اجتماعيات مجالس العزاء في بعض مناطق بغداد


صوت الانتفاضة
الحوار المتمدن - العدد: 7894 - 2024 / 2 / 21 - 16:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

"سلطة التقاليد أحد اهم اشكال الهيمنة" ماكس فيبر.

عندما يتطور المجتمع يزيح عن كاهله الكثير من العادات والتقاليد التي يراها معرقلة لتقدمه، او ان هذا التقدم يزيل بالضرورة تلك العادات ويفرض اشكالا أخرى، لكنه يتمسك بتقاليده القديمة والبدائية بل وينتج او يبتدع اشكالا أخرى أكثر بدائية إذا كان في حالة من التراجع، وهذا واقع أي مجتمع يمر بحروب وواقع اقتصادي مزري وبائس وأنظمة حكم دكتاتورية سواء كانت قومية او دينية، وظروف أخرى كثيرة، هذه العوامل والظروف كفيلة بتقهقر أي مجتمع وتراجعه، ويرجع الى الأكثر بدائية وتخلفا من العادات والتقاليد، وهذه العادات تدوم ما دامت ظروفها المنتجة لها موجودة وباقية.

في بغداد، وهي من أكبر المدن في العراق من حيث عدد السكان، قاربت العشرة ملايين ساكن، هذه المدينة شهدت فترات من التحضر والتمدن، خصوصا بعد دخول عمليات التصنيع والتحديث في البنى التحتية، فقد انعكس هذا التحديث على مجمل الحياة الفكرية والثقافية والفنية والحقوقية؛ بناء الجامعات وتأسيس الفرق الفنية ودخول البث التلفزيوني وحركة أحزاب سياسية نشطة وتشريع قوانين متطورة تواكب الواقع المتقدم؛ كل ذلك وأكثر حدى بالمجتمع البغدادي ان ينتج قيما جديدة ملائمة لذلك الواقع.

لكن وكما يقول ماركس "ان الأفكار والنظم لا تدوم الا بمقدار ما تدوم العلاقات التي تعبر عنها هذه الأفكار والنظم"، شيئا فشيئا تراجع واقع المجتمع، انهارت العلاقات القديمة او فككت، خصوصا بعد ان اخذ شكل الدولة منحى ديكتاتوري "الحزب الواحد والقائد الواحد"، صار القمع علامة السلطة الوحيدة، وبدأت مغامرات السلطة -التي تحولت الى عائلية- بشن الحروب كيفما اتفق، وقد فٌرضت الدول الكبرى حصارا اقتصاديا على المجتمع، ذاق هذا المجتمع الامرين، من جهة شراسة نظام وتخلفه الذي ارجع سطوة العشائرية والقيم البدوية واخرج وقوى رجال الدين بحملته الايمانية؛ ومن جهة أخرى حصار اقتصادي موجع، توضحت مفاعيله على وجوه المجتمع؛ ثم انتهى ذلك النظام وجيء بنظام ديني قومي وعشائري اكثر تخلفا واكثر فوضوية.

إزاء واقع كهذا بدأت سلطة التقاليد الغابرة بالعودة وفرض هيمنتها، وصار المجتمع وفي بعض ملامحه قريب جدا من البدائية، وباتت الناس تلمس ذلك التغيير والتبدل، لأنها صارت هي الفاعلة الأساسية بهذه العودة، ليس بمحض ارادتها بل نتيجة تبدلات الواقع السياسي والاقتصادي، التي فرضت بالقوة ذلك التغيير.

من جملة التقاليد الكثيرة التي عادت، واخذت حيزا واسعا هي المآتم، او تقاليد العزاء، فحين يموت أحد افراد المنطقة اول ما تسمعه هو عويل وصراخ النساء، فهن أول من يقع على عاتقهن نشر الخبر عبر الصراخ واللطم على الصدور بعنف وقسوة وجرح الخدود بالاظافر، فتصاب النساء بالهياج، فهن الأكثر الما على الفقيد - اذا كان ذكرا-، فهو المعيل والحامي لهن، ودائما تسمع كلمات "خطيه، عنده بنات هواي، منو بقى ألهن، ووين راح يروحن"؛ اما اذا كانت الفقيدة انثى، فتخف وطأة الحزن بالنسبة للنساء، اما الرجال فيكتمون حزنهم، لأنه من المخجل البكاء على المرأة، أيا كانت درجة قرابتها منه.
يقوم بعض الرجال بمهمة تغسيل وتكفين الميت-إذا كان ذكرا-، وطقس الغسل هذا اما ان يكون في ذات المنطقة او قريب منها، او –وهذا الاغلب- يتم في منطقة الدفن "المقبرة"، لما لها من قدسية.

يدخلون جثة الميت داخل البيت، ويوجه نحو القبلة، ثم يصلي لفيف من اقاربه وأبناء المنطقة عليه، بعدها يخرج الرجال ليترك لبكاء النساء وصراخهم؛ ويجب حضور جميع افراد عائلته، حتى لو تطلب ذلك الانتظار؛ ثم يتم حمله ووضعه على السيارة، بترديد شعارات دينية، واغلب الأحيان اهازيج "هوسات" عشائرية، مع رفع رايات "بيارغ" العشيرة المنتمي لها، ويرافق تشييعه إطلاق مكثف للعيارات النارية، فهي بمثابة اعلان للوفاة وتعريف بأهمية المتوفي.

يأخذ بعض الرجال على عاتقهم بناء الصيوان "الچادر"، وهناك الكثير من المتطوعين من أبناء المنطقة، وهي تسمى "العونة" من الاعانة، وتعد جزءً من عملية الترابط الاجتماعي، والبعض يراها بشكل ديني "ثواب"؛ وقد عاد هذا التقليد بشكل كبير.

نساء المنطقة يتجمعن في بيت المتوفي، للاشتراك في تقديم العزاء، طبعا جميع النساء يرتدين الثياب السوداء، وتؤجر قارئه "ملاية" او "الگوالة"، ممن تملك صوتا حزينا وأدا شجيا، وتقوم بالنوح على الميت، ليزداد الصراخ والعويل.

كان مجلس العزاء "الفاتحة"، يستمر لثلاث أيام، الا ان ظروفا كثيرة طرأت قلصته الى يومان، والغي أيام وباء الكورونا، الا انه عاد هذا المجلس مقتصرا على يوم ونصف اليوم، مع بعض الدعوات -خصوصا هذه الأيام- لإلغاء الكثير من تقاليده، وبالأخص ولائم الغداء والعشاء، والتي تكلف ملايين الدنانير، وهذه الدعوات هي الان موضع ردود بين مشايخ العشائر بين رافض ومؤيد لها.

لا يمكن ايفاء هذه الظواهر الاجتماعية حقها، فهي تحتاج لدراسات موسعة جدا، للكشف عن كيفية ذهاب هذه العادات وكيفية رجوعها، أسبابها ودوافعها ورمزيتها عند المجتمع، فهذه التقاليد هي رأسمال رمزي -بلغة بورديو- تتقاتل عليه الكثير من المؤسسات –الدينية والعشائرية والذكورية- لما لها من أهمية في تثبيت دعائم السلطة ذاتها. لكن السوسيولوجيا كما يقول بورديو (تفضح الانخداع الذي يرعاه الجميع ويشجع عليه..... وهي تعلمنا مع "مارسيل موس" بأن المجتمع يخدع نفسه على الدوام).

انها محاولة للعرض والفهم ليس الا...

طارق فتحي