكت عليك أمك. لكنه لم يعدم الرد على دعابتي، قال: وإن قتلته أنا، فستبكي عليه أمه. قلت: أمُّه هي أمُّه، وأمك هي أمك. قال: الأم هي الأم، وهل يتغير معنى الأمومة بتغير الضمائر المضافة إليها؟ ما الفرق بين أم مضافة إلى ياء المتكلم، وأم مضافة إلى ضمير الغائب أو المخاطب؟
كان آرام جاداً صادقاً فيما أسره إلي، ومع ذلك فقد استعصى عليّ أن أعده جاداً صادقاً فيما أسرَّه. في حديث آخر جرى بيني وبينه حاولت أن أثبت له أن الحرب لا مناص منها. قلت له إن كان السلام الشامل الدائم ممكن التحقق، فلماذا لا يتحقق؟ فكان جوابه: سيتحقق حين تسود الديمقراطية وشريعة حقوق الإنسان في دول العالم قاطبة. الديمقراطية لا تحارب الديمقراطية، وشريعة حقوق الإنسان لا تبيح الاعتداء على حقوق الجماعات والأفراد.
قلت: في هذه الحالة سيتحول العالم إلى مستنقع راكد خامل يشيع فيه الملل ويزول منه الإبداع، أو سيطرأ التحول على صورة الحرب ويبقى جوهرها. ستتحول الحرب من عدوان دولة على دولة، إلى عدوان فرد على فرد وأفراد، أو جماعة على جماعة. سيعاني البشر من الضجر والأشر في حال السلم، فكيف السبيل إلى الخلاص من معاناتهم الضجرَ والأشرَ، إن لم يحتربوا؟
ضحك آرام وقال في مرح: ما كنت أعلم أنك حربجيٌّ.
لكني نفيت انطباعه عني. بجد ورصانة قلت: لست حربجياً، وإنما هي الحرب يا عزيزي، فما العمل؟ الحرب حقيقة حتمية في حياة البشر.. إنها حدث سيقع لا محالة، سواء أشئنا أن يقع أم لم نشأ.



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الزمان بعداً رابعاً
- سُلَّم الوجود
- مشكلة النسبية
- ميزتا التعليق والتصويت في صحيفة الحوار المتمدن
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 7
- الإلحاد والتطرف
- إفسادُ منطق الإمكان
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 6
- أخطأ الرئيسُ ماكرون
- دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 5
- دوّامة النهر الكبير 4
- الواجب الوجود بغيره
- فذلكة فلسفية لأطروحة ماركس الحادية عشرة
- دوّامةُ النهر الكبير (3)
- دوَّامةُ النهر الكبير (2)
- دوّامةُ النهر الكبير
- الرسالات السماوية
- صيغة التنزيه، برهان الطعن في المنزَّه
- نحن لا نخلق المعنى
- في حقيقة أن الأشياء تتغير ولا تتغير


المزيد.....




- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا
- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 8