نقاش مع مشاري الذايدي عن الموديل الغربي


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 00:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تحت عنوان "هل الموديل الغربي مقدس؟" نشر الصحافي السعودي مشاري الذايدي في جريدة الشرق الأوسط، بتاريخ 22-12-2025، مقالة يمكن تصنيف عنوانها، بلغة البلاغة، كسؤال إنكاري يتضمن جواباً سلبياً ينكر قداسة الموديل الغربي. نوافقه الرأي، مع التأكيد أنه لا شي مقدس إذا كان من صناعة البشر، لكنّ لنا على أفكار المقالة ملاحظات اعتراضية.
هو يستند إلى قول لماكس فيبر مفاده"أنَّ تجربة الدول الأوروبية من الصَّعب تكرارها في مناطق أخرى". إذا كان ماكس فيبر يقصد بكلامه أمر "تدبير الدولة وشأن الناس وإصلاح أمر العباد والبلاد" فقوله مردود، لأن التجربة الأوروبية كلها تكرار لما دشنته الثورة الفرنسية وعمّمه نابليون بالقوة على القارة قبل أن تهزمه في واترلو، ثم تبنت مشروعه في إقامة الدولة الحديثة، التي صار الحاكم فيها، على نسخها المتعددة، يمثل الشعب بعد أن كان يمثل الله على الأرض في الحضارات الدينية، وبعد أن كان هو الله أو ما هو بمثابته في حضارات ما قبل الأديان.
صحيح أنه لا توجد"وصفة صالحة للجميع، جميع البشر وأن ما يشتغل في مكان ليس بالضرورة أن يشتغل في مكان آخر"، على ما ورد في المقالة، غير أن التاريخ المكتوب يشير إلى أن قارتي أوروبا وآسيا، حيث سادت ثقافة الأديان السماوية وغير السماوية كانت تعيش في حضارة الأرض أو حضارة الخراج بحسب تسمية المصري سمير أمين، أي أنها كانت تعتمد على الزراعة، وكان الحاكم فيها، خلال مرحلة ذروتها، هو من يملك الأرض بصفته ممثل الله على الأرض ولهذا شاعت فكرة "الملك لله" وصارت بمثابة القانون الذي بموجبه كان السلطان العثماني يقتطع الأراضي ويوزعها على من يحمل رتبة الإقطاعي أو المقاطعجي في لبنان، أو النبيل في فرنسا أيام الملك أو الدايميو في اليابان زمن الأمبراطور والساموراي أو الأمير في روسيا أيام القيصر أو البارون في بريطانيا أيام الملك.
بداية انهيار هذه الحضارة كان في أوروبا لتنشأ على أنقاضها حضارة جديدة إسمها الرأسمالية، من علاماتها التحول من الزراعة إلى الصناعة، ومن علم الغيب إلى الأكاديميات ومراكز الأبحاث والعلم الوضعي، ومن مجتمع الرعايا إلى مجتمع المواطنين. ضمن هذه القوانين العامة اختارت كل دولة من الدول الناشئة نظامها السياسي، فتحول بعضها إلى جمهوريات فيما حافظ بعضها الآخر على النظام الملكي لكنها جميعاً انتقلت إلى الديمقراطية وحكم الشعب.
هذه الحضارة الجديدة صارت "وصفة صالحة للجميع، جميع البشر"، بل قدراً لا هروب منه، لكن من بشائرها مناداتُها بالحرية، ما يعني أنها تركت لكل شعب أن يختار ما يناسبه شرط ألا يتعارض مع تلك القوانين العامة، وقدمت نماذج وأنظمة متنوعة من الجمهوري في فرنسا والملكي في بريطانيا والبلدان السكاندينافية والأمبراطوري في اليابان. غير أن رفض الالتزام بالقوانين العامة الثلاثة أو بأحدها، في الاقتصاد أو في الفكر أو في السياسة، أوقع الرافضين في التخلف عن مواكبة ركب الحضارة، أو في صراعات وحروب أهلية من أهم أسبابها هوس السلطة.
ضمن هذا المنظور لمسار التطور في القرون الثلاثة الأخيرة، لا تصح مقارنة "الموديل الغربي" لا "بزمن الخلفاء الإربعة ثم بمطلع العهد الأموي" ولا بعد ذلك "بالعباسي والتركي والمملوكي" لأن الموديل الغربي المقصود ينتمي إلى الحضارة الرأسمالية لا إلى الإقطاعية. تصبح المقارنة مجدية إذا أُقيمت بين طرق الانتقال من حضارة إلى أخرى. معها يمكننا أن نختار طريقاً غير تلك التي سلكتها أنظمة رفضت ولوج الرأسمالية من بابها السياسي مع أنها اعتمدت صندوقة الاقتراع التي تساءلت المقالة عما إذا كان قد حوّلها الموديل الغربي إلى "صنم مقدس".
غير أن صندوقة الاقتراع في البلدان العربية لم تحمل من الديمقراطية إلا الإسم، فحتى في بلدان الانتخابات والاقتراع السري كان يتم اختيار الحاكم بالتعيين أو بالوراثة، نموذجها الأسوأ شعاره الأسد إلى الأبد وهو الذي أفرغ الديمقراطية في لبنان من مضمونها بالاستناد إلى ميليشيات يمينية ويسارية، مسيحة وإسلامية. قبل أن تكون الديمقراطية صندوقة اقتراع هي في البداية وقبل أي شيء، الاعتراف بحق الاختلاف بالتنوع والتعدد. فضلاً عن أن كلام ماكس فيبر قد يندرج في سياق المركزية الأوروبية والاستشراق الذي يزعم أن القلب للشرق والعقل للغرب.
أما إذا كانت المقالة تسويغاً لاستمرار الأنظمة الملكية في بعض بلدان العالم العربي، فإن نهضة الخليج عموماً والمملكة العربية السعودية خصوصاً، ولا سيما في مشروع الأمير محمد بن سلمان، هي التجسيد الحي للدخول في عصر النهضة والحداثة وفي الحضارة الرأسمالية من البابين الاقتصادي والعلمي. تبقى الديمقراطية وأشكالها خياراً تحدده شعوب تلك البلاد ضمن أية صيغة مبتكرة أو مستلهمة من الجمهوريات كما في فرنسا أو أميركا أو الملكيات كما في بريطانيا، صيغة تخلص أمتنا من الاستبدادين السياسي والديني.