أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح زنكنه - محطات الطفولة والكهولة في (هي والبحر)














المزيد.....

محطات الطفولة والكهولة في (هي والبحر)


صلاح زنكنه

الحوار المتمدن-العدد: 7085 - 2021 / 11 / 23 - 20:51
المحور: الادب والفن
    


أصدر القاص سعد محمد رحيم إبان الحرب العراقية الايرانية روايتين ومجموعة قصصية استلهمت موضوعة الحرب واشكالاتها, وعدت هذه الأعمال في حينها من الأدب التعبوي الذي اتسم بطابع الانفعال واستذكار الحالات البطولية في جبهات القتال, متساوقا مع الفعل البطولي للجند الذين دافعوا عن حياض الوطن بدمائهم, واعقبها في مطلع التسعينات بمجموعة قصصية ثانية (ظل التوت الأحمر) التي رسخت تجربته القصصية.

وفي عام 2000 أصدر مجموعة جديدة بعنوان (هي والبحر) وكان حريا بالقاص أن يسميها (محطات) ذلك أن مفردات المحطات والقطارات وسكك الحديد قد استحوذت على متن القصص قاطبة دون استثناء, كما سنرى لاحقا, أي أن وحدة الموضوع وهيمنة شخصية محورية واحدة والمكان الواحد (المحطة) في جميع القصص الست تحيل دلاليا الى (المحطات) دون (البحر) بل حتى عنوانات القصص توحي وتؤكد على ما ذهبنا اليه (محطة الشروق, محطة الشقائق, محطة الرغبة, محطة الثلج, محطة الغياب) في حين حملت القصة السادسة عنوان (هي والبحر)
في القصة الأولى ثمة ولد أسمر يعمل بائعا جوالا, يبيع البسكويت والبالونات في محطة مدينته الصغيرة, وهناك يرى للمرة الأولى في حياته شرطيا (فيقبض الخوف على أعصابه وتتنمل رجلاه) لأن أمه كانت تهمس في أذنه في الليالي الحالكة الظلام (نم وإلا يأتي الشرطي ويحبسك) وبما أن أباه كان محبوسا في مركز الشرطة, لذا كانت أمه تتنبأ له (ستكون بائعا جولا مثل أبيك, وسيجعلك القطار تخبر الدنيا وتتعلم) وهكذا يصعد القطار (ذلك الشيء الطويل الضخم يسير على السكة) عارضا بضاعته, وليأخذه نحو المجهول كما تختتم القصة.

وفي القصة الثانية الشخصية ذاتها وقد غدا الولد يافعا, فتى مراهقا في الخامسة عشرة من العمر, ينزل في محطة ما, هي أبعد محطة يصل اليها منذ خمس سنين, هو الذي خبر محطات كثيرة أثناء تجواله عبر المحطات كبائع جوال مازال يبيع (العلك والبسكويت) وقد مات أبوه في السنة الماضية بعد أسبوع من خروجه من السجن كما يخبرنا الراوي.

ومثلما نجد في القصة الأولى صبية, يسألها الولد عن الرجل الذي يعتمر قبعة إن كان هو سائق القطار؟ فتخبره (هذا شرطي يا غبي) نجد في القصة الثانية فتاة تجلس على دكة اسمنتية, يسألها (أين نحن؟) لتجيبه باستهزاء (نحن في هذه الدنيا) وشيئا فشيئا يألفها ويعقد معها صداقة, يعطيها اللبان والبسكويت, وتعطيه (ببسي كولا) مقابل ذلك, فيهيم بها سرا, وتسخر منه علنا, ويتعذب كونها فاتنة وعصية, لها شعر طويل وجسد آسر, بيد أنها ترفضه لأنه في الخامسة عشرة وهي في الثانية والعشرين, وحين تتركه ناعتة إياه (مسكين أحمق) يستحضر جسدها في مخيلته (حارا هائما, فيجد جسده دبقا مستذرفا يتصفد عرقا, محاولا أن يرد لنفسه اعتبارها وهو مترع بالبكاء)

ويغدو هذا البائع في القصة الثالثة رجلا نحيلا, وقد مر عشرون عاما على تجواله في المحطات والقطارات, وأن أمه قد ماتت في السنة الماضية, وأنه ينتظر كالعادة (أنا دائما أنتظر) يقول له حارس المحطة (كلنا ننتظر, ومن لا ينتظر شيئا, ينتظر الموت) وفي هذه المحطة أيضا يتعرف الى امرأة, ويخبر للمرة الأولى طعم الأنثى ونشوة الجنس وانتشاء الخمر, ويتلمس معنى السعادة في بيت فاره لامرأة وحيدة وغنية وشهية, بيد أنها (مومس) فيرجع القهقري الى حيث المحطة.

ونجد هذا البائع الجوال في القصة الرابعة وهو ينتظر القطار الذي تأخر عن موعده, والثلج ينث عليه وقد غدا كهلا يبيع أشياء مهربة (قمصانا ومواد تجميل وملابس داخلية) هكذا يخبر المرأة الشابة وهو يبيعها أحمر الشفاه, وهناك عجوز تقضم كسرة خبز وتثرثر, وجنود بملابس الميدان (لولا الجنود لبقيت القطارات فارغة)

وفي المحطة الأخيرة, القصة الخامسة, نراه شيخا هرما حاملا صندوق بضاعته, وينزل في محطة نائية, ليست له فيها ذكريات, ولا يعرف فيها أحدا, ويكتشف من خلال حارس المحطة الأشعث, أن القطارات لا تصل الى هذه المحطة وأنها محطة مهجورة, لكنه موقن أنه جاء الى هذه بالقطار (أهو وهم؟ ترى أين ذهبت القطارات والعمال والشرطة والناس, لا شيء سوى عواء الذئاب وبنات آوى وتأوهات الحارس المريض الذي يحتضر في زمهرير البرد) والذي يخبره (لا أحد هنا, غير ولد أسمر يجيء بين حين وآخر) ثم يموت الحارس بالقرب منه, ويدفن جثته, ويجلس ينتظر, ينتظر ماذا؟ القطار؟ الولد الأسمر؟ الموت؟ لا يخبرنا القاص وهذا سر نجاحه, ليجعلنا ننتظر معه.

نستنج إذاً أن الشخصية القصصية في هذه القصص الخمس هي شخصية واحدة, البائع الجوال عبر خمسة أطوار - مراحل - محطات (صبي ثم فتى مراهق ثم رجل ناضج ثم كهل ثم هرم) وتكاد هذه القصص تنحو منحى روائيا, لا لتواشج القصص ونمو شخصيتها المركزية في مكان محدد (المحطة) وإنما لتوافر البنية السردية (الروائية) في كل قصة من القصص, وهي سمة بارزة في قصص سعد محمد رحيم, وهذا يبدو جليا في قصته الطويلة (بيت العناكب) التي جاءت بأربعين صفحة.

وقد كتب سعدا القصص الخمس بضمير الغائب (هو) مستعيرا ببراعة بتقنية عدسة الكاميرا في متابعة الشخوص والأحداث والمشاهد, وبصيغة راوٍ محايد وليس كلي العلم, هذا باستثناء القصة السادسة (هي والبحر) التي كتبت بضمير الحاضر المتكلم (أنا) وإننا نجد حتى في هذه القصة قطارا ومحطة (ذات مرة صعدنا القطار ونزلنا في محطة غريبة)

ونلاحظ أن القاص قد أعتمد الجمل الفعلية في معظم مداخل القصص (طلع الولد الأسمر, نزل الفتى المراهق, نطلع الرجل الكهل, سعل الرجل الهرم) واختتمها بذات الجمل الفعلية القصيرة المفتوحة (تحول القطار الى المجهول, ركب القطار النازل, ليسقط الثلج, جلس ينتظر) مانحا نصوصه الحركة والحيوية والاستمرارية.

محطات (هي والبحر) تدعونا لركوب قطارتها, التي تأخذنا الى أماكن قصية مترعة بالأسى والتأمل والانتظار, لنعود محملين ببعض الشجن مع ذلك البائع الجوال الذي جال بنا في أنحاء المحطات الضاجة بالحيوات.
...
جريدة الثورة 21 / 4 / 2000



#صلاح_زنكنه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المتنطعون
- ثقافة الطفل
- الإسلام وثقافة العوام
- موظفون ثقافيون
- من أرشيفي القديم 15
- سماحيات 24
- مسؤولية الكتابة
- اللغة المتعالية
- مسؤولية المثقف
- الفدرالية وازمة المصطلح
- بنية الحكاية في (تيمور الحزين)
- # الأدب و الفعل الإنساني # حين تتوقف الكتابة أمام اللغز الأب ...
- # شاعر وقصيدة # دع أمريكا تكن أمريكا
- الأدب والحياة
- # من أرشيفي القديم # 14
- هواة الأدب مهلا
- المبدع ومعادلة السعادة والألم
- مرثية الذات في الظل الأنيق
- النقد والإنصاف النقدي
- # من أرشيفي القديم # 13


المزيد.....




- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صلاح زنكنه - محطات الطفولة والكهولة في (هي والبحر)