محطات الطفولة والكهولة في (هي والبحر)

صلاح زنكنه
salah_baran@yahoo.com

2021 / 11 / 23

أصدر القاص سعد محمد رحيم إبان الحرب العراقية الايرانية روايتين ومجموعة قصصية استلهمت موضوعة الحرب واشكالاتها, وعدت هذه الأعمال في حينها من الأدب التعبوي الذي اتسم بطابع الانفعال واستذكار الحالات البطولية في جبهات القتال, متساوقا مع الفعل البطولي للجند الذين دافعوا عن حياض الوطن بدمائهم, واعقبها في مطلع التسعينات بمجموعة قصصية ثانية (ظل التوت الأحمر) التي رسخت تجربته القصصية.

وفي عام 2000 أصدر مجموعة جديدة بعنوان (هي والبحر) وكان حريا بالقاص أن يسميها (محطات) ذلك أن مفردات المحطات والقطارات وسكك الحديد قد استحوذت على متن القصص قاطبة دون استثناء, كما سنرى لاحقا, أي أن وحدة الموضوع وهيمنة شخصية محورية واحدة والمكان الواحد (المحطة) في جميع القصص الست تحيل دلاليا الى (المحطات) دون (البحر) بل حتى عنوانات القصص توحي وتؤكد على ما ذهبنا اليه (محطة الشروق, محطة الشقائق, محطة الرغبة, محطة الثلج, محطة الغياب) في حين حملت القصة السادسة عنوان (هي والبحر)
في القصة الأولى ثمة ولد أسمر يعمل بائعا جوالا, يبيع البسكويت والبالونات في محطة مدينته الصغيرة, وهناك يرى للمرة الأولى في حياته شرطيا (فيقبض الخوف على أعصابه وتتنمل رجلاه) لأن أمه كانت تهمس في أذنه في الليالي الحالكة الظلام (نم وإلا يأتي الشرطي ويحبسك) وبما أن أباه كان محبوسا في مركز الشرطة, لذا كانت أمه تتنبأ له (ستكون بائعا جولا مثل أبيك, وسيجعلك القطار تخبر الدنيا وتتعلم) وهكذا يصعد القطار (ذلك الشيء الطويل الضخم يسير على السكة) عارضا بضاعته, وليأخذه نحو المجهول كما تختتم القصة.

وفي القصة الثانية الشخصية ذاتها وقد غدا الولد يافعا, فتى مراهقا في الخامسة عشرة من العمر, ينزل في محطة ما, هي أبعد محطة يصل اليها منذ خمس سنين, هو الذي خبر محطات كثيرة أثناء تجواله عبر المحطات كبائع جوال مازال يبيع (العلك والبسكويت) وقد مات أبوه في السنة الماضية بعد أسبوع من خروجه من السجن كما يخبرنا الراوي.

ومثلما نجد في القصة الأولى صبية, يسألها الولد عن الرجل الذي يعتمر قبعة إن كان هو سائق القطار؟ فتخبره (هذا شرطي يا غبي) نجد في القصة الثانية فتاة تجلس على دكة اسمنتية, يسألها (أين نحن؟) لتجيبه باستهزاء (نحن في هذه الدنيا) وشيئا فشيئا يألفها ويعقد معها صداقة, يعطيها اللبان والبسكويت, وتعطيه (ببسي كولا) مقابل ذلك, فيهيم بها سرا, وتسخر منه علنا, ويتعذب كونها فاتنة وعصية, لها شعر طويل وجسد آسر, بيد أنها ترفضه لأنه في الخامسة عشرة وهي في الثانية والعشرين, وحين تتركه ناعتة إياه (مسكين أحمق) يستحضر جسدها في مخيلته (حارا هائما, فيجد جسده دبقا مستذرفا يتصفد عرقا, محاولا أن يرد لنفسه اعتبارها وهو مترع بالبكاء)

ويغدو هذا البائع في القصة الثالثة رجلا نحيلا, وقد مر عشرون عاما على تجواله في المحطات والقطارات, وأن أمه قد ماتت في السنة الماضية, وأنه ينتظر كالعادة (أنا دائما أنتظر) يقول له حارس المحطة (كلنا ننتظر, ومن لا ينتظر شيئا, ينتظر الموت) وفي هذه المحطة أيضا يتعرف الى امرأة, ويخبر للمرة الأولى طعم الأنثى ونشوة الجنس وانتشاء الخمر, ويتلمس معنى السعادة في بيت فاره لامرأة وحيدة وغنية وشهية, بيد أنها (مومس) فيرجع القهقري الى حيث المحطة.

ونجد هذا البائع الجوال في القصة الرابعة وهو ينتظر القطار الذي تأخر عن موعده, والثلج ينث عليه وقد غدا كهلا يبيع أشياء مهربة (قمصانا ومواد تجميل وملابس داخلية) هكذا يخبر المرأة الشابة وهو يبيعها أحمر الشفاه, وهناك عجوز تقضم كسرة خبز وتثرثر, وجنود بملابس الميدان (لولا الجنود لبقيت القطارات فارغة)

وفي المحطة الأخيرة, القصة الخامسة, نراه شيخا هرما حاملا صندوق بضاعته, وينزل في محطة نائية, ليست له فيها ذكريات, ولا يعرف فيها أحدا, ويكتشف من خلال حارس المحطة الأشعث, أن القطارات لا تصل الى هذه المحطة وأنها محطة مهجورة, لكنه موقن أنه جاء الى هذه بالقطار (أهو وهم؟ ترى أين ذهبت القطارات والعمال والشرطة والناس, لا شيء سوى عواء الذئاب وبنات آوى وتأوهات الحارس المريض الذي يحتضر في زمهرير البرد) والذي يخبره (لا أحد هنا, غير ولد أسمر يجيء بين حين وآخر) ثم يموت الحارس بالقرب منه, ويدفن جثته, ويجلس ينتظر, ينتظر ماذا؟ القطار؟ الولد الأسمر؟ الموت؟ لا يخبرنا القاص وهذا سر نجاحه, ليجعلنا ننتظر معه.

نستنج إذاً أن الشخصية القصصية في هذه القصص الخمس هي شخصية واحدة, البائع الجوال عبر خمسة أطوار - مراحل - محطات (صبي ثم فتى مراهق ثم رجل ناضج ثم كهل ثم هرم) وتكاد هذه القصص تنحو منحى روائيا, لا لتواشج القصص ونمو شخصيتها المركزية في مكان محدد (المحطة) وإنما لتوافر البنية السردية (الروائية) في كل قصة من القصص, وهي سمة بارزة في قصص سعد محمد رحيم, وهذا يبدو جليا في قصته الطويلة (بيت العناكب) التي جاءت بأربعين صفحة.

وقد كتب سعدا القصص الخمس بضمير الغائب (هو) مستعيرا ببراعة بتقنية عدسة الكاميرا في متابعة الشخوص والأحداث والمشاهد, وبصيغة راوٍ محايد وليس كلي العلم, هذا باستثناء القصة السادسة (هي والبحر) التي كتبت بضمير الحاضر المتكلم (أنا) وإننا نجد حتى في هذه القصة قطارا ومحطة (ذات مرة صعدنا القطار ونزلنا في محطة غريبة)

ونلاحظ أن القاص قد أعتمد الجمل الفعلية في معظم مداخل القصص (طلع الولد الأسمر, نزل الفتى المراهق, نطلع الرجل الكهل, سعل الرجل الهرم) واختتمها بذات الجمل الفعلية القصيرة المفتوحة (تحول القطار الى المجهول, ركب القطار النازل, ليسقط الثلج, جلس ينتظر) مانحا نصوصه الحركة والحيوية والاستمرارية.

محطات (هي والبحر) تدعونا لركوب قطارتها, التي تأخذنا الى أماكن قصية مترعة بالأسى والتأمل والانتظار, لنعود محملين ببعض الشجن مع ذلك البائع الجوال الذي جال بنا في أنحاء المحطات الضاجة بالحيوات.
...
جريدة الثورة 21 / 4 / 2000



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن