أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نعيم إيليا - منطقُ الجاحظ في ردِّه على النصارى















المزيد.....



منطقُ الجاحظ في ردِّه على النصارى


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 7837 - 2023 / 12 / 26 - 15:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


„ الحمد لله الذي مَنَّ علينا بتوحيده، وجعلنا ممَّن ينفي شُبْهةَ خلقه، وسياسةَ عباده، وجعلنا لا نفرّق بين أحد من رسله، ولا نجحد كتاباً أوجب علينا الإقرار به، ولا نضيف إليه ما ليس منه، إنه حميد مجيد، فعّال لما يريد „.
بهذا الحمد يستهلُّ الجاحظ رسالته المشهورة في الرد على النصارى. إن رسالة الجاحظ هذه غنيّة عن التعريف وعن التنويه كمنشئها. ولقد عدَّها بعض الدارسين المهتمين بما كتبه المسلمون الأوائل في حقل الجدل الديني، أثراً تاريخياً يبين عما جاشت به الحياة الدينية للمسلمين، مذ ظهر الإسلام، من صراع بينهم وبين المسيحيين واليهود، بينهم وبين هذين الدينين على الأخص. وهو صراع ما يزال حياً وصاخباً وعنيفاً إلى اليوم. وأضافوا إلى هذا أنها مساهمة من الجاحظ في تأسيس علم جديد هو علم المقارنة بين الأديان. وهي إضافة يصعب الإقرار بها؛ لأنّ المقارنة بين الأديان، غايتُها إيضاح ما بين الأديان من وجوه الاتفاق والاختلاف والتأثير والتأثر بمنهج علمي يتوخَّى استكشاف الحقائق في هذا المجال، ودحض الأغاليط فيها، وإزالة اللبس عنها بموضوعية محايدة، ونزاهة علمية لا تشوبها شائبة من تعصُّب وانحياز ولهو مغرض ألعبان بأساليب البيان. فأما غاية الجاحظ من رسالته فكانت كسر النصرانية – كذا بتعبيره - „ ولكنا إنما ابتدأنا الكتاب لنقتصر به على كسر النصرانية فقط " بحجج وبراهين على طريقة السوفسطائيين ووفق منطقهم المشيد على بهارج اللغة ومجازاتها ومغالطاتها، وجاءت رسالته إعلاءً للرسالة التي آمن بها بالوراثة، وتصديقاً بها أنها دون سواها من الرسائل، الرسالةُ الحقَّانية الواجبةُ الاتباع، مما يخرج كتابه أو رسالته من ميدان علم مقارنة الأديان إلى الجدل اللاهوتي الصرف، والصراع الديني الذي لا يفسره علم ولا عقل، وإنما تفسره الحميّة الهوجاء.
وكان الجاحظ تعهد في هذه الرسالة التي استكتبه إياها رجل وجيه مجهول الهوية، أن يكون في مجادلته للنصارى واليهود وفي ردِّه عليهم في مسائلهم وشبهاتهم، عدلاً نزيهاً منصفاً لا يدعي عليهم، ولا يلزمهم بما لم يلزموا به أنفسهم، ولا يتقوَّل عليهم:
„ ولا نقول على الناس ما لا يعرفونه، ولا يجوز أن يدينوا به“.
وكل ذلك بمنطق تحلّى – في زعمه - بالشواهد الظاهرة البينة، وبالحجج الدامغة المقنعة، والأدلة الاضطرارية المفحمة، وقد أكد أنه بهذه المهمّة جدير لا يتكلف، وخليقٌ لا ينتحل ما لا يحسن:
„ وسنقول في جميع ما ورد علينا من مسائلكم، وفيما لا يقع إليكم من مسائلهم بالشواهد الظاهرة، والحجج القوية، والأدلة الاضطرارية. ثم نسألهم بعد جوابنا إياهم عن وجوه يعرفون بها انتقاض قولهم، وانتثار مذهبهم، وتهافت دينهم. ونحن نعوذ بالله من التكلف وانتحال ما لا نحسن، ونسأله القصد في القول والعمل، وأن يكون ذلك لوجهه، ولنصرة دينه، إنه قريب مجيب“.
وجاء في موقع آخر من رسالته ما يماثل قوله هذا في المعنى دون اللفظ:
„ قد قلنا في جواباتهم، وقوّمنا مسائلهم بما لم يكونوا ليبلغوه لأنفسهم، ليكون الدليل تاماً والجواب جامعاً، وليعلم من قرأ هذا الكتاب وتدبر هذا الجواب، أنّا لم نغتنم عجزهم، ولم ننهز غربهم، وأن الإدلال بالحجة، والثقة بالفلج والنصرة، هو الذي دعانا إلى أن نخبر عنهم بما ليس عندهم، وألا نقول في مسألتهم بمعنى لم ينتبه له منتبه، أو يشر إليه مشير، وألا يوردوا فيما يستقبلون على ضعفائنا ومن قصر نظره منا شيئاً إلا الجواب قد سلف فيه وألسنتهم قد أدلت به. وسنسألهم إن شاء الله، ونجيب عنهم، ونستقصي لهم في جواباتهم كما سألنا لهم أنفسنا واستقصينا لهم مسائلهم.“
فهل أوفى الجاحظ بما تعهد به فأتى بالحجة القاطعة والشاهد المبين والدليل الثبت على تهافت مطاعن أهل الكتاب على القرآن، وبرهن بها على انتثار عقائدهم، وتهافت دينهم؟
إنّ نظرةً متأملة تحليلية إلى الحمد الذي افتتح به كتابه أو رسالته، قد لا تكفي لإبطال ما تعهد به، ورأى أنه فالجٌ غالب من أدلته وحججه على الفور، لكنها كافية في أول الأمر لأن تسفر عقلانيتَه، وتكشفَ عن عاطفته الدينية. هذه العاطفة الإنسانية العامة التي قلما يفعل فيها العقلُ فعله، وقلما ينفع فيها المنطق ويسدُّ، لكنه مع ذلك ينتحل لها (لعاطفته) الدينية الميل إلى العقل، والسكونَ إلى المنطق. وما أبعد الشقة بين العقل، وبين العاطفة!
ولقد نبهه النصارى إلى أنّ الدين إيمان، وتقليد، ووراثة، وتسليم. فهو إذن مما لا يصح أن يعالج بالعقل وبالقياس المنطقي:
„ على أنهم يزعمون أنَّ الدين لا يخرج في القياس ولا يقوم على المسائل ولا يثبت في الامتحان، وإنما هو بالتسليم لما في الكتب والتقليد للأسلاف".
ولكنه لم يكترث بتنبيههم، بل عاب عليهم أنهم يأخذون بهذا الرأي، من غير أن يتنبَّه إلى أنه أيضاً كالنصارى قد سلّم لما في كتبه، واتبع أسلافه في دينهم.
ففي أول حمده أنّ الله قد مَنّ عليه بالتوحيد. وهو إذ منَّ به عليه، ما مَنَّ به عليه إلا لأنه نعمة. ولكنْ هل التوحيد نعمة حقاً؟ أإذا كان الله واحداً من حيث هو شيء مفرَّغ لا يحتوي أبعاداً، أو من حيث هو وحيد لا يشاركه في وجوده إلهٌ آخرُ، أصابت الإنسانَ من وحدته نعمةٌ؟ حسن...! فماذا لو لم يكن الأمر كذلك، وكان الله يشاركه أكثر من إله، وكان كل إله يحوي أبعاداً في ذاته، فهل سيكون للإنسان من ذلك نعمةٌ؟
ويلحق بهذا التساؤل، تساؤل آخر ضروري هو: إنْ كان الله خصّ الجاحظ بهذه النعمة، فما منع اللهَ من أن يخص بها الذين لا يوحّدونه أيضاً، فيجعلهم يوحدونه كما يوحده الجاحظ؟
والجاحظ في حمده، ينفي شبهة خلق الله. وهو نفي لا يستدعي الحكم عليه بأنه ادعاء كاذب على النصارى فحسب - النصارى في الحقيقة ليس في عقيدتهم أنّ الله مخلوق بأي وجه من الوجوه - بل يستدعي أيضاً عين التساؤل الذي سلف. وإنه لتساؤل لا مفرّ منه لمن كان ذا مُسكة: فلو ثبت أن الله ليس مخلوقاً، فلماذا جعل اللهُ الجاحظ ينفي شبهة خلقه، ولم يجعلِ اللهُ الذين يقولون بخلقه – إن كان ثمة من يقول بخلقه - ينفون خلقه مثلما ينفيه الجاحظ؟
هذا، والغريب أن الجاحظ متكلم معتزلي يعتقد بخلق القرآن. وفي القول بخلق القرآن عند التدقيق شبهة خلق. فالقرآن، كما يؤكد القرآنُ ذاتُه، روحُ الله وكلمته. فإن كان مخلوقاً، دلّ ذلك على أن الله أو شيئاً من ذات الله مخلوق، كذا لا بد أن يكون هذا في المنطق السويّ.
ثم يحمد الجاحظُ الله أنْ جعله ينفي سياسةَ عباده؛ أي جعله قدرياً يعتقد بأنّ الإنسان مخيَّر في أفعاله لا مجبر مسّير. وفي هذا الجزء من حمده تناقض داخلي، لم يلمحه الجاحظ؛ وأغلب الظن أنه لو كان لمحه، لما كان استنكره، شأن السوفسطائيين الذين يقولون بالشيء وضده معاً؛ هؤلاء السوفسطائيين الذين جعلوا الحقائق نسبية، كما هو معلوم، وأرادوا بذلك أن لا حقيقة خارج ذات كل فرد من البشر.
ووجه التناقض ههنا أن الله إذ جعله ينفي سياسةَ عباده، لا يكون الله خيّره بنفيها، بل أجبره على نفيها؛ فهو إذاً مجبرٌ بأمر من الله على الاعتقاد بنفي سياسة الله لعباده في الوقت الذي يعتقد فيه الجاحظ أنه قدريٌّ مخير يملك أفعاله بمشيئته الحرة. إن اجتماع الاختيار والجبر لمعنى واحد (سياسة العباد) لدى الجاحظ في هذا السياق من قوله، هو تناقضٌ جليٌّ لا تتحير أمامه إلا عينُ أعشى.
ويزعم الجاحظ بعدئذ، أنّ الله جعله لا يفرق بين أحد من رسله، غير أنه لن يلبث أن ينقض هذا الزعم ويكذبه بلسانه:
„ وقد قيل لموسى عليه السلام: كليم الله. وقيل لعيسى: روح الله. ولم يقل ذلك لإبراهيم ولا لمحمد صلوات الله عليهما، وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم، أرفع درجة منهم" وهو إذ يرفع محمداً فوق جميع الأنبياء مكذباً زعمه أنه لا يفرق بين أنبيائه، لن يذكر بأي شيء قد ارتفع نبيّهُ درجة أو درجاتٍ عنهم.
ويمضي فيزعم أنّ الله جعله لا يجحد كتاباً أوجب عليه الإقرار به، ولا يضيف إليه ما ليس منه. وهذا أيضاً زعم تكذّبه أفعالُه ومواقفه: فإن كان الكتاب الذي لا يجحده الجاحظ ولا يضيف إليه شيئاً من عنده هو القرآن، فإنه قد أوّل القرآن، وأضاف إليه تفسيراته الخاصة. والتأويل تحريف. إنه إخراج كلام من معناه الحقيقي إلى معنى آخر مباينٍ له يتعلق به هوى المحرِّف. ولا يتسع المجال هنا لذكر تأويلاته الكثيرة المحرِّفة لآي القرآن. زد على ذلك أن القرآن قد أضيف إليه التنقيط وحركاتُ التشكيل والترقيم فيما بعد.
وإن كان الكتاب هو كتاب النصارى، التوراة والأناجيل، فإنه مقرٌّ بما أضافه القرآن إلى كتابهم كالآية: (وإذ قال اللهُ يا عيسى ابنَ مريم أأنت قلتَ للناسِ اتَّخذوني وأميَ إلهين من دونِ الله) وكذلك الآية التي تتحدث عن المسيح أنه تكلم في المهد: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت) وغير ذلك من الآيات مما أضافه القرآنٌ، وادعاه على النصارى واليهود. والإقرار من الجاحظ بهذه الإضافات من القرآن، ينقض زعمه بأنه لا يضيف شيئاً إلى كتب النصارى.
وإن الجاحظ ليؤمن بأن التوراة، كلامُ الله وأنها حقٌّ صادق:
"فإن قالوا، فأخبرونا عن الله وعن التوراة أليست حقاً؟ قلنا: نعم…“
لكنه لن يعتم أن ينقض إيمانه هذا بزعمه أن كتاب النصارى محرَّف كما هو اعتقاد أكثر المسلمين، وهو اعتقاد مستمد مما جاء عنه في القرآن، وأن دين النصارى أشبه بالزندقة وآراء الدهرية الملاحدة:
„ ودينهم – يرحمك الله – يضاهي الزندقة، ويناسب في بعض وجوهه قول الدهرية…“ .
ولن يعتم أيضاً أن يشكّك في أمانة كاتبي الأناجيل الأربعة، ويصمَ الأناجيل بالتناقض تدليلاً منه على انتقاض قولهم في أنّ القرآن ادعى على النصارى ما لا يعرفونه في كتبهم، متوهماً أنه بهذا التشكيك الذي لا يقوم على دليل مادي أو معنوي، يكون ردّ على النصارى رداً مسكتاً، وما هو برد مسكت، فأن يكون كاتبو الأناجيل على ما وصفهم به، وأن يكون ثمة اختلافات في رواياتهم ليس دليلاً على أن كتب النصارى تحتوي، أو حوت، مثل هذا الذي يدعيه القرآن عليها:
„ إنهم إنما قبلوا دينهم عن أربعة أنفس اثنان منهم من الحواريين بزعمهم: يوحنا ومتَّى، واثنان من المستجيبة وهما: مارقش ولوقش. وهؤلاء الأربعة لا يؤمن عليهم الغلط، ولا النسيان، ولا تعمد الكذب، ولا التواطؤ على الأمور، والاصطلاح على اقتسام الرياسة، وتسليم كل واحد منهم لصاحبه حصته التي شرطها له… إن اختلاف رواياتهم في الإنجيل وتضاد معاني كتبهم، واختلافهم في نفس المسيح، مع اختلاف شرائعهم دليل على صحة قولنا فيهم، وغفلتكم عنهم „ .
وهو إذ يشكك بأمانة كاتبي الأناجيل، ويرميها بالتناقض لن يخالجه الشك أبداً في أمانة حفّاظ القرآن الذين جُمع القرآن من صدورهم ودوّن بالرغم من أن المسلمين قد اقتتلوا في أمر تدوينه، وقتلوا بسبب ذلك خليفتهم عثمان بن عفان. ولم يقتتل النصارى في اختيار أربعة كتب قانونية، ولم يقتلوا بسبب هذا الاختيار ملكهم قسطنطين الكبير. ولن يشك الجاحظ أبداً في اختلاف الروايات عن القرآن ولا في تناقض آياته ولا في اختلاف المسلمين في طبيعة الله والقرآن، ولا في اختلاف شرائع المسلمين.
وجاء في آخر قوله في هذا الحمد أن الله " فعّال لما يريد " فيقال له في الاعتراض على قوله: أن تكون لله إرادة، وأن تكون للإنسان إرادة أيضاً، أليس يحتم هذا نتيجةً هي أن الله شبيه بالإنسان؛ أي له ما للإنسان من صفات؟ فهل هو من المنطق في شيء أن ينزِّه الجاحظ اللهَ عما يتصف به الإنسان، وأن يجاري القرآن في زعمه أن الله ليس كمثله شيء؟
ثم إن كان لله إرادةٌ، وكان الله قادراً على فعل ما يريد، فهل إذا أراد الله أن يموت قَدَر على أن يموت؟ وهل إذا أراد أن يصير إنساناً فيحيا كما يحيا الإنسان: ينمو، ويأكل ويشرب، وينجو، ويتألم، ويفرح ، ويصلب ويموت، يقدر أن يفعل ذلك؟
ترى بمَ كان الجاحظ سيجيب عن هذا السؤال، لو كان السؤال بلغه؟ هل كان سيجيب بأنه قادر على ذلك فيسقط بهذا الجواب، مذهبَه في التنزيه، ونفي الصفات عن الله الذي هو في عقيدته ليس كمثله شيء؟
فمما تقدم يمكن القطع بحكم أن منطق الجاحظ منطق قلق هش ضعيف لم يبرأ من التناقض، وبأن الجاحظ منحاز إلى مذهبه بلا روية. والتناقض في منطقه، ليس السمة الأشدَّ بروزاً في شخصيته الفكرية. ثمة ما هو أشدّ بروزاً منها. إنه اعتماده على المغالطات في رَدّه على خصومه شأن السوفسطائيين. وأظهر هذه المغالطات في رسالته، مغالطةُ الادعاء على المسيحيين واليهود بما لا يعرفونه، وبما لم يرد له ذكر ألبتة في كتبهم، بالرغم من أنه كان تعهد بألّا يدعي عليهم بما لا يعرفونه.
ولأن مهمة الجاحظ الأولى في كتابه هي كسر النصرانية، لن يتورع عن ذم النصارى في أمور معاشهم وأخلاقهم ومسالكهم، تبعاً لذلك، بمغالطة الربط بين العقيدة وبين الأشخاص الذين يعتنقونها بلغة التعميم البليدة الخطيرة. ويعلل حملة الذم عليهم، بأنهم:
„ يتبعون المتناقض من أحاديثنا، والضعيف بالإسناد من روايتنا، والمتشابه من آي كتابنا، ثم يخلون بضعفائنا ويسألون عنها عوامنا، مع ما قد يعلمون من مسائل الملحدين والزنادقة الملاعين، وحتى مع ذلك ربما تجرأوا على علمائنا وأهل الأقدار منا، ويشغبون على الضعيف“ .
وهي حملة لا تبررها الأسباب التي أوردها. فما دام في الحديث تناقض وضعف بالإسناد، وما دام في القرآن – بإقراره - آيٌ متشابه، فأيّ جُناح على مَن يتتبع ذلك ويشهّره؟! وأي ذنب ما دام القرآن يسفّه عقائد أهل الكتاب ويطعن فيها، ويدعي عليهم ما لا يعرفونه، وعليهم يفرض الجزية بذلّةٍ وصَغار؟ أليس من حقّ أهل الكتاب أن يدفعوا عنهم مطاعنَه، ويطعنوا عليه بدورهم؟
ولقد أفرط الجاحظ على النصارى؛ أفرط في ذمهم، في إظهار معايبهم، كي يخلص إلى نتيجة ربما أرادها أن تكون على هذا المعنى: إذا كانت النصارى أشراراً، فلا بد أن تكون عقيدتهم فاسدة شريرة، ولذلك فهم أشرار. وهي نتيجة تبدو منطقية، ولكنها ليست عند التحقيق كذلك؛ لأن كلّ المعايب التي ألصقها الجاحظ بالنصارى لا تحضُّهم عليها عقيدتهم، وكثير منها ليس من المعايب: فالترهب، و الزواج فقط من امرأة واحدة، والقلف، وعدم التسري، وأكل لحم الخنزير… الخ، على أي وجه تُعدُّ معايب ذميمة؟
فإن كان الجاحظ على هذا الظن الرديء بالنصارى - وليس هذا مما يؤخذ عليه – لأن النصارى يتصفون بهذه الصفات المستهجنة المعيبة، فهل تراه كان تورع عن الخوض في عقائد النصارى طعناً وثلباً، لو أنهم كانوا أخياراً ليست فيهم هذه العيوب والمثالب؟
يقول في ذمهم:
" والنصراني وإن كان أنظف ثوباً وأحسن صناعة، وأقل مساخة فإن باطنه ألأم وأقذر وأسمج؛ لأنه أقلف ولا يغتسل من الجنابة، ويأكل لحم الخنزير، وامرأته جنب لا تطهر من الحيض، ولا من النفاس، ويغشاها في الطمث وهي مع ذلك غير مختونة. وهم مع شرار طبائعهم، وغلبة شهواتهم ليس في دينهم مزاجر: كنار الأبد في الآخرة وكالحدود والقود والقصاص في الدنيا. فكيف يجانب ما يفسده ويؤثر ما يصلحه من كانت حاله كذلك. وهل يصلح الدنيا من هو كما قلنا، وهل يهيج على الفساد إلا من وصفنا؟ ".
ويعتب على أولي الأمر من المسلمين أنهم يساهلون النصارى إذا سبوا أمَّ نبيهم بذريعة
أنها كانت وثنية، ويساهلونهم إذا سبوا من سبهم – من المسلمين – وضربوا من ضربهم جاحدين بهذا التساهل وصية نبيهم ( وإن سبوكم فاضربوهم، وإن ضربوكم فاقتلوهم) فيقول:
„ وقضاتنا أو عامتهم يرون أن دم الجاثليق والمطران والأسقف وفاء بدم جعفر وعلي والعباس وحمزة، ويرون أن النصراني إذا قذف أمّ النبي صلى الله عليه وسلم بالغواية، أنه ليس عليه إلا التعزير والتأديب، ثم يحتجون أنهم إنما قالوا ذلك؛ لأن أم النبي لم تكن مسلمة...“
ولا حجة على النصارى من هذا الذم. فأن يكون النصارى كما صوّرهم الجاحظ، فإن ذلك لن يكون دليلاً على أن آيات القرآن التي نظر فيها هؤلاء النصارى، وطعنوا عليها أنها ادعاء باطل عليهم، ليست كذلك.
لكن النصارى، على ما نقل الجاحظ في رسالته، أحبُّ مع ذلك إلى طَغام المسلمين وعوامهم من اليهود والمجوس وغيرهم من الأمم . ولسوف يستطرد في هذا الموقف - والاستطراد عادته في كل آثاره - منفقاً جهداً في تقصّي " الأسباب التي صارت النصارى أحبّ إلى العوام من المجوس، وأسلم صدوراً - عندهم – من اليهود، وأقرب مودة، وأقل غائلة، وأصغر كفراً، وأهون عذاباً…“ منها:
1- „ أن الإسلام جاء وملوك العرب رجلان: غساني ولخمي وهما نصرانيان،… فكان تعظيم قلوبهم – قلوب عامة المسلمين – لهما راجعاً إلى تعظيم دينهما.
2: ومنها أن العرب من تهامة " كانت تتجر إلى الشام وتنفذ رجالها إلى ملوك الروم ولها رحلة في الشتاء والصيف في تجارة: مرة إلى اليمن ومرة قبل الشام ومصيفها بالطائف، فكانوا أصحاب نعمة…“.
3- ومنها أن العرب كانت " تهاجر إلى الحبشة وتأتي باب النجاشي وافدة فيحبوهم بالجزيل ويعرف لهم الأقدار، ولم تكن تعرف كسرى ولا تأنس بهم، وقيصر والنجاشي نصرانيان…"
4- ومنها „ أن العرب كانت النصرانية فيها فاشية، وعليها غالبة، إلا مضر… لم تفش فيها النصرانية إلا ما كان من قوم منهم نزلوا الحيرة يسمون العباد فإنهم كانوا نصارى".
5- ومنها أن " عوامنا رأت أن فيها – في النصرانية – مُلْكاً قائماً، وأن فيهم عرباً كثيرة، وأن بنات الروم ولدن لملوك الإسلام، وأن في النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين، فصاروا بذلك عندهم عقلاء وفلاسفة حكماء، ولم يروا ذلك في اليهود…“.
ولكنّ أمتن سبب من الأسباب التي ليّنت قلوب عوام المسلمين على النصارى في رأيه هو: „ تأويل آية غلطت فيها العامة حتى نازعت الخاصة، وحفظتها النصارى، واحتجت بها واستمالت قلوب الرعاع والسفلة وهو قول الله تعالى: (لتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى).
والجاحظ بسبب موقفه العدائي من النصارى، سيؤول هذه الآية تأويلاً يخرج لفظ النصارى من دلالته على أمة تقابل أمة اليهود والذين أشركوا، إلى طائفة صغيرة هي " ضرب بحيرا أو ضرب الرهبان الذين كان يخدمهم سلمان".
إن القرآن في تأويل الجاحظ لهذه الآية : " لم يعن هؤلاء النصارى ( النساطرة) ولا أشباههم الملكانية واليعقوبية". مع أن الآية لا تصرح تصريحاً بأن المقصود من لفظ النصارى ضرب بحيرا، أو ضرب الرهبان الذين كان يخدمهم سلمان. ما يلفت النظر في تأويله أيضاً أنه لا يحدد لحقيقة لفظ النصارى مدلولاً واحداً بل مدلولين، يحار المرء فيهما، فلا يعلم أيهما هو الصواب، أهو ضرب بحيرا أم ضرب الرهبان الذين كان سلمان يخدمهم؟ وقد ذهب غيره من المفسرين إلى أن المقصود من لفظ النصارى في هذه الآية، نصارى الحبشة. فأي فريق، هو الصادق؟
وما تقصى الجاحظ هذه الأسباب، ليخرج منها بثناء جميل على ميل عوام المسلمين إلى النصارى بمودة، وإنما ليوبخهم على أنهم أحسنوا الظن بالنصارى.. لينبههم إلى أنهم مخطئون إذ يوادّون النصارى وقد جهلوا حقيقتهم:
„ ولو علمت العوام أن النصارى والروم ليست لهم حكمة ولا بيان، ولا بُعْد رويّ، إلا حكمة الكفّ من الخرط والنجر والتصوير وحياكة البزْيَون لأخرجتهم من حدود الأدباء ولمحتهم من ديوان الفلاسفة والحكماء؛ لأن كتاب المنطق والكون والفساد، وكتاب العلوي وغير ذلك لأرسطاطاليس وليس برومي ولا نصراني. وكتاب المجسطي لبطليموس وليس برومي ولا نصراني، وكتاب إقليدس لإقليدس وليس برومي ولا نصراني، وكتاب الطب لجالينوس ولم يكن رومياً ولا نصرانياً، وكذلك كتب ديمقراط، وبقراط وأفلاطون وفلان وفلان، وهؤلاء أناس من أمة قد بادوا وبقيت آثار عقولهم، وهم اليونانيون ودينهم غير دينهم وأدبهم غير أدبهم..“.
يقول هذا في النصارى، وكان قبل هذا قال شيئاً آخر فيهم مناقضاً له:
"ومما عظمهم في قلوب العوام وحبهم إلى الطَّغام أن منهم كتاب السلاطين، وفرّاشي الملوك، وأطباء الأشراف، والصيارفة، والعطارين، ولا تجد اليهودي إلا صباغاً، أو دباغاً، أو حجاماً، أو قصاباً، أو شعّاباً „.
إن حيف الجاحظ في هذه الفقرة على النصارى وافتئاته عليهم ظاهر يخالفه فيه كثير من المؤرخين ومن الكتاب المسلمين والمدونين في عصره وما تلاه. فالنصارى من نساطرة (آشوريين) ويعاقبة (سريان، أقباط، أحباش) وملكانيين (روم وكلدان) لم يدعوا يوماً أنّهم هم الذين وضعوا هذه الكتب، وإنما هم قد حفظوها في لغتهم السريانية وفسروها وترجموها إلى العربية وبنوا عليها وعلموها الناس وتتلمذ عليهم الفلاسفة المسلمون. والغريب أن هذه الفرية التي أطلقها الجاحظ ليمحو بها كلَّ أثر طيب للنصارى واليهود في بناء دولة الخلافة العباسية وقبلها الأموية، بدوافع عنصرية، سيكررها أبو حيان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة. ولا يملك المرء إلا أن يستخفّ بقوله إن اليونانيين أمة من الأمم التي بادت، وهم أمة لم تبد، وإنما هم أمة خضعت لسلطان الروم واندمجت فيهم زمناً، ثم انتقلت من الوثنية إلى المسيحية وحافظت على تراثها الوثني القديم كما حافظ العرب المسلمون على تراث العرب قبل الإسلام.
ولا محيد عن ذكر المسائل التي تنازع فيها النصارى والمسلمون – وما زالوا يتنازعون فيها ويتناجزون في ساحها بضراوة – والتي أوردها الجاحظ في رسالته وعالج بعضها بمنطقه، وهي في الجملة آيات قرآنية، وذلك قبل التدليل في الخاتمة على إخفاق منطقه في كسر النصرانية، لبِّ رسالته:
1- الآية : (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت الذي قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله).
2- الآية: (وقالت اليهود عزير ابن الله).
3- الآية: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)
4: الآية: ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء).
5- الآية: ( قال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً).
6- الآية: ( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّاً).
7- الآية: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
8- الآية: (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت…).
9- الآية: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد... ).
هذه بعض شبهات النصارى واليهود. ومن الحق أن يقال إن الجاحظ في رده عليها، لم يكن موفقاً. ولا يتسع المجال هنا لبسط كل ردوده على اليهود والنصارى لبيان وجوه ضعفها. حسب القارىء أن يطلع على رد واحد من هذه الردود، وليكن ردَّه على طعنهم في الآية( عزير ابن الله) ليعلم أن التوفيق جانبه:
„ وأما قولهم: إن اليهود لا تقول إن عزيراً ابن الله، فإن اليهود في ذلك على قولين: أحدهما: خاص، والآخر: عام في جماعتهم. فأما الخاص: فإن ناساً منهم لما رأوا عزيراً أعاد عليهم التوراة من تلقاء نفسه بعد دروسها، وشتات أمرها، غلوا فيه، وقالوا ذلك وهو مشهور من أمرهم، وإن فريقاً من بقاياهم باليمن والشام وداخل بلاد الروم. وهؤلاء بأعيانهم يقولون: إن اسرائيل الله ابنه. وإذا كان ذلك على خلاف تناسب الناس، وصار ذلك الاسم لعزير بالطاعة والعلامة والمرتبة، لأنه من ولد اسرائيل.
والقول الذي هو عام فيهم: أن كل يهودي ولده اسرائيل ، فهو ابن الله إذ لم يجدوا ابن ابن – قط – إلا وهو ابن. „.
فهل يجد القارئ في هذا الذي قاله الجاحظ بخصوص هذه المسألة، دليلاً على أن الله قال حقاً: إن عزيراً ابن الله؟ إن الجاحظ يسوق ما يقوله فلان وعلان من اليهود دليلاً على أن الله قد قال حقاً إن عزيراً ابن الله، والدليل هذا باطل، فليس ما يقوله فلان منهم وعلان، بل ما يقوله الله. فأين قول الله؟
أين هو مكتوب في التوراة أو الأناجيل أن الله قد قال عزير ابن الله؟
هذا من أغاليط الجاحظ. إنه يستمد أدلته من قول فلان وعلان من اليهود والنصارى، ولا يستمدها من كتبهم. وللقارئ أن يتحقق من هذا مما يقوله أيضاً في هذه الفقرة بأوضح مما سبق:
„ ولو جهدت بكل جهدك، وجمعت كل عقلك أن تفهم قولهم في المسيح، لما قدرت عليه حتى تعرف به حد النصرانية وخاصة قولهم في الإلهية. وكيف تقدر على ذلك، وأنت لو خلوت ونصراني نسطوري فسألته عن قولهم في قولهم في المسيح لقال قولاً، ثم إن خلوت بأخيه لأمه وأبيه وهو نسطوري مثله فسألته عن قولهم في المسيح لأتاك بخلاف قول أخيه وضده. وكذلك جميع الملكانية واليعقوبية. ولذلك صرنا لا نعقل حقيقة النصرانية كما نعرف جميع الأديان… ولعمري إن من كان دينه ليجب عليه أن يعتذر بمثل عذرهم. وزعموا أن كلّ من اعتقد خلاف النصرانية من المجوس والصابئين والزنادقة فهو معذور، ما لم يتعمد الباطل ويعاند الحق. فإذا صاروا إلى اليهود قضوا عليهم بالمعاندة، وأخرجوهم من طريق الغلط والشبهة.“
فهل يؤتى بالدليل من نسطوري أو ملكاني أو يعقوبي، أم يؤتى به من الكتب التي يقدسها هؤلاء جميعاً؟
ولأن الجاحظ منحاز لعقيدته ، سيرى القذى في أعين النصارى، ولن يرى الخشبة التي في أعين المسلمين. فإذا كان هذا وذاك من النصارى يقول خلاف ما يقوله الآخر في عقيدتهم، فهل هذا وذاك من المسلمين لا يقول خلاف ما يقوله الآخر في بعض عقائده؟ هل المسلمون مجمعون على رأي واحد بشأن عقيدتهم؟ هل لهم تصور واحد لطبيعة الله؟ هل هم متفقون على أزلية القرآن؟ بل إن الجاحظ نفسه، ليخالف لا طوائف السُّنة من المسلمين وشيعتهم وحسب، بل المعتزلة الذين ينتمي إلى مذهبهم، فله فرقة باسمه، وخلافه مع أستاذه النظام في جواز البنوة مثلاً، مشهور.
إن الأهم من بسط ردود الجاحظ على النصارى واليهود، هو النظرُ في منطقه كيف عالج عقيدة النصارى في بنوة المسيح لله وألوهيته، هذا المنطق الذي سعى به إلى كسر النصرانية، وقد تعهد ألا يكون في ذلك حائفاً عليهم مدعياً عليهم ما لا يعرفونه ولا يجوز أن يدينوا به، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
فأما بنوة المسيح، فإنه لا يجيزها إطلاقاً، يقول:
„ وأما نحن – رحمك الله – فإنا لا نجيز أن يكون لله ولد لا من جهة الولادة ولا من جهة التبني، ونرى أن تجويز ذلك جهل عظيم وإثم كبير ..“
ولماذا لا يجيز الجاحظ أن يكون لله ولد لا من جهة التبني ولا من جهة الولادة؟ ألأن عقله مربوط بقيد الآية القرآنية: (أنى يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة…) هذه الآية التي تنفي قدرة الله على أن يكون له ولد من دون صاحبة، والتي تقيس الله على البشر فتنقض بذلك آية آخرى هي (ليس كمثله شيء) فلا غرو أن تكون بهذا النفي لقدرة الله وبهذا القياس على البشر، مصداقاً لطعن النصارى على المسلمين أنّهم على غلط ويأخذون عن غير الثقات:
" وذكرتم أنهم ( النصارى) قالوا: مما يدل على غلطكم في الأخبار، وأخذكم العلم عن غير الثقات أن كتابكم ينطق ...؟.
وكذا:
„ وذكرتم أنهم قالوا: إن الدليل على أن كتابنا باطل، وأمرنا فاسد، أننا ندعي عليهم ما لا يعرفونه فيما بينهم، ولا يعرفونه من أسلافهم، لأنا نزعم أن الله جلّ وعزّ قال في كتابه على لسان نبيه….“.
وجواب هذا السؤال: نعم، هو ذاك. ولكن الجاحظ لسبب آخر لا يجيز ذلك، يوضحه في قوله التالي:
" لأنه لو جاز أن يكون أباً ليعقوب لجاز أن يكون جداً ليوسف… لجاز أيضاً أن يكون عماً وخالاً، لأنه إن جاز أن نسميه من أجل المرحمة والمحبة والتأديب أباً جاز أن يسميه آخر من جهة التعظيم والتفضيل والتسويد أخاً، ولجاز أن يجد له صاحباً وصديقاً، وهذا ما لا يجوزه إلا من لا يعرف عظمة الله وصغر قدر الإنسان. وليس بحكيم من ابتذل نفسه في توقير عبده، ووضع من قدره في التوفر على غيره، وليس من الحكمة أن تحسن إلى عبدك بأن تسيء إلى نفسك وتأتي من الفضل ما لا يجب تضييع ما يجب، وكثير الحمد ما لا يقوم بقليل من الذم، ولم يحمد الله ولم يعرف إلهيته من جوز عليه صفات البشر، ومناسبة الخلق ومقاربة العباد…“.
وهذا القول برهان صريح على تناقضه وخرقه لمذهبه القائم على التنزيه ورفض التشبيه – من حيث لم يدر - ومنه تُعلم هشاشةُ رأيه. فإنه يقيس الله على البشر. إنه في الوقت الذي ينزه الله عن أن يكون له ابن وأن يتخذ له خليلاً، يشبهه بالسيد من البشر ويشبه المؤمنين به بالعبيد. والأطمُّ من ذلك أنه يتصور أن الله (السيد) إذا أحسن إلى عبده بالإساءة إلى نفسه، فإن ذلك ليس من الحكمة. فلَعمرُ الله! كيف يكون لشيء، مهما يكن حقيراً وضيعاً سيئاً أو قذراً، أن يمسّ عظمة الله بأذى أو بشين، واللهُ هذا في اعتقاده نور السموات والأرض.
فهل النور يسيء إليه شيء أو يدنّسه شيء؟ أبداً، وبخلاف الجاحظ في هذا الرأي، يرى بعض متصوفي الإسلام أن الله حتى وإن صار في روث البقر، لا يتنجس.
وأما قوله في ألوهية المسيح، فهو الدليل الواضح على أنه لم يفهم عقيدة النصارى، كما لم يفهمها القرآن. وقد توصل إلى هذه النتيجة فريق من الدارسين المسلمين لرسالته. فإنْ كان حقاً - وهو حق - أنه لم يفهم عقيدة النصارى، فإن كل الذي سيقوله فيها، سيكون من باب الادعاء عليهم بما لا يعرفونه، بالرغم من إنكاره أن يكون مدعياً عليهم كما سبقت الإشارة إلى ذلك أكثر من مرة.
وبالجملة فإنه في محاولته لكسر عقيدة النصارى في ألوهية المسيح، يتَّبع ما قاله القرآن في المسيح، ويتزود بحجته على أن المسيح نبي الله وليس إلهاً: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام..). فأكله الطعام هو الحجة البينة على أنه نبي وليس إلهاً. يقول:
„ فإن زعموا أنه كان إلهاً بلا إنسان، قلنا لهم: فهو الذي كان صغيراً فشب والتحى، والذي كان يأكل ويشرب وينجو ويبول، وقتل – بزعمكم – وصلب ، وولدته مريم وأرضعته، أم غيره هو الذي كان يأكل ويشرب على ما وصفنا؟…“ .
وإنها لحجة قائمة على التشبيه أيضاً؛ أي على تشبيه الله بالبشر. ولكن الله ليس كالبشر في اعتقاده؛ ولأنه ليس كذلك في اعتقاده، فلا ينبغي أن يقال عليه إنه محكوم في أفعاله بما هو محكوم به البشر: محكوم بالنمو، بالرضاعة، بالأكل والشرب، والقتل، كما هم البشر، فلا يستطيع من ذلك فكاكاً ...
إن الله عند الجاحظ قدرته مطلقة، فلما كانت قدرته مطلقة، وجب أن يكون حراً قادراً على أن يكون إنساناً كاملاً وإلهاً كاملاً معاً في آن واحد: ينمو ولا ينمو، يأكل ولا يأكل، يرضع ولا يرضع، يتألم ولا يتألم، يموت ولا يموت.. إنه قادر على كل شيء، فكيف لا يقدر أن يكون إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً معاً بآن واحد. فإن لم يكن كذلك، فما معنى اتصافه بالقدرة المطلقة التامة غير المنقوصة؟
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن النصارى لا يقولون إن المسيح مخلوق. وقانون الإيمان الذي توافق عليه النصارى بإجماع، من نساطرة ويعاقبة وملكانيين، ينصُّ على هذا:
( نؤمن بإله واحد الله الآب ضابط الكل خالق السماء والأرض، ما يرى وما لا يرى. نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور. نور من نور إله حق من إله حق مولود (غير مخلوق) مساو للآب في الجوهر الذي كان به كل شيء. هذا الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء تأنس وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي. تألم وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب وأيضاً يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء) .
ولكن الجاحظ يتبع القرآن فيدعي على النصارى قولهم إن المسيح مخلوق وهم لا يدعون ذلك. إن الآية القرآنية: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) تخالف عقيدة النصارى، إذ تعقد مماثلة بين المسيح وآدم في الخلق، وليس في عقيدة النصارى أن المسيح مخلوق. فكيف جاز للجاحظ أن يعالج عقيدة النصارى هذه وفق ما جاء في القرآن عنها، لا وفق ما جاء في قانون الإيمان لدى النصارى؟!
وهو في هذا الصدد يقول:
„ إن كان المسيح إنما صار ابن الله لأن الله خلقه من غير ذكر، فآدم وحواء إذا كانا من غير ذكر وأنثى أحق بذلك، إن كانت العلة في اتخاذه ولداً أنه خلقه من غير ذكر „.
وكان الجاحظ قبل هذا، ماثل بين المسيح وابراهيم في سعيه تفنيد رأي أستاذه النظام في جواز بنوة المسيح على وجه المجاز، فاستنتج بحيلة لغوية ( هي التفريق بين الخَلّة أي الحاجة، والخُلَّة أي الصداقة) أن بنوة المسيح غير جائزة مثلما هي الخلة بضم الخاء غير جائزة لابراهيم بمعنى الخليل الصاحب:
„وقد كان ابراهيم بن سيار النظام يجيب بجواب، وأنا ذاكره إن شاء الله وعليه كانت علماء المعتزلة، ولا أراه مقنعاً ولا شافياً، وذلك أنه كان يجعل الخليل مثل الحبيب ومثل الولي، وكان يقول: خليل الرحمن مثل حبيبه ووليه وناصره، وكانت الخلة والولاية والمحبة سواء، قالوا: ولما كانت كلها عنده سواء، جاز أن يسمى عبداً له ولداً، لمكان التربية التي ليست بحضانة، ولمكان الرحمة التي لا تشتق من الرحم، لأن إنساناً لو رحم جرو كلب فرباه، لم يجز أن يسميه ولداً ويسمي نفسه له أباً، ولو التقط صبياً فرباه جاز أن يسميه ولداً، ويسمي نفيه له أباً، لأنه شبيه ولده، وقد يولد لمثله مثله، وليس بين الكلاب والبشر أرحام. فإذا كان شبه الإنسان أبعد من الله تعالى من شبه الجرو بالإنسان، كان الله أحق بأن يجعله ولده وينسبه إلى نفسه. قلنا لابراهيم النظام عند جوابه هذا وقياسه الذي قاس عليه في المعارضة والموازنة بين قياسنا وقياسه: أرأيت كلباً ألف كلاَّبَه، وحامى وأحمى دونه، فأحياه بكسبه، ولزمه على خلائقه، واستأثره بالصيد دونه، هل يجوز أن يتخذه بذلك كله خليلاً، مع بعض التشابه والتناسب؟ فإذا قال: لا، قلنا: فالعبد الصالح أبعد شبهاً من الله من ذلك الكلب المحسن إلى كلاّبه، فكيف جاز في قياسك أن يكون الله خليل من لا يشاكله لمكان إحسانه، ولا يجوز للكلاّب أن يسمي كلبه خليلاً أو ولداً لمكان حسن تربيته له وتأديبه إياه، ولمكان حسن الكلب وكسبه عليه، وقيامه مقام الولد الكاسب، والأخ البار؟! والعبد الصالح لا يشبه الله في وجه من الوجوه، والكلب قد يشبه كلاّبه لوجوه كثيرة، بل ما أشبهه به مما خالفه فيه.. وإن كانت العلة التي منعت من تسمية الكلب خليلاً وولداً بعْدُ شبهه من الإنسان.
فلو قلتم فما الجواب الذي أجبت فيه، والوجه الذي ارتضيته؟ .. قلنا: إن ابراهيم ، صلوات الله عليه، وإن كان خليلاً فلم يكن خليلاً بخلة كانت بينه وبين الله تعالى، لأن الخلة والإخاء والصداقة والتصافي والخلطة وأشباه ذلك، منفية عن الله عز ذكره، فيما بينه وبين عباده، على أن الإخاء والصداقة داخلتان في الخلة والخلة أعم الاسمين، وأخص الحالين، ، ويجوز أن يكون ابراهيم خليلاً بالخلة التي أدخلها الله على نفسه وماله وبين هذا وبين أن يكون خليلاً بخلة بينه وبين ربه فرق ظاهر…“
ولا يستفاد من كلامه المتدفق هذا، أن بنوة المسيح غير جائزة لا في الحقيقة ولا في المجاز وحسب، قياساً على ابراهيم الخليل، بل يستفاد منها أيضاً أنه يفرض أقيسة تهدم مبدأ تنزيهه لله عن صفات البشر، كما يفرض بتطويع اللغة لما يتناسب مع مذهبه، مذهبَه الخاص في تنزيه الله على كل من يعارض مذهبه. وهو تطويع لا يقبله المنطق السليم. فما أدراه مثلاً أن إلهه اشتق لفظ الخليل، من الخَلّة لا من الخُلَّة؟
وفي كل الأحوال، فإن بنوة المسيح لله عند النصارى، هي رمز لشيء من ذات الله - الأقنوم الثاني - وليست رمزاً لعلاقة الله بشخص خلقه الله وأحبه وكرمه وقربه.
هذا الرمز لم يفهمه الجاحظ. ولذلك أخطأ حين قاس بنوة المسيح على ابراهيم إذ خصه ربه بلقب الخليل. فابراهيم إنسان مخلوق، والمسيح عند النصارى عقل الله كلامه، هو شيء من ذاته، وليس إنساناً مخلوقاً.
ولقد أوضح ذلك الفيلسوف السرياني أبو زكريا يحيى بن عدي التكريتي إذ قال متأثراً بأرسطو: الله عقل وعاقل ومعقول بجوهر واحد غير منقسم. وأكد هذا الثالوث عن الله أيضاً الفارابيُّ في كتابه أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها.



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مُشادّة على مائدة الحوار المتمدن
- دوَّامةُ النّهرِ الكبير 10
- الوعي والحياة بين هيغل وماركس
- مناظرة السيرافي والقُنَّائي
- دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 9
- البعد الفلسفي لفرضية الانفجار الأعظم
- محاورة ملحد الكريتي
- ثالوث الديالكتيك الماركسي
- الطعن على رأي الأستاذ منير كريم في الديالكتيك والمادية
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 8
- الزمان بعداً رابعاً
- سُلَّم الوجود
- مشكلة النسبية
- ميزتا التعليق والتصويت في صحيفة الحوار المتمدن
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 7
- الإلحاد والتطرف
- إفسادُ منطق الإمكان
- دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 6
- أخطأ الرئيسُ ماكرون
- دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 5


المزيد.....




- فرنسا: إنقاذ 66 مهاجرا غير نظامي أثناء محاولتهم عبور المانش ...
- مصر.. والدا الرضيعة السودانية المقتولة بعد هتك عرضها يكشفان ...
- السعودية.. عمليات انقاذ لعالقين بسيول والدفاع المدني يحذر
- الغرب يطلق تحذيرات لتبليسي مع جولة جديدة من الاحتجاجات على ق ...
- فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران ...
- في الذكرى الـ10 لمذبحة أوديسا.. اتهامات لأجهزة استخبارات غرب ...
- ترامب يعلق على أحداث -كولومبيا- وينتقد نعمت شفيق
- نيبينزيا: مجلس الأمن الدولي بات رهينة لسياسة واشنطن بالشرق ا ...
- -مهر-: رئيس جامعة طهران يعين زوجة الرئيس الإيراني في منصبين ...
- ‏مظاهرات حاشدة داعمة لفلسطين في عدة جامعات أمريكية والشرطة ت ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نعيم إيليا - منطقُ الجاحظ في ردِّه على النصارى