في نقد خطاب سمير جعجع


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 22:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

قليل المهرجان من أجل الشهداء وأكثره من أجل الخطاب. عبارة فيها قليل من المبالغة وكثير من القسوة. بعض من في القوات قادة أو محازبين يعرفون أنني أقول ذلك من موقع محب. أعاب عليّ جهلة الثنائي وذبابه الإلكتروني زيارتي معراب وقولي المتلفز إن جعجع أكثر السياسيين حكمة لأنه، منذ تحريره من السجن، ما قال إلا الحرص على وطن يمتد، "لا من المدفون إلى الأولي بل من القليعات إلى القليعة"، وما زلت عند رأيي رغم طنين ذبابهم، لأنني منذ الطائف لم أتوقف يوماً عن الدعوة إلى قيام دولة يعيش فيها المختلفون وتنتظم اختلافاتهم تحت سقف الدستور والقوانين.
في كتابي الأخير، "في نقد الحرب الأهلية" ذكرت أن سمير جعجع واحد من خمسة أجرى كل منهم مراجعة لدوره في الحرب الأهلية، لكنها مراجعات لم تكتمل، لا لتقصير منهم بل لأن الوصاية أقفلت أبواب المراجعة وفتحت أبواباً على نسخ مصغرة من الاشتباكات لم ينج من دخولها حتى الأكثر تضرراً منها، وأخطر ما في هذه النسخ أنهم استخدموا فيها سلاحاً أكثر خطراً على السلم الأهلي من السكاكين والبنادق والمدافع، عنيت به سلاح التعصب الحزبي، والقوات أكثر من استخدمه في معاركه السياسية والنيابية والبلدية، والتعصب الطائفي الذي لم ينج من الوقوع فيه حتى الأكثر علمانية منهم.
لا جديد في الخطاب سوى أنه قيل في مهرجان لتكريم الشهداء. جمعت فيه كل أفكار السجالات اليومية مع حزب الله، وكلها صحيحة، المكررة في مقالات منشورة في وسائل الإعلام والتواصل، بعضها رصين وبعضها ساخر وبعضها تهكمي، تتناول ذرائع حزب الله تمسكاً بسلاحه في مواجهة إسرائيل بعد حرب خاسرة معها، واتهامه بالخيانة والعمالة كل رأي مخالف، ولم يسلم من التهمة رؤساء ووزراء وصحافيون، وإيهام مؤيديه بأن الخطر الداهم على لبنان يأتيه من الشرق الداعشي أو من إسرائيل اليهودية أو من الغرب المتصهين أو من المتآمريْن الكبيرين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، بحسب تعبير حزب الله،الخ. ليختم جعجع بقوله "إن هذا السلاح لا يحمي ولا يبني ولا يردع".
يعرف "الحكيم" ونعرف أن الغاية من الاحتفال بيوم الشهيد القواتي أو بيوم الشهيد الشيوعي أو بيوم شهداء حزب الله، هي بالدرجة الأولى تعبوية حزبية وتحشيدية، وأن لا شيء يعوض عن فقد عزيز غاب عن هذه الدنيا، خصوصاً الذين ماتوا على غفلة منهم. أياً تكن وظيفة المهرجان، فالأحياء هم المستفيدون، لذلك فإن من المراجعة أن نعيد النظر بأشكال التكريم، ومن بينها عدم التبرؤ من مسؤولية دفع المتحمسين إلى خوض الحروب ولا سيما الأهلية منها.
"خمسون عاماً ونحن نناضل ليبقى لبنان". والحقيقة أنها لم تكن كلها نضالاً من أجل الوطن، بل كان لكل مقاتل على الجبهات قضيته. حين انزلقوا إلى الحرب الأهلية رموا خلفهم قضية الوطن والدولة. إذ كان لكل منهم وطن يخص حزبه ودولة لا تشبه دولة سواه. الوطن القومي المسيحي، وطن القومية العربية، دولة البروليتاريا والدولة الإسلامية ودولة الولي الفقيه. كل من حمل سلاحاً في الحرب الأهلية حمله انتصاراً لدولة الاستبداد التي زينوا له صورتها، وضد الدولة الدستورية التي يعيش تحت خيمتها المختلفون والمتعددون.
"عقدان من الزّمن بين الأعوام 1949 وحتّى 1969 عشتموها بأمان وسلام إلى أن ظهرت المقاومات المسلّحة في الجنوب وفتحت عليكم أبواب جهنّم ولم تقفل حتّى السّاعة." هذا ليس مراجعة يا حكيم. أول انتهاك للسيادة الوطنية ارتكبه كميل شمعون أحد الرؤساء الكبار الذي غطى خطأه السياسي على إنجازاته التنموية التي لا تحصى ولا تعد ، حين انخرط في المعركة إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية لمحاربة الاتحاد السوفياتي والشيوعية. أدخل لبنان في معركة أكبر من وطننا الناشئ. وأول من أخرج الطائفية الكريهة من قمقمها هو الحلف الثلاثي الذي حارب فؤاد شهاب بذريعة تحدره من أصول إسلامية. حصل ذلك بين 1949 و1969، ووظفته الأحزاب اليسارية والقومية في احتضان أول سلاح خارج الشرعية في لبنان، لكن سلاح الحرب الأهلية كله، يمينا ويساراً، لا يمكن أن يكون شرعياً، لأن الحرب الأهلية حرب ميليشيات والميليشيات هي بالتعريف تنظيمات ضد الدولة وحربها حرب على الدولة. ثم كيف تصنف حرب الجبل بين القوات والطائفة الدرزية أو حرب التحرير أو حرب الإلغاء أو الحرب بين أجنحة القوات اللبنانية؟ ومثلها حروب أخرى مثل حرب العلمين في بيروت أو حرب الثنائي قبل أن يترأسه الأخ الأكبر.
"لا نرضى أن يصيبكم ما أصابنا في حقبة الوصاية السورية بعد أن سلمنا سلاحنا". من المؤكد أن هذا الكلام يهدف إلى طمأنة حزب الله وتشجيعه على تسليم سلاحه للجيش والموافقة على حصريته بالدولة، لكن حزب الله سيفسره على هواه، أي على وجه الحذر والخوف من أن "يصيبه ما أصابكم".
"آن للشيعة أن يفكوا أسرهم بيدهم". القصد من هذا الكلام شريف من دون شك. لكنه ينطوي على الاعتقاد المغلوط بأن لأزمة الطائفة، أي طائفة، حلاً طائفياً. غير أن النجاح لن يكتب لأي حل إن لم يحمل طابعاً وطنياً. المختبر العملي لحل أزمة الاستعصاء "الشيعي" واحتكار الثنائي للتمثيل البرلماني هو الانتخابات النيابية. ففي ظل النظام المعتمد حالياً، على الحريصين على حماية التنوع ألا يرتكبوا ما ارتكبته حركة 14 آذار يوم تحالفت مع الثنائي ضد القوى المعارضة للثنائي في المناطق ذات الأكثرية الشيعية.
العودة إلى النصوص الدينية في القضايا السياسية مضرة كاستقواء رجال الدين بأهل السياسة. أبرز تجسيد شيعي لهذه الظاهرة مواقف المفتي الجعفري الممتاز. ربما من باب عدم انتباه الحكيم، تبدو دعوة الشيعة إلى "فك أسرهم بأيديهم" تكراراً للدعوة ذاتها التي وجهها صحافيون ومراقبون عرب اتهموا فيها المعارضين الشيعة بالجبن. وربما من باب سوء ظننا أن نرى في استحضار آية من الإنجيل" لن تكون إلا مشيئته، كما في السماء كذلك في الأرض" ما يشبه مشاركة الملائكة نعيم قاسم في حروب حزب الله.
المعارضة كما الحلول، إما أن تكون وطنية أو لا تكون.