هل يتعقلن أهل النظام في لبنان؟


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 10:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ليس رداً على كتاب"عقلنة النظام السياسي اللبناني" للدكتور عصام سليمان(دار النهار للنشر)، بل استباقاً لمحاولات تفسيره من جانب الطائفيين من أهل النظام بما يسيئ إلى الطوائف والأديان والمؤسسات الدستورية.
الثغرة التي قد ينفذون أو يتسللون منها هي خطأ في التشخيص. ما أجمع اللبنانيون على شيء إجماعهم على أن نظامهم طائفي. أهل السلطة والمعارضة، المتدينون والعلمانيون والملحدون، الفلاسفة والمؤرخون والسياسيون، الصحافيون والمحللون والخبراء "الستراتيجيون"، كلهم "الدقة على الرقصة"على ما يقول المثل العامي. الطائفية هي المرض. التخلص منها هو باب الخلاص الوحيد. لكن أياً منهم لم يتوصل إلى تقديم وصفة ناجعة.
بحثاً عن علاج، اقترح عصام سليمان إدخال عقلنة النظام بإدخال تعديلات على الدستور. اليسار العلماني تضامن مع الإسلام السياسي في الدعوة إلى إلغاء الطائفية السياسية. رد اليمين "المسيحي" بالدعوة إلى علمنة كاملة. مهدي عامل صوّب على اعوجاج الفكر الطائفي، أحمد بيضون كتب عن صراع المؤرخين على كتابة تاريخ لبنان، والقائمة لا تنتهي، والرائج فيها مصطلحات تتراوح بين الديني والطائفي.
الكتاب، من حيث محتواه، فصلان. الأول عن تاريخ الكيان والدولة بحثاً عن التشخيص والثاني عن عقلنة النظام. يؤكد الباحث أن المشكلة ليست في النظام بل في المسؤولين عنه، ويستعين لتأكيد ذلك بقول "للعلامة الفرنسي، ليون ديغي: قيمة المؤسسات من قيمة العاملين فيها. Les institutions valent ce que vales les hommes".
العهود الرئاسية الأولى وثلاثة عقود من الاستقرار تؤكد هذا القول. بشارة الخوري أسس دولة الاستقلال، عهد كميل شمعون كان عهد التنمية والازدهار الاقتصادي، فؤاد شهاب بنى دولة القانون والمؤسسات، "لكن القوى التي تتسلح بالطائفية أطاحت بالتجربة الشهابية الرائدة في تاريخ لبنان الحديث"
"قوى تسلحت بالطائفية" هي المسؤولة إذن عن الإطاحة بالتجربة الرائدة المبنية، بحسب عصام سليمان، على ركنين، الدولة والدستور. دولة فوق الطوائف ودستور هو "الكتاب" السياسي المقدس. هذا الاستنتاج الصحيح مئة بالمئة يصلح معياراً للمراجعة ونقد التجربة، خصوصاً في لحظة إجماع على أن الدولة هي الحل. بعبارة أخرى، موقف القوى، سلطة ومعارضة، من الدولة والدستور، هو الفيصل بين الحرص على السيادة والتفريط بها.
القائلون بأن الطائفية هي المرض هم المسؤولون عن تخريب التجربة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وعن إدخال لبنان في السجن العربي الكبير، وعن استدراج الخارج والاستقواء به بدءاً من الأسطول السادس عام 1958 إلى المقاومة الفلسطينية بعد النكسة إلى النظام السوري ثم إسرائيل خلال الحرب الأهلية.
ساهم في تخريب الدولة وانتهاك الدستور من تصرفوا كممثلين لطوائفهم لا كمسؤولين عن مؤسسات دستورية، "المتحايلون على الدستور، مشوهو المفاهيم والمصطلحات، الميثاقية والمشاركة في السلطة والتوافقية والوفاق الوطني"، الذين رأوا الأزمة في النظام فتراشقوا بشعاري إلغاء الطائفية السياسية والعلمنة لإشاحة النظر عن مخاطر تحويل الدولة إلى دويلات والدستور والقوانين إلى وجهات نظر. العوامل الخارجية لم يكن لها دور في التخريب إلا عبر أدوات داخلية.
مع أن "أداء النظام رهن بذهنية من يتولى السلطة" وأن الأزمة الأساسية هي أزمة حكم" فالذين اعتبروا أنها أزمة نظام، منهم من أعطوا الأولوية للطائفية فنشدوا الفدرلة وتحويل الدويلات إلى "مناطق حكم ذاتي على أساس طائفي لا يكون فيها ثمة مجال للديمقراطية" ومنهم من نشد قيام الدولة المدنية، فيما عمل آخرون على "استغلال العصبيات الطائفية في مآرب سياسة بغية الوصول إلى السلطة"، فكرسوا "طائفية الوظائف خلافاً لما نص عليه الدستور..."
عقلنة النظام، في نظر سليمان، تقتضي أولاً "إعادته إلى مساره الصحيح بعد خروجه عنه بسبب عدم التقيد بالدستور". وذلك "بتنفيذ ما لم ينفذ منه"، وعلى وجه الدقة، تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، ثم بتوضيح المفاهيم والمصطلحات، "الوفاق الوطني، ميثاق العيش المشترك، الديمقراطية البرلمانية، المشاركة في السلطة وهذه لا تعني غير المشاركة في بناء الدولة".
كما تقتضي العقلنة، في نظره، إدخال تعديلات دستورية خاصة في ما يتعلق "بانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة ومشاريع القوانين المستجلة ومحاكمة الرؤساء والوزراء والنواب وتوسيع صلاحيات المجلس الدستوري وإصلاح نظام الانتخابات النيابية"
لا يفتى ومالك في المدينة. يصح هذا القول بمن تولى رئاسة المجلس الدستوري، فلا نجيز لأنفسنا غير الاصغاء إليه محاضراً في التشريع وفقه القانون، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، إذا كانت عقلنة النظام لا تحتاج إلى مصطلحات من خارج الدستور والقانون، فما هي الجدوى من العودة إلى تاريخ لبنان ما قبل قيام الدولة والدستور؟ ألم يكن من الأفضل أن يترك للطوائف كتابة تاريخها وأن يطلب منها ومن مثليها في السلطة مراجعة دورها ومشاركتها في بناء الكيان اللبناني؟
تاريخ لبنان الجمهورية يبدأ بإعلان الدستور وقيام الدولة وكل ما قبله هو تاريخ طوائف ما قبل الجمهورية ولا يستفيد من استحضاره إلا الطائفيون. النظام يتعقلن من خلال تطبيق الدستور أما من ينفخ في نار الطائفية من أهل النظام فينطبق عليه قول الشاعر، لكل امرئ من دهره ما تعودا.