المهزومون


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 02:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

شكلت حربا الطوفان والإسناد نهاية كارثية لأحداث القرن وبها ختمت هزائم مريعة لأربعة مشاريع ما زال أبطالها يعاندون ويعيشون حالة إنكار. مشروع التحرر الوطني وذراعه العسكري الكفاح المسلح، مشاريع الإسلام السياسي، مشاريع القومية الشوفينية ما فوق الوطنية، أو الطائفية ما دون الوطنية كالتقسيم والفدرالية.
فكرة التحرر الوطني من الاستعمار ابتكار عممه الاتحاد السوفياتي على الأحزاب الشيوعية التي كانت تدور في فلكه، وقد ظلت صالحة لفترة قصيرة، لأنها طرحت في نهاية الاحتلال الأوربي للعالم، إذ كانت قد تحررت، بعد الحرب العالمية الثانية، معظم البلدان المستعمرة، ولم يبق منها سوى عدد قليل من بينها الجزائر وفيتام وجنوب أفريقيا، وحين تحررت هذه ظلت فلسطين المحل الوحيد لاختبار الفكرة، فتحولت إلى بؤرة تجمعت فيها وبإسمها كل الحركات المسلحة كالألوية الحمراء الإيطالية والجيش الأحمر الياباني ومجموعة بادر ماينهوف في الجيش الأحمر الألماني.
بانهيار الاتحاد السوفياتي فقدت الفكرة معيلها وملهمها والمبرر الخفي لوجودها، إذ إنها كانت تصوب على الاستعمار لا لأنه عدوان على حق الشعوب في تقرير مصيرها فحسب، بل لأنه صنيعة الرأسمالية وأحد وجوهها البشعة ولا سيما بعد بلوغها أعلى مراحلها، أي الإمبريالية بحسب التعبير اللينيني. وكانت، من خلال تصويبها على الاستعمار والرأسمالية، ترمي إلى إزالة العقبة امام الانتقال إلى الاشتراكية. حل التنظيم العسكري لحزب العمال الكردستاني طوعياً شكّل آخر انعكاسات هذا الانهيار، أما المقاومة الوطنية اللبنانية، جمول، وقبل أن تستوعب صدمة الانهيار، فقد أرغمها على التراجع القسري حلف معادٍ ظاهرياً للاستعمار.
الهزيمة الثانية منيت بها الحركة القومية التي تشكلت من أحزاب "تقدمية" استولت على السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، ونادت بالوحدة العربية لكنها فشلت في الحفاظ على وحدة كل بلد من بلدانها، وتجمعت حول قضية فلسطين وخاضت بإسمها حروباً خاسرة، وبلغت أنظمة الانقلابات العسكرية فيها نهاياتها الكارثية بحروب أهلية في كل بلدان الجمهوريات الوراثية وبسقوط مريع لنظامي البعث في العراق وسوريا.
الثالثة هزيمة مشاريع الإسلام السياسي المعاكسة مجرى التاريخ، بنموذجها المتخلف في أفغانستان ونموذجها السلطوي في إيران والوحشي في تجربة داعش، وقد تجمعت كل مساوئها في تنظيمات عممت ثقافة الموت والعنف المسلح ضد الشعوب والدول والمجتمعات وضد التقدم والعلم وضد الحرية. بالطوفان والإسناد تكون هذه الحركات قد أطلقت رصاصة الرحمة على نفسها وانتحرت.
التيارات الثلاثة المهزومة هذه لم تعترف بالأوطان الحديثة، بل سعت إلى إقامة كيانات فوق وطنية، أمة عربية أو إسلامية أو أممية كونية. كم من توترات وصدامات حصلت بين أنصار الوطن عربي والقائلين بأوطان عربية. في مقابل توسيع جغرافية الأوطان بحثاً عن أمة أو أممية، ظهر من يدعو إلى تقليصها كالتقسيميين والفدراليين الذين اختاروا هم أيضاً طريقاً معاكساً لمجرى التاريخ، ذلك أن أهم إنجازات الحضارة الحديثة هو اختزال المسافات بالمواصلات ووسائل الاتصال والتواصل، ما جعل الكرة الأرضية كلها قرية كونية.
هؤلاء وأولئك يرمون الأوطان التي تم ترسيمها في سايكس بيكو بالشكوك ويرون فيها كيانات مصطنعة، حتى قيل عن لبنان إنه خطأ تاريخي. غير أن تجربة قرن من الزمان أثبتت أن الثغرات التي تشكو منها هذه الكيانات ليست ناجمة من تعدد مكوناتها بل من سوء الإدارة السياسية لهذا التعدد، ما يعني إدانة الحاكم لا النظام.
لم يكن التعدد سبباً لأزمةٍ ولا الصفاء الديني أو الإتني شكل ضمانة للوحدة. أكثر الحروب الأهلية ضراوة نشبت بين أهل الدين الواحد كما في الجزائر وأشدها كارثية تلك المندلعة داخل الجيش السوداني. المبادرون إلى معالجة التعدد بإلغائه انهزموا هم الآخرون. تلك خطيئة شارك في ارتكابها سياسيون ومثقفون وأحزاب.
ماذا لو جربنا مصطلح الاستبداد كمفهوم إجرائي لتفسير التخلف، بديلاً من تلك التي استخدمها المهزومون؟ لا شك في أنه سيملي عليهم إخلاء الساحة لمشروع وحيد قابل للحياة هو مشروع الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص، دولة الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.