حبيب صادق وسيمون كرم والممانعة


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 8546 - 2025 / 12 / 4 - 03:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بدل أن تكون مواقع التواصل مساحة للتواصل حقاً، أي للنقاش والحوار وتفاعل الآراء، تحولت في لبنان إلى صندوقة اقتراع يختصر بعضهم مشاركته فيها بالموافقة أو بالرفض حيال تصريح أو رأي أو زيارة، بينما يستفيض البعض الآخر بالشرح والتفصيل والتفسير والتعليل والتبرير.
بعض تلك المواقع تختار للتعبير عن رأيها السلبي أو عن اعتراضها لغة الشتيمة والكلام النابي، من غير أن يدري أصحابها أن لغتهم لا تحترم آداب الحوار والنقاش، إذ يستسهلون إطلاق الأحكام المبرمة من غير حجة ولا دليل، بديلاً من مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل. فضلاً عن أن الخطاب الشتائمي ليس محصوراً بمن يجهل قواعد العربية فيكتب بغير حروفها وينزلق إلى لغة زقاقية وإلى المس بالأعراض والشرف والسمعة، بل إن بعض المتعلمين من أصحاب الشهادات، يتفوهون بما يشبه الشتيمة حتى لو اختاروا كلاماً مهذباً، حين لا يدققون بمعلوماتهم ويبنون مواقفهم على جهل وعدم معرفة.
لا تريد هذه المقالة الانتصار لرأي ضد آخر، بالموافقة أو بالاعتراض على قرار رئيس الجمهورية. هذا أمر يحتاج إلى مقالة من نوع آخر. ما تريده هو تصحيح معلومات مغلوطة بنى عليها الشتامون أحكامهم.
إذا كان موضوع المفاوضات هو أصل الموضوع وفصله، فعلى من أرغى وأزبد وشخصن القضية وصوب على السفير سيمون كرم وأطلق عليه سهام كلام مقذع واتهمه بالعمالة، أن يعود إلى صلب الموضوع. ليست المرة الأولى التي تجرى فيها مفاوضات بين لبنان وإسرائيل. المرة الأولى في فندق ليبانون بيتش في خلدة وأفضت إلى اتفاق 17 أيار. لم يبرم الاتفاق يومذاك. لم يوقع عليه رئيس الجمهورية وأسقطه البرلمان بأمر من النظام السوري.
الثانية في التسعينات، بعد عناقيد الغضب ومجزرة قانا، مفاوضات غير مباشرة أيام حكومة رفيق الحريري أفضت إلى اتفاق بين إسرائيل وحزب الله على عدم التعرض للمدنيين. بعدها مفاوضات متكررة لتبادل الأسرى، بين حزب الله وإسرائيل أيضاً بوساطة ألمانية، ثم مفاوضات عسكرية بعد التحرير لترسيم الخط الأزرق برعاية قوات الطوارئ الدولة، ثم مفاوضات بين الحكومة اللبنانية ومجلس الأمن أفضت إلى اتفاق 1701، الوسيط مع حزب الله فيها هو رئيس البرلمان نبيه بري.
المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية انتهت بفضيحة التخلي عن الحقوق اللبنانية وقد تولى التحضير لها رئيس البرلمان وأدارها الثنائي الشيعي من وراء الستار، أما الاتفاق الأخير على ما سمي وقف الأعمال العدائية فقد أوكل حزب الله إلى الأخ الأكبر توقيعه بمشاركة حكومة نجيب ميقاتي والولايات المتحدة الأميركية.
الاعتراض على مبدأ المفاوضات والامتناع عن خوضها مصدره النظام السوري، مع أنه فاوض وتوصل إلى اتفاق حالت دون توقيعه عشرة أمتار على ضفة طبريا، ومنه اشتقت الممانعة، لأن نظام الأسد اختار الامتناع عن توقيع اتفاقية مع إسرائيل، أسوة بمصر والأردن، بانتظار تحسين شروطه للتفاوض، ومن تلك الشروط أن تبقى المقاومة إلى الأبد على غرار الأسد إلى الأبد، وأن يحارب النظام السوري حتى آخر لبناني وحتى آخر فلس إيراني، ولذلك لم يكن سعيداً أبداً عندما رأى الجنوب اللبناني محرراً من الاحتلال.
"ممانعة" النظام السوري الانسحاب الإسرائيلي لم تكن صريحة، لكن عدم موافقته على دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب لم تخف على أحد، وهي مهمة وافق حزب الله على أن يتولاها بعد التحرير، وحين أسقط في يده ودخل الجيش أطلق على مريديه في القرى إسم الأهالي، وأوكل إليهم اعتراض قوات اليونيفيل، وإلى من يشبههم تنظيم مظاهرات ضد المفاوضات.
النظام السوري كان يريد أن يحارب بغير الجيش السوري ومن خارج الأراضي السورية. لو كان همه تحرير الجنوب لعمل على تحرير الجولان وأعاد إعمار القنيطرة. همه، على ذمة الطبيب السوري- الألماني جون نسطة، إقامة دولة بني الأسد على غرار بني بويه وبني حمدان، وتمثلاً به بات أمراً لا يرقى إليه الشك أن حزب الله هو الآخر ينشد، بعد تحرير لبنان وتحرير القدس، بناء دولة ولاية الفقيه.
في عصر جبهة الصمود والتصدي قرر النظام السوري البقاء في موقع الصمود واختار أن يتصدى فحسب لمشاريع التسوية المطروحة، التي لا تعني له غير الاستسلام. امتنع عن فعل أي شيء بانتظار توازن استراتيجي لم يعمل على تحقيقه. أمتناعه هذا أو ممانعته ليست سىوى استسلام مبكر أو استباقي. بالتأكيد لم يكن هذا ما تريده المقاومة في لبنان. حاول فرض استراتيجيته هذه على جمول، وعندما رفضت المقاومة الوطنية ضيق الخناق عليها. أما المقاومة الإسلامية فاختارت المهادنة معه بدافع انتظاري أيضاً. والمنتظر عندها هو المهدي.
أما عن علاقة سيمون كرم بحبيب صادق فالذين شتموا يجهلون حقيقتها. أنهى السفير كرم مهمته الدبلوماسية بنفسه، بعد أن لاحقته أجهزة النظام السوري حتى داخل واشنطن. حين عاد كان حبيب صادق صديقه الأقرب. هما شريكان في الهم. موقف وطني سيادي واحد في رجلين. ضد كل تدخل خارجي صديقاً كان أم شقيقاً أم عدواً. حبيب صادق النائب الوحيد الذي لم يدخل إلى الشام عن طريق الخط العسكري ولم يقم بزيارة عنجر طيلة حياته البرلمانية والسياسية. سيمون كرم طاردوه من موقعه كمحافظ للبقاع ثم لبيروت، ثم كسفير للبنان في واشنطن. نجا حبيب صادق بأعجوبة من محاولة اغتيال بالنار، ونجا سيمون كرم من تهديد بالقتل في واشنطن ومن اغتيال سياسي من جماعة الممانعة في لبنان. التقيا في رحاب المجلس الثقافي وفي المنبر الديمقراطي مع أحرار لبنان دفاعاً عن الثقافة وحرية الفكر وعن التنوع والتعدد وذوداً عن الوطن في مواجهة العدو وعن سيادة القانون ضد منتهكيه من سياسيي الداخل. كنا، نحن رفاق حبيب في المجلس الثقافي شهوداً على ذلك.
عندما قررت إسرائيل الانسحاب من جزين وتسليم المنطقة إلى الجيش اللبناني رفض النظام السوري واتهم كل من يوافق على انسحابها الجزئي بالعمالة، لأنه لا يريد أي انسحاب جزئياً كان أم كلياً. فإذا كان هذا هو معياره، فما هو معيار اللبناني من مريديه؟ يقول أحمد علي زين، مات الأب وظل أتباعه اللبنانيون يضربون بسيفه، وهرب الابن وما هربوا ولا خجلوا وبدل أن يعتذروا ما زالوا يتمادون.
بعد خروج الجيش السوري من لبنان قلت حرفياً في مقالة منشورة في جريدة النهار، "أن على الشخصيات التي نبتت من دون جذور، و ما كان لها أن تظهر على ساحة العمل العام لولا ارتباطها بأجهزة المخابرات(وهاب، قنديل، عضوم، على سبيل المثال)، أن تقرر الانسحاب والانكفاء إلى أعمالها الخاصة.
وأن على الأحزاب التابعة لأجهزة المخابرات السورية، والأحزاب الصغرى والتجمعات التي تشكلت تحت خيمتها أو برعايتها أن تحل نفسها وتتحول إن شاءت، إلى جمعيات خيرية، وتنضم إلى مؤسسات المجتمع المدني العاملة في حقول الصحة والبيئة والثقافة والعمل الإنساني. وإذا لم تكن قادرة على القيام بمثل هذا التحول فعليها أن تمنح نفسها إجازة، وتنسحب ملتحقة بالجيش السوري ومخابراته، لتفسح في المجال أمام اللبنانيين في بناء دولة القانون بعيدا عن سطوة الأجهزة وسياسات القهر الذي مارسته ضد الشعب اللبناني، وضد الحرية وضد الدولة والسيادة.
اليوم لم يعد هذا كافياً. فهل ينفع تنبيههم أو تذكيرهم ومن يشبههم بأن ما فات من نهج الممانعة قد فات وأن كل ما هو آت آت، وأن التاريخ لا يمشي القهقرى، وأن الوطن هو أقدس الأقداس؟